لديه وظيفة مرموقة وأسرة متحابة؛ إلا أن ذلك لم يكف الأردني البالغ من العمر 25 عاماً، إذ هجر حياته الرغدة في العاصمة عمان كي ينخرط في صفوف تنظيم «داعش» الذي استولى على مساحات كبيرة من الأراضي في العراق وسوريا.
واختفى الرجل الوسيم دمث الخلق الذي يحظى بمكانة رفيعة في مهنته كطبيب أخصائي أشعة -والذي حجب اسمه لدواع أمنية- في أوائل شهر أغسطس الجاري عقب عطلة عيد الفطر ولم يبلغ أسرته بوجهته.
وقال أحد أقارب الرجل إنه اتصل بوالديه هاتفياً فيما بعد من مكان غير معلوم ليقول لهما إنه «قرر أن يضحي بحياته فداء لرفعة الإسلام. وانفطر قلب والده فيما ترقد والدته بالمستشفى للعلاج من صدمة عصبية».
وهو ضمن أول حالات معروفة عن أردنيين انضموا لتنظيم «داعش» منذ أن أعلنت الجماعة الخلافة في يونيو بعد أن حققت مكاسب مباغتة بالاستيلاء على أراض في العراق وسوريا. وتشير حكاية هذا الرجل إلى اتساع نطاق التأييد لـ «داعش» بين الإسلاميين الأصوليين في الأردن بدافع النجاحات التي حققها التنظيم في الآونة الأخيرة في دول متاخمة للأردن شرقاً وشمالاً. ويقترن هذا التأييد بمخاطر مستحدثة للأردن حليف الولايات المتحدة الذي لم يتأثر كثيراً بالاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة.
ويبدو أن أجهزة المخابرات الأردنية القوية قد نشرت كامل أدواتها المختلفة لمجابهة هذا الخطر. وقال العاهل الأردني الملك عبد الله إن بلاده كانت في أفضل أحوالها استعداداً لدرء هذا الخطر الجامح الذي يعصف بالمنطقة.
وفجرت المكاسب التي حققتها «داعش» جدلاً صاخباً بين الإسلاميين في الأردن ممن ينتمون للحركة السلفية المتطرفة بشأن كيفية مؤازرة الجماعة التي لاقت الفظائع التي تقترفها انتقادات حتى داخل الدوائر الإسلامية المتشددة. لكن يبدو أن المتعاطفين مع «داعش» كسبوا هذه الجولة من الجدل بدعم من المكاسب التي حققتها الجماعة.
وقال متشدد أردني معروف تحت اسم افتراضي هو غريب الإخوان الأردني «بدل كثير من الشبان وجهة نظرهم المشوشة عن «داعش» بعد أن شاهدوا أفعالهم على أرض الواقع وإنجازاتهم وكيف تعاضد الغرب ضدهم».
حلم تحقق
وقال إسلاميون على دراية بهذا الموضوع إنه منذ أن اندلعت الحرب الأهلية في سوريا المجاورة عام 2011 انضم مئات الأردنيين الى الانتفاضة التي يقودها السنة ضد الرئيس السوري بشار الأسد. وهجر الأردن أكثر من ألفي رجل -تتراوح أطيافهم من الشبان المعدمين إلى الأطباء ومن بين الحالات ضابط بالقوات الجوية- وتوجهوا للجهاد في سوريا، وقتل 250 على الأقل منهم هناك.
بيد أن الإنجازات التي حققها تنظيم «داعش» في الآونة الأخيرة ضاعفت التأييد، كما لم يحدث قط من قبل بين الإسلاميين المتشددين ممن يحلمون بإزالة الحدود بين دول العالم الإسلامي في سبيل إقامة أمة إسلامية واحدة.
وأثارت هذه الإنجازات احتمال عبور مزيد من الأردنيين الحدود للقتال، غير أن ذلك ينطوي أيضاً على خطر أن ينفذ المتعاطفون مع «داعش» عمليات داخل الأردن نفسه، وهو بلد سبق أن عانى الأمرين من تيارات التشدد الإسلامي، لا سيما هجمات متشددين يرتبطون بتنظيم القاعدة بالقنابل على فنادق بالعاصمة عمان خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.
ومثل ظهور أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» -الذي نصب نفسه خليفة- ودعوته إلى تأييد المسلمين وهو يعتلي منبر أحد مساجد مدينة الموصل العراقية في يونيو الماضي عامل جذب بالنسبة لشباب الإسلاميين في الأردن.
وقال بسام ناصر، وهو مفكر إسلامي اردني، إن «حلم. الدولة الإسلامية كان إقامة الخلافة وقد تحقق الحلم مما جعل الناس يفكرون جدياً في الانضمام لهم لاسيما بعد أن دعتهم الجماعة رسمياً للانضمام إليها.
ويمكن أن ترجع جذور «داعش» -على نحو ما- إلى الأردن، فقد كان الأردني أبو مصعب الزرقاوي هو مؤسس ذراع تنظيم القاعدة في العراق الذي تحور في نهاية المطاف ليصير تنظيم الدولة الإسلامية. وقد تبرأت القاعدة من الجماعة. وفي بلدة الزرقاء الأردنية الفقيرة -مسقط رأس الزرقاوي والمعقل التقليدي للإسلاميين الأصوليين- كان تأييد «داعش» على أشده خلال صلاة عيد الفطر في أواخر يوليو الماضي. ولوح عشرات الرجال ممن كانوا يرتدون نفس الزي التقليدي الأفغاني الذي يستخدمه الإسلاميون المتشددون بالعلم الأسود لـ «داعش» خلال تجمعهم في ساحات مفتوحة لسماع خطبة الإسلامي الأردني الشيخ عامر الخلايلة وهو يشيد بتنظيم «داعش».
وقال الخلايلة عبر مكبر الصوت في لقطات فيديو بثت على اليوتيوب إن البغدادي هو الشخصية التي ستبث الرعب في قلوب الأعداء ودعا إلى احتساب نفسه شهيداً.
«الخلايا النائمة»
وفي تقييم لأحد كبار مسؤولي الأمن الإقليميين -الذي تحدث شريطة عدم نشر اسمه- فقد يصبح الأردن ملاذاً «لمئات إن لم يكن الآلاف من المتعاطفين المحتملين» ممن قد يصيرون «خلايا نائمة وقنابل موقوتة».
وتماثل جذور التيارات المتشددة في الأردن تلك الشائعة عموماً في منطقة الشرق الأوسط، والتي ترجع أسبابها الرئيسة إلى انعدام الحريات السياسية والفرص الاقتصادية.
ويسعى العاهل الأردني الى تخفيف وطأة المخاوف في بلاده بشأن التهديد الذي يمثله تنظيم «داعش». وعبر الملك عبدالله في حديث إلى الساسة عن ارتياحه للاستعدادات التي تقوم بها القوات المسلحة وأجهزة الأمن، مؤكداً أن موقف بلاده اليوم أقوى من الماضي من الناحية السياسية والأمنية والعسكرية.
وفي إشارة خفية إلى «داعش» حذر الأردنيين ألا يقعوا فريسة لأطراف خارجية تسعى لاستغلال مظالمهم. وقال دبلوماسيون ومسؤولون إنه خلال الأسابيع الأخيرة شددت أجهزة المخابرات الأردنية إجراءات الأمن حول المناطق الحكومية الحساسة وعززت من عمليات ترصد الإسلاميين الأصوليين واعتقلت نشطاء ترى أنهم يمثلون خطراً.
واعتقل عشرة أشخاص على الأقل لتعبيرهم عن التأييد لـ «داعش» عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويمثل ذلك اختباراً جديداً لأجهزة الأمن الأردنية وهي شريك رئيس للولايات المتحدة في محاربة الإسلاميين المتشددين.
وجعل النهج الذي يتوخاه الأردن في مواجهة هذا الخطر البلاد متفردة في ذلك عن بعض الدول العربية الأخرى، ونال اعتماد البلاد على الوسائل المتطورة لجمع معلومات المخابرات بدلاً من القيام باعتقالات تعسفية تقديرًا لأنه حماها من موجة اضطرابات من جانب الإسلاميين بدافع الانتقام مثل تلك التي شهدتها بلاد مثل مصر وسوريا.
وأطلقت السلطات الشهر الماضي سراح مفكر إسلامي بارز -وهو شخصية لها ثقلها بين دوائر المتشددين- وهو من الخصوم الإسلاميين البارزين لـ «داعش».
وأضاف الإفراج عن الشيخ أبو محمد المقدسي صوتاً مؤثراً للجدل الدائر، إلا أنه كشف النقاب في الوقت ذاته عن وجود انقسامات بين حركة السلفيين في الأردن التي كانت جماعة متشددة متماسكة في السابق.
وسخر المقدسي من إعلان البغدادي الخلافة وراعه ما ظهر من فظائع اقترفتها «داعش».
وقال في رسالة صوتية هذا الشهر إن ما تقوم به «داعش» يصم الجهاد بصبغة دموية لا يقبلها، مشيراً إلى مدى وحشية صور قطع الرؤوس التي لا يقبلها الله أو أي شخص، منوهاً إلى شيوع الرأفة بالكفار في فجر الإسلام.
وفجر ذلك موجة من الانتقادات من جانب أنصار تنظيم «داعش» ممن لم تبد عليهم أي علامة من علامات قبول الرأي الآخر التي يبديها عادة علماء كبار منهم المقدسي، وقالوا إن المقدسي أفرج عنه ليس لأنه قضى مدة العقوبة وهي خمس سنوات، ولكنه عفو خاص أريد به مهاجمة «داعش».
وفجر هذا الجدل مشادات لفظية وبدنية؛ إذ أوسع أنصار «داعش» ضرباً في الآونة الأخيرة اثنين من الإسلاميين المتشددين ممن جاهروا بمعارضة أفعال متشددي التنظيم من قطع رؤوس الشيعة وقتلهم بصورة عشوائية.
ورفع أنصار «داعش» علم التنظيم الأسود في يونيو في مدينة معان المضطربة، وهي معقل عشائري لنحو نصف مليون شخص وتقع على بعد 250 كيلومتراً إلى الجنوب من العاصمة عمان.
وقال محمد شلبي، ويعرف باسم أبو سياف، وقضى عشر سنوات في السجن بتهمة التشدد الإسلامي، بما في ذلك التخطيط للهجوم على القوات الأمريكية في الأردن.
وشلبي سلفي من معان حث الإسلاميين على السفر إلى سوريا للقتال ويقول إن الأردن ليس هدفاً لـ «داعش». وهو شخصية مرموقة لدى سكان مدينة معان ويتوسط بين زعماء العشائر والسلطات لحل النزاعات، وأشار إلى أن اعوانه لا يعنيهم زعزعة الاستقرار في الأردن إلا إذا تعرضوا لاستفزاز من جانب الحكومة.
«سليمان الخالدي - رويترز»