كتب - موسى عساف:
تقدم الحوثيون نحو العاصمة اليمنية صنعاء بعد أعوام من المواجهات الدامية، والتي تشابكت خيوطها وتعددت سيناريوهاتها دون أن تصل أي مرحلةٍ من مراحل الخيال فيها إلى هذا المشهد المذهل في تناقضه المتباين في إشكالاته والمستحيل بمقاييس المنطق الاستراتيجي؛ فثلاثون ألفاً من المقاتلين الحوثيين، عشرة آلاف منهم فقط هم المسلحون، يتقدمون لحصار صنعاء؛ عاصمة يمن السلاح والقبائل، التي لا يشكل التعداد العام للحوثيين «الشيعة» في أحسن التقديرات أكثر من 500 ألف نسمة، وسط بحر متلاطم من الأغلبية السنية البالغ تعدادها في شمال اليمن وحده 19 مليون نسمة تقريباً، بينما يبلغ التعداد الكلي في اليمن عموماً 31 مليون نسمة، يضاف إلى ما ذكر من أرقام أن نسبة الحوثيين في معقلهم الرئيس صعدة لم تتجاوز 20% من مجمل سكان تلك المنطقة، ولكن ومع كل ذلك رفع الحوثيون المتاريس حول العاصمة وارتفعت معها أصواتهم التي دعت الحكومة للاستقالة متخذين من خطوة رفع أسعار الوقود شعاراً، أو ما يعرف بـ»الجرعة» مرحلياً للتحرك الحالي.

كان رد حكومة هادي عبدربه منصور بطلب الحوار وإفساح المجال للحوثيين للمشاركة السياسية عبر دعوتهم للانضمام لحكومة وحدة وطنية، وسرعان ما جاء الرد متناسقاً مع المشهد اليمني المستحيل، والذي أسدل فيه الحوثيون الستار على الحقبة التاريخية القصيرة التي لم تكن طموحاتهم السياسية فيها تتعدى الحصول على مقعد برلماني يشغله الحوثي ذاته، ويستخدمه غالباً للتقرب من السلطة والمطالبة ببعض المكاسب الصغيرة. رفع ستار عن مشهدٍ جديد لا يقبل فيه الحوثيون بأقل من عشر حقائب وزارية سيادية لا تتناسب مع حجمهم السياسي ولا السكاني، ولكنها تتناسب تماماً مع حجم الفوضى والدمار الذي عانت منه اليمن قبل ثورة 2011 وما بعدها، والمتناسب مع ما يقدر اليمنيين أن ميليشيا الحوثي قادرة على إحداثه؛ فهي سبق وأن أرسلت رسائل واضحة، لعل أقواها تلك التي واكبت مراسم تشييع زعيمها ومؤسسها حسين الحوثي في العام 2013، حيث أعلنوا سيطرتهم التامة على محافظات صعدة وعمران وسفيان وحجة وحرف، وألمحوا إلى قدرتهم على تأسيس دولتهم في شمال اليمن على تلك المحافظات، وتتلاءم مع الحالة الاقتصادية المتردية والنفور الشعبي والشك تجاه أي خطاب سياسي.
حلم المملكة
قبل أيام، وخلال حصارها للعاصمة صنعاء، رفعت الميليشيا الحوثية علماً لما أسمته «المملكة الحوثية الهاشمية»، وتقدم عدداً من فعالياتها ومعاركها كاشفة لمن تبقى من حلفائها المحليين وجيرانها الإقليميين سذاجة النظريات حول كونها حركة وطنية دفعها القهر والتهميش للتمرد وحمل السلاح.
ولكن ما أن رفرف العلم الجديد حتى كان الحلفاء في «اللقاء المشترك»؛ وهم المتعاطفون والمدافعون والمبررون لحمل السلاح في وجه الدولة بحجة الحقوق الفكرية وحق الاختلاف، والذي يضم إضافة لحزب الإصلاح الإخواني عدداً من اليساريين والمستقلين إضافة إلى الشيعة «الزيدية» قد تلاشوا بفعل الصدمة، حيث اختصرت مسافات التفاهم وأرضيات التلاقي السياسي والوطني حين شارك الحوثيون الثوار المعتصمين في ساحة التغيير إبان ثورة 2011 الشعارات والخيام، واحتفظوا بحلمهم بعيداً ليرفرف في الوقت المناسب.
وجد حزب الإصلاح الإخواني نفسه أمام واقعٍ جديد؛ رفقاء معارك الأمس من الحوثيين يشنون ضده الحرب تلو الأخرى، حروبٌ سياسيةُ ابتدأت منذ المبادرة الخليجية وطاولة الحوار المنبثقة عنها، والتي اجتاحها الحوثيون بعدد ضخم من المندوبين أثار حفيظة شركاء الطاولة الذين ما لبثوا أن تقبلوا الأمر على مضض، في محاولة لدمج الحوثيين الرافضين للمبادرة الخليجية في العملية السياسية.
وما أن أقر الحوار الوطني نزع السلاح والاصطفاف خلف الجيش اليمني كحاملٍ شرعيٍ وحيدٍ للسلاح حتى شعر الحوثيون بالخطر، فشنوا حرباً ميدانية هذه المرة لم يختاروا وحدهم توقيتها ولا آلياتها، حيث بدأت بمهاجمة سكان (دماج) وسلفيها وافتعال الصراع معهم ومحاصرتهم، وانتهت برضوخ الدولة اليمنية لإرادة الحوثي وتهجير مواطنيها المناوئين لميليشيا الحوثي إلى الحديدة بعد لجان رئاسية لا تكاد تذهب حتى تعود لترجو مرة وتتوسل مرات أخرى، ولكنها لا تتوعد ولا تنذر ولا حتى تلمح بحربٍ مع الجيش اليمني الذي كان يخوض معارك في محافظتي أبين وشبوة ضد القاعدة.
فتحت (دماج) شهية الحوثي فانطلقت ميليشياته تهاجم وتقتل أتباع حزب الإخوان من قيادات قبلية في محافظاتي أرحب وعمران، فتلك القيادات أدركت متأخراً أنها خدعت في اليمن كما خدع إخوانهم في العراق، وأن الوقت في يمن ما بعد الثورة بفوضاه وضعفه يمضي سريعاً والأمر خرج عن نطاق قدرتهم على المواجهة، فآثروا القيام بدور الواعظ للحكومة الناصح لها بأداء دورها والمحافظة على قوتهم لوقت لاحق يختارونه أو يختاره لهم حليفاهم الإقليميان ضمن منظومة دعم الإخوان المسلمين في المنطقة.
الحوثيون والقاعدة.. بيض من ذهب
أما الحوثيون فساروا من قرية لأخرى ومن مدينة لمدينة لا تواجههم صعوباتٌ تذكر بعد أن مر حلمهم بـ6 حروب عبثية مع النظام السابق، خسائر أنهكت الجيش والشعب، لكن الحوثيون خرجوا منها أعمق تجربة وأكثر قوةً وتسليحاً، حيث لم تكد الحرب السادسة تضع أوزارها عام 2010 حتى انقشعت الصورة عن مشهدٍ غير مألوف، فالحوثيون التهموا صعدة وارتفعت أصواتٌ من داخل اليمن وخارجه تكشف عن صفقات النظام السابق مع الحوثيين، اتفاق يضمن استمرار حلب الدعم لكليهما؛ دعمٌ خليجي للوقوف في وجه أي تمددٍ شيعيٍ في اليمن يستفيد منه النظام ودعمٌ إيراني يحفر ثغرةً في الجدار السعودي المحصن جنوباً يستفيد منه الحوثي، الذي نزع باكراً أثواب التسامح الفكري الزيدي واختال بأخرى اثنا عشرية مستوردة من الشرق تتوافق مع أجواء حليفٍ كريم يدفع ويدرب ويسلح ويمول ويشتري الولاءات ويفهم جيداً أن النظام السابق في هذا البلد العربي العريق يدير لعبة التوازنات الداخلية بدقة متناهية؛ يحارب الحوثيين ولا يقضي عليهم فيستمر الدعم الخليجي، ويقاوم القاعدة ولا يخمد أنفاسها فتدعمه أمريكا والغرب والخليج، وهو وإن كان رحل كفردٍ إلا أن أجزاء معتبرة من منظومته العسكرية والأمنية والإدارية وامتداداته القلبية والاجتماعية موجودة في كل شبر من الدولة.
النظام اليمني
ولعبة الابتزاز
ذهب المراقبون إلى ما يؤكد أن أجواء ذلك التفاهم الحوثي مع النظام السابق تخلت عن سريتها وقررت أن تصدع بعلاقتها في تحالف مكشوف ظهر في أقوى أدواره حين كان رجال القبائل الموالون للرئيس السابق علي عبدالله صالح لا يواجهون العابرين بمدنهم وقراهم، بل وينضمون للزاحفين الحوثيين نحو الحلم المملكة في صنعاء بغية النيل من خصومهم في إصلاح «الأحمر» الإخواني، ولا تتوقف الاتهامات عند النظام السابق بل تمتد لتطال الرئيس الحالي عبدربه هادي منصور، والذي يراه متهموه امتداداً للنظام السابق وممهداً عبر سياسات الأضعاف الممنهج لقيام ثورة مضادة عبر تخويف الشعب ودول المحيط الإقليمي بالحوثيين وهي سلسلة ضمن حلقات من التهم من كل الاتجاهات، حيث يتهمه النظام السابق بالضلوع في عملية تفجير مسجد دار الرئاسة في يونيو 2011، بينما يرى فريقٌ ثالث أن الدراما اليمنية بتقلباتها جعلت جميع الفرقاء الصامتين والواعظين والممسكين سلاحهم عن الدفاع عن وطنهم ووحدته والمشاركين للهابطين من صعدة لا يدركون أنهم جميعاً أدوات في حربٍ أكبر من طموحاتهم وأحقادهم وعداواتهم لتمزيق اليمن وتقسيمه وزرع دولة تستخدم كقنطرة تجعل المملكة طريقاً إلى المملكة.
اليمن.. خارطة الدماء
لعل أكثر ما استفاد منه الحوثي، ومن وراءه، لرسم هذا المشهد كان الحرب ضد القاعدة والتي ضمت له، إضافة إلى انشغال الجيش، الأمر الذي جعله يدخل في سباق مع الوقت، فكلما اقترب الجيش من إحراز تقدمٍ معتبرٍ يقترب معه موعد الحسم في مواجهاته مع القاعدة في شبوة وأبين كلما تسارعت وتيرة السير نحو صنعاء، وهيئت له القيام بعمليات نوعية تضمن له التفوق المعلوماتي في ظل تطوير الحوثيين لجهاز استخباراتي قطع مراحل متقدمة، يشرف على تدريبه ضباط مخابراتٍ إيرانيون وعراقيون ومسؤولون كبار في حزب الله اللبناني، إضافة إلى ضباط محسوبين على النظام السابق، والذي يتهمه بعض ضباط الأمن السياسي بإعطاء حلفائه قوائم بأسماء خيرة ضباط الأمن السياسي اليمني الموكلين بملف الحوثيين والتمدد الشيعي، مطمئنين إلى عدم ملاحظة الأمر في ظل قيام القاعدة باغتيال ضباط الأمن السياسي الذين تتهمهم بممارسة التعذيب والقتل ضد أفرادها، حيث بلغ عدد الضباط والأفراد الذين طالتهم عمليات الاغتيال في الفترة من 23 يناير 2012 وحتى 24 مارس 2014 حوالي 230 ضابطاً وفرداً، حسب العميد فهمي الصيعري مدير أمن حضرموت السابق، وعدد معتبر من أجمالي ممن جرت تصفيتهم لا علاقة لهم بالقاعدة وليسوا مختصين بملفها ولم يكونوا في حيز مواجهاتها.
منحت الساحة السورية الحوثيين فرصة أخرى من فرص التدريب الميداني، حيث نقلوا ضمن مجاميع دولية شيعية شملت (الهزارا) الأفغان والأذر والتركمان وبعض أبناء الطائفة (الفيلية) الكردية والهنود والباكستانيين والعراقيين من كافة الفصائل للحرب إلى جانب حزب الله والنظام السوري، دون أن تلاحقهم اتهامات بالإرهاب أو تقتنصهم حال عودتهم إلى بلادهم طائرات أمريكية بلا طيار.