كتب - علي الشرقاوي:
الروائي والكاتب حُسين عيسى المحروس، هو الكاتب الوحيد، حسب ما أعلم، الذي تناول فيه سيرة الفنان البحريني الكبير يوسف قاسم، يقول عن نص «عينُ الطير» الذي كتبه أن هذا النص مستمد من عشرات الأسئلة التي حاورتُ فيها الفنان يوسف قاسم، في جلسات تجاوزت العشر بمكتبه بالرفاع الشرقي في المدة بين مارس 2001م ومايو 2001م ، ثمّ قمتُ بإعادة كتابتها على هذا النحو، بعد أن تمثلت هذه الشخصية وتمثلتُ أماكنها وأزمنتها، واستشعرت أحاسيسها.
خوف محمود المردي من أشقياء الفاضل
يقول يوسف قاسم إن ساحة حيّ الفاضل - الذي وُلدتُ فيه عام 1928م - ميدان لا نجعله يستريح إلا عندما تغيب الشمس ، يبدو لي أن أصداء أصواتنا ما زالت تملأ فضاء الحيّ.. العلب المعدنية لفاكهة الأناناس لنا فيها مآرب أخرى، هذه العلب تتحوّل إلى دراجات تحت أرجلنا تسير بنا حيث نشاء في حيّ لم أره ضيقاً حتى كبرت، وكأنّ عين الطفل تتسع لكلّ الفضاءات، وكأنّ عينين غير عيني الطفل لا تريان العالم إلاّ بحدوده التي تضيق بالفسحات، وبعض هذه العلب يتحوّل إلى مكبرات صوت لأناشيدنا. في ساحة الحيّ يخرج الطفل محمود المردي فيرانا نلعب فيعود من حيث أتى خوفاً من أن نضربه.
وفي ذكرى عاشوراء نصنع سيوفاً من الخشب.. كنا مجموعة أطفال نحمل سيوفنا وننتظر خروج مواكب العزاء في المنامة. وما إن يخرج الموكب حتى نتقدمه بسيوفنا ونسير معه. نبني لنا مأتماً صغيراً نراه كبيراً نحاكي فيه الكبار فنشعر بذوات لا تقل عن ذوات الكبار.
«معلّم القرآن» بإدارة الملا علي
ويستدرك الفنان قاسم ليقول إن معلم القرآن هو المعلم الأول، دخلته وعمري أربع سنوات، ختمت القرآن الكريم ولما أنتهِ من قراءته كلّه!! رفض أخي الذي ختم القرآن لبس السيف، والجبة، والعقال، والسير بها في موكب حول منازل الحيّ لسبب لا أعرفه، فما كان منّي إلا أن لبست كلّ ذلك، وسِير بي في أزقة الحيّ بدلاً منه.
كان لابدّ أن أختم القرآن الكريم؛ لأجد نفسي أمام مدرسة أخرى مازالت غير مرغوبة من قبل الناس في تلك الفترة، والداخلون فيها قليلون جداً. تلك مدرسة نُعِتتْ بنعوت منها: أنها مدرسة «إلحادية»، يُقال للتلاميذ فيها إنّ الأرض كروية !! وتعلل بعض الناس بعدم كفاية طفل الست سنوات، وأمور أخرى ناتجة من التعصب الديني. لكن أبي - الذي كان يعمل في بيع الكيروسين على الأهالي - لم يكن كذلك، كان متفتحاً إلى حد ّما، نشطاً لا يعرف الكسل طريقاً إليه. فبعد تخرجي بشهور في معلم القرآن، طلب منّي أن أهيئ نفسي لدخول المدرسة. وكان دخول بعض من أطفال الحيّ فيها دافعاً آخر ساهم في اتخاذ أبي هذه الخطوة. هذا رائع سوف أدخل المدرسة! في أيّ نعمة وحظ أنا. لكنّي لم أكن أعرف أنّ اسمي سيتغير في هذه المدرسة من: يوسف جاسم إلى يوسف قاسم والسبب هو: لسان بعض المدرسين السوريين والمصريين في لفظ «جاسم».
المدرسة الجعفرية والأستاذ سالم العريض
ويواصل قاسم كلامه، في المدرسة الجعفرية بدأت الدروس المكثفة ، بعد أن تأكد مديرها المصري - الذي لا يفارقه الطربوش الأحمر - أنّنا لن نغادر المدرسة للغوص أو لأيّ عمل آخر. كان المنهج يحتوي على الفقه، والتفسير، والعبادات، وتاريخ لا يمجد سوى الدولتين: الأموية والعباسية. وقرأنا كتاب «القراءة الرشيدة»، وبعض مبادئ الحساب. وبعصاةٍ غليظة طويلة اسمها «سَمْحَانة أُعدت للكسالى من التلاميذ كان الأستاذ المرحوم «سالم العريّض» يدرسنا اللغة الإنجليزية ويحملها معه أينما حلّ، ويحمل إلى عقولنا لغة نتعرف عليها للتو.
ولأنّي كنت سعيداً بدخولي المدرسة، لم تفتني دروس الموسيقى على يد الأستاذ الإيراني «أجدان» الذي أحضرته الشرطة لتعليمها الموسيقى في الصباح، وفي العصر يتطوع بتدريسنا الموسيقى في المدرسة، على يده تعلمت الضرب على طبل الترانبيت، والعزف على بعض الآلات الموسيقية المتوفرة آنذاك. ولتطبيق ما نتعلمه من دروس في الموسيقى كنتُ أخرج مع أفراد مجموعتي لنتقدم الموكب الموسيقي لعزاء مأتم بن سلّوم في ذكرى عاشوراء ونعزف آلة الكورنيت دون حرج أو تردد.
مسرحية مجنون ليلى وأداء دور الممثل والمشاهد
بقليل من الديكور الذي جلب معظمه من سوريا، وبعض الرسومات، ونافذة بدت لي حقيقية على الرغم من أنها مرسومة، كان مسرح المدرسة الجعفرية يبدأ نشاطه المسرحي الأوّل. ولأنّ المسرح جنون، والعشق مسرح لذواتنا بدأت الفرقة المسرحية بعرض مسرحية ( مجنون ليلى ). في هذه المسرحية كنت ممثلاً وجمهوراً.. ممثلاً لأوّل مرّة يشترك في تمثيل مسرحية، وجمهوراً لأوّل مرة أيضاً يرى مسرحية في حياته. هنا انتقلتُ بمسرحي الطفولي من ساحل البحر وأمواجه إلى خشبة المسرح .. لكن المسرح لم يستطع وحده إرضاء حرارة المغامرة في دمي وشبابي وحيويتي وذاتي.. فبحثت عمّا يشبع جزءاً من تلك المغامرات في المدرسة فلم أجد غير الفرقة الكشفية .. اشتركت فيها في السنة المدرسية الثالثة.
لم أكن أعرف أن المدرسة ستكون مصدر حيوية كبرى، تسري في جسدي وعقلي؛ لذا كنت أشعر ببعض الفراغ في العطلة الصيفية على الرغم من أن الفراغ في حياة الطفل يكاد يكون غير موجود. أنهيت المدرسة الجعفرية فالتحقت بمدرسة الهداية الخليفية. في الهداية .. وقبل أن يدخل علينا مدرس مادة الدين الأستاذ عبد الله بوبشيت الصف بدقائق قليلة، أقوم لأرسمه بعمامته على السبورة.. وما إن ينتهي من سؤاله عمّن رسم صورته على السبورة حتى يتبرع أحدهم بكشفي فأُساق إلى مدير المدرسة وهو نفسه الذي علمني الإنجليزية في المدرسة الجعفرية، الأستاذ سالم العريّض فيعطيني ما يناسب شقاوتي ضرباً بعصاته الغليظة.. كيف يستقبل طفل الثامنة موقفاً كهذا؟ هناك أستاذ آخر لم يسلم من الرسم على السبورة، هو مدرس الإنجليزي: الأستاذ عبد علي . كما لم يسلم شيء من صرير قلمي الرصاص عليه حتى كتبي المدرسية التي تحوّلت أوراق بعضها إلى لوحات وصفحات كأنّها من كتب أخرى لا علاقة لها بمادة الكتاب نفسه.
عامل تحت التدريب في المستشفى الأمريكي
خرجتُ أبحث عمَّا يسدّ هذا الفراغ، الذي يتكون فجأة بعد انتهاء الدراسة في الصيف.. بحثتُ عن عمل في شركة النفط فلم أوفق فطرقت باب المستشفى الوحيد في البحرين آنذاك: مستشفى الإرسالية الأمريكية .. خضت امتحاناً صعباً في اللغة لكنّي نجحت فيه بفضل تلك الدروس القوية التي يقدمها لنا الأستاذ العريّض في المدرسة.. قبلني المستشفى عاملا تحت التدريب براتب لا يتجاوز 18 روبية. وهناك قابلت لأوّل مرّة عبد النبي سبكار، وخليل ترابي، وعبد الحسين سبكار، وبرهان الدين فروغي لتبدأ صداقة جديدة في موقع جديد ومرحلة عمرية جديدة. في مستشفى لم يكن يحوي أكثر من 200 سرير.
حتى هذا التاريخ لم تتضح ملامح اتجاهي بعد.. لكنّي كنت أعرفُ جيداً أني لن أكون في اتجاه واحد لأنّه مهما كان لن يستطيع أن يملأ كلّ هذه الحرارة في داخلي.. شيء ما في نفسي يحدثني دائماً: إنّك تنظر بعين الطير محلقاً، يعني أنك لا تستطيع أن تتجاهل ما تقع عليه عينه التي تسع كلّ شيء.
حي الفاضل بيتي
إنّه يوم الجمعة، وللجمعة نكهة أخرى في حيّنا تختلف عن سائر الأيام. تصل حافلة ركاب نصفها من الخشب ( بَسْت ) إلى ساحة الحي في هذا الصباح فتغادر معظم النساء والأطفال إلى عين ماء ( أبو زيدان ) في قرية الخميس. غادرت أمّي وإخوتي وظللت وحدي في البيت وفي حيٍّ خلا من الأطفال تقريباً. كنتُ أنظر للإسمنت الأبيض ( الجص ) الذي أحضره أبي لبعض الإصلاحات في البيت. اقتربتُ منه وتحسستُه. ماذا لو سكبتُ عليه الماء مادمت وحدي؟ مرّت لحظات حتى صار الإسمنت عجيناً متماسكاً، فقررت أن أصنع منه جسد امرأة.. لا أعرف لماذا اخترتُ المرأة ولم أختر الرجل؟ تمثال جسد امرأة - على قدر فنيتي تلك الفترة - بدأ من منتصفها حتى الرأس . كان الصدر هو الذي يحدد عمّا إذا كان هذا التمثال امرأة أو رجلاً . الصدر هو الذي نميّز به المرأة عن الرجل في هذا العمر.. انتهيت من العمل وانتهت رحلة أهل الحي عند المغرب.. لم أنس ضرب أمي حتى الصباح، كان ذلك بعض الجزاء . والجزء الآخر تكسير أمي للتمثال الذي كان من خلق يدي طفل لم تتكلفا في صنعه فجاء كما يتمثل حقيقته. أخرج إلى سوق قماش النساء بالمنامة لأبحث عن صورة طالما اشتقت النظر إليها، صورة امرأة جميلة، آلهة من آلهات الهند. على طاقية القماش الهندي توضع صورة هذه المرأة وتغطى بالنايلون الشفاف. وعندما تفتح طاقية القماش ترمى الصور لأجمعها في لحظة من أروع لحظات عمري.. لا أفعل بالصورة غير الحملقة فيها وفي ألوانها.
بداية العلاقة مع الرسم
وعن علاقته بالرسم يقول الفنان يوسف قاسم: بدأت الرسم بإعلان من نادي المحرق، يدعو مَنْ هم في سنّي؛ لتعلم الرسم في دورة بإشراف الأستاذ متولي أحمد متولي الذي كان ضمن البعثة التعليمية، وبـ 25 روبية دخلت الدورة، التي خصص لها بيت بجنب النادي. كنت أذهب إلى الدورة على دراجتي الهوائية وكان جسر المحرق لم يزل جديداً. وفي البيت كانت امرأة بحرينية تعمل خادمة فكنّا نطلب منها الجلوس أمامنا لرسم وجهها فقط ( بورتريه). كنا نتعلم كيف ننقل كتلة الوجه إلى الورقة.. وعندما أعود إلى البيت بدراجتي الهوائية، أجلس بالقرب من بقرتنا الصامتة دائماً في ساحة البيت، ثمّ أبدأ برسم رجليها. هذا الأستاذ خلخل أميتي في الرسم، ثمّ وإلى جانب الرسم، والتصوير، والتمثيل تعلمتُ عزف العود، فكنتُ أصعدُ على سطح منزلنا بحيّ الفاضل بحيث يراني المارة في الشارع ويسمعون عزفي.. لا تكفيني مهارة واحدة، ولا تقنعني هواية واحدة ما دمتُ أنظر بعين واسعة كعين الطير المحلق.
عالم الوظيفة اليومي
في مستشفى الإرسالية الأمريكية، كان كلّ واحد منّا ينتقل من قسم لآخر كلّ ستة شهور. من قسم المختبر - مثلاً - الذي يعمل فيه خليل زباري إلى قسم الصيدلة الذي يعمل فيه برهان الدين وهكذا. كان هذا النوع من التنقل يجعلني ألمّ بكلّ ما يحدث في كلّ قسم، كما أنّه يؤمّن للمستشفى غطاء عملياً في حال غياب شخص ما عن قسم من الأقسام. انتقلت من قسم إلى آخر حتى جاء موعد دخولي قسم الأشعة والتصوير.
في هذا القسم كان أوّل لقاء لي بما يحدث بعد التقاط الصورة . هنا التقيت بأحماض التظهير(Developer ) ومعدات التظهير، وتعرفت على الأفلام، ورأيت خليل ردباري الذي يعمل في هذا القسم يحمّض أفلاماً خاصة به !!! أعجبني العمل في هذا القسم أكثر من غيره من الأقسام وخصوصاً أنّي أتقنته جيداً.
عالم الهند العجيب
في هذه الفترة أرسلني المستشفى في دورة دراسية في مستشفى (إسكدر ميمورل ) بقرية ( رانيبت ) في الهند. بعد الدورة انتقلت إلى ( بومبي ) والتقيت بشخصين هما: عبد الله اليماني وحامد اليماني. فسهرت معهما عدّة مرات عند المهراجات الهنود لأعزف لهم العود. وقبل رجوعهما إلى البحرين طلبت منهما أخذي إلى الفنانين الهنود، فأخذاني إلى استوديوهات إنتاج الأفلام الهندية. قدمني عبد الله لهم متدرباً فقبلوا ذلك. كنت آتي الصبح للأستوديو قبل فتحه وأنتظر في المطر أحياناً. اكتسبت خبرة جيدة هناك بعد شهر ونصف في بومبي. وقد بدأ الذي شهادته في الهند يعمل بخفاء في تجربتي الفنية وفي فرشاتي. فأكثر ما ظهر ذلك في عمل ديكورات المسارح .
لكن الصورة وما أدراك ما الصورة ، لا تبتعد عن مخيلتي وعيني . فبعد عودتي إلى المستشفى قررت بناء غرفة مظلمة ( Darkroom) في بيتنا بحيّ الفاضل، واستعمال كاميرا خشبية الجسم (Camera box ). أمّا التحميض فسوف يكون في المستشفى !! بدأت العمل.. بعد ذلك نقلت بعض مواد التحــــميض (Developer ) من المستشفى إلى الغرفة المظلمة في البيت.. لم يكن هناك مادة تحميض جاهزة بل لا بدّ من خلط خمس مواد كيماوية لتحصل على مادة التحميض (Developer ).. وهذه الحال موجودة في الصيدلة أيضاً فالأدوية لا تأتي جاهزة.