فمن ناحية، يبدون الحجة على حساسية جلية تجاه التحولات التاريخية، مثل الصعود الاجتماعي لأعيان يهود، بدءاً بعائلة روتشيلد، في البلدان الغربية، وبدايات الحضور الأوروبي بفلسطين وانتعاشة الفلاحة اليهودية، والغليان القومي للشعوب البلقانية في بولونيا والمجر وما خلفته أحداثها من تحولات راديكالية. وتلك المعاينة التي رصدت كذلك مع معاصرين لهم، سوف يعطيها الرواد الصهاينة وبشكل آخر ترجمة دينية. فبالنسبة إلى هؤلاء القوم الناشئين في أحضان التراث الأرثوذكسي، تشكل تلك التحولات بالضرورة جزءاً من مخطط العناية الإلهية للتغيير، وفي العمق، لحالة التشتت اليهودي: هي آيات إلهية كاشفة لقرب ساعة الخلاص. فأي تأويل هو بالأساس مستجد، بصفة حلول الزمن المسيحاني ليس مدركاً كهجمة كارثية وفجئية، ولكن كمسار تطوري سوف تعقبه مرحلتان: الأولى طبيعية، أي يكون للإنسان اليهودي دور فاعل، يلعبه على مسرح التاريخ. الثانية إعجازية، أين يتدخل الله بكل مجده لتجميع شتات إسرائيل، قصد إعادة بناء هيكل أورشليم ومملكة داود وإقامة السنهدرين. وبالتمييز بين لحظتين في مسار الخلاص، يضفي كوكبة الحاخامات شرعية على العودة المخططة إلى فلسطين، من طرف شلة من الشعب اليهودي من خلال مباركة النشاط المسيحاني.
يبدو هذا العمل لإعادة تشكيل المسيحانية ضرورياً لشرعنة مساهمة الحاخامات داخل المنظمة الصهيونية المؤسسة مع هرتزل في 1897م؛ ضرورياً بشكلين، بدءا لتأكيد شرعية المسار الصهيوني الديني في مواجهة إنتلجنسيا يهودية روسية، ممثلة في شخصيات مثل حاييم وايزمان، شديدة الانتقاد للنظام الإكليروسي، ولاحقاً للتملص من التقليدية المتزمتة المدافع عنها سوياً، سواء من جانب الناطقين باسم الحاسيدية ذوي المقاربة الصوفية لليهودية، أو مع الممسكين بزمام الأكاديميات الدينية -يشيفوت-، الداعين لعقلانية تقوية، وحيث التميزات جلية بينهما في تطبيق اليهودية، ذات الصبغة العاطفية مع السلف والرصانة العقلانية مع الخلف. ويتحد هذان التياران وبشكل آخر، في ولائهما المشترك لمسيحانية منفعلة، على رفض مطلق للصهيونية، معتبرة لديهم بمثابة الهرطقة. إذ ما يقوم به دعاتها من تنظيم لهجرة اليهود إلى أرض إسرائيل غاية تكوين مجتمع مستقل، يمثل لديهم خلاصاً، يكون عملاً معجزاً لله وحده، باعتبار التجميع الصادق للمشتتين من شأنه وفعله. ولتجاوز تلك الإدانة الصريحة المهيمنة في الحركة الأرثوذكسية، سوف يستعمل الحاخامات الموالون للصهيونية مثل صامويل موهلافر ويعقوب رانز، اللذين أسسا سنة 1902 حزب مرزحاي «المركز الروحي»، حجية مزدوجة.
في مرحلة أولى، ولأجل إزاحة تخوفات السلطات الحاخامية العليا، بحث رانز وأتباعه لتدعيم تعاونهم مع اليهود العلمانيين، عبر رفض كل صبغة دينية عن الصهيونية، باعتبارها مجرد عملية إنقاذ، ساعية نحو تخليص اليهود من واقع القمع السياسي ومواساة حالة عوزهم المادية. وبصفة مغايرة، ولأن الصهيونية تفتقر كليا للجانب الروحي بصفتها بصورة إجمالية مادية وسياسية، فإن تعاون اليهود المتدينين معها كان باهتاً، جراء تجردها من أي دلالة دينية، علاوة على أنها لم تضع محل تساؤل الرؤية التقليدية للخلاص.
يشكو هذا الخطاب الذرائعي من خطأ سياسي: كيف أن حاخامات على قناعة بالمقدرة الهائلة لله، بإمكانهم قبول حركة مثل الصهيونية، مدعوة لإعطاء توجه جديد لمصير «أمة إسرائيل المقدسة»، وتكون مفتقرة للحس الديني؟ فإذا ما كان اليهود وبصفة جماعية قد أرسوا عهداً دائماً مع الله، فإن أياً من أفعالهم، حتى الأوفر حقارة، ليس بالإمكان أن يكون في حل من القداسة.
فبالحري أن أحداثاً أكبر أهمية من العودة الجسدية لليهود لأرض إسرائيل «إرتز إسرائيل»، كانتعاشة العمل الفلاحي، وانبعاث حياة اجتماعية وثقافية، واليقظة السياسية للأمة، بصفتها وقائع تكشف عن عمق ولاء اليهود لصهيون، لا يمكن أن تتم دون تدخل العناية الإلهية. ومن المنطقي جداً أن يتم السعي لدمج الصهيونية ضمن سياق المسيحانية اليهودية، وذلك ما فعله رانز بنفسه، في مرحلة ثانية من حجيته، من خلال استعادة التفسير الثنائي لكاليشار والقلعي، حول التناوب بين ضربين: طبيعي وإعجازي للخلاص.
لقد كان المخرَج لاهوتيا، إذ لم تلاق المؤسسة الصهيونية مأزقاً أخطر من طرح التساؤلات. لماذا تتدعم الجماعة اليهودية بفلسطين يوماً بعد يوم تحت قيادة صهاينة اشتراكيين ذوي توجهات لا أدرية، في حين يعرف اليهود الأرثوذكس انكفاءً على أنفسهم؟ كيف بالإمكان الإضفاء على الصهيونية طابعاً دينياً وهي مسوقة من طرف «كفرة»؟ لقد صاغ الحاخام الأكبر الأشكنازي بفلسطين، أبراهام إسحاق هاكوهين كوك «1865-1935م»، مخرجاً لذلك المأزق، من خلال تقديم إجابة ثورية، ودون الولوج في تفاصيل فكر ثوري ومشكل، نقول باختصار، إن موقفه ارتكز بالأساس على مستندات مستمدة من التراث القبّالي، والتي بحسبها أن كل مظاهر الخلق شاهدة بالحضور الإلهي، حتى تلك التي تبدو متخلصة من أي تعال في ظاهرها. فالصهيونية كذلك تتضمن هي أيضاً «ملامح تلك القداسة»، والرواد الاشتراكيون الذين قدموا إلى فلسطين لخدمة الأرض قد شاركوا دون وعي منهم في مشروع يرعاه الله»، وفي مخطط، عبر ربط الصلة بين الشعب اليهودي وإرتز إسرائيل، سيفضي إلى احتكام كل اليهود إلى تعاليم الشريعة. لأن أرض إسرائيل مقدّسة، ولأن المكان موطئ نزول وحي الرب «هتجالوت هاشخينا»، فالعودة الجسدية لليهود ستمهّد إلى العودة الروحية «تشوفا»، والتي تعني قناعة اليهود بأن طبيعتهم الحقة لا يمكن أن تكون إلا دينية. فالصهيونية المنتهكة للحرمات في الظاهر، قد وفرت في الواقع صورة حية لخلاص مسيحاني سائر نحو التحقق.
الصهيونية تتضمن ملامح قداسة
الصهيونية المنتهكة للحرمات أضفت طابعاً دينياً على إستراتيجياتها
الصهيونية المنتهكة للحرمات وفرت صورة حية لخلاص مسيحاني
لتأكيد شرعية المسار الصهيوني الديني
وعلى وقع تحقيق هذا الخلاص، اقتنع خلفاء راف كوك على رأس الحاخامية العليا، أثناء إنشاء دولة إسرائيل 1948م، أن عبر تلك الدولة، بعد كارثة الإبادة الجماعية، وتحت تهديدات المحق من طرف البلدان العربية، أن حضوراً لله في التاريخ، بات جلياً أمام أعينهم، وأن تكشفا لـ»فجر الخلاص» «أنسلتادي جيولا» ترافقه «بداية تبرعم للخلاص» «رشيت سميحات جيولاتنو»، وهو ما يمثل الشرارة الحقيقية للسياق المسيحاني.
لقد اقتاد ذلك المعتقد قسراً، الذي يجد ترجمته في عديد الأدعية والصلوات المرفوعة رجاء في حماية دولة إسرائيل وقادتها، الصهيونية الدينية، إلى البحث عن الدلالات المؤكدة لنشوء تطورات متعلقة بالمسيحانية. أتت تلك العلامات خلال يونيو1967، بعد أن عاش الشعب الإسرائيلي شهر مايو في حالة رعب هائلة، على وقع النداءات العربية بالثأر: «اليهود إلى البحر!»، وترافقها بتصاعد أعمال التحرش العدائية «إغلاق مضيق تيران على البحر الأحمر». فقد تجلى النصر الساحق لإسرائيل في أعين الكثير، ليس فقط خلاصا، ولكن بمثابة معجزة. فهذا الصراع الذي سمح لإسرائيل بحيازة مدينة القدس القديمة ويهوذا والسامرة «الضفة الغربية»، أين تتواجد أماكن ذات قدسية عالية في الذاكرة اليهودية، مثل الحائط الغربي للهيكل ومدافن البطاركة بحبرون. صور تلك الواقعة خارقة، إذ تجلى الرب مجدداً، مانحاً شعبه ميراثه الأرضي «نهالا»، وقائداً إياه باتجاه درب الخلاص. لقد أولت حيازة مجمل إرتز إسرائيل، من طرف أتباع غوش إيمونيم «كتلة الإيمان التي تأسست عام 1974م»، الذين سيكتسحون شيئاً فشيئاً جزءاً مهماً من الجهاز الإيديولوجي السياسي للصهيونية الدينية «حزب، صحافة...»، بأنها تقدم نحو «منتهى الزمن»، أي الانزياح باتجاه الطوباوية المسيحانية.
تفسر هذه المسيحانية الأرضية بجلاء الهيجان الاستيطاني لغوش، حيث يعتبر تكثف المستوطنات، علامة بارزة، تقرب اليهود ومعهم كافة البشرية من خلاصهم النهائي.
وبصفة غير جلية وبتوالي العقود، أصبحت المسيحانية الواقعية لرواد الصهيونية، الذين رتبوا الميدان لتدخل الإنسان اليهودي اليقظ في تاريخه، مسيحانيةً ناشطة شيئاً فشيئاً، أي النقيض للمسيحانية المنفعلة والمتحفظة، التي هيمنت على اليهودية التقليدية. هذه العودة مرتبطة ضمنيا بتحقيق الصهيونية من خلال إجراء البعث الأرضي الثاني «الجزئي» لليهود، على قاعدة دولتية، والتي ستعزز الانتماء الفعلي لأرض إسرائيل. وجراء ذلك تدعم الوجه السياسي للمسيحانية اليهودية الحاضرة أثناء القرنين الأول والثاني ق.م، وحسنت صورتها من طرف الحاخامات المنشغلين بـ»صناعة» يهودية أثرى روحياً، وأكثر تكيفًا مع الوضع المستجد للشتات. تدعم «أكثر يسراً مما شهدته الصهيونية، حيث كل التوجهات ما كانت لتخلو من حساسيات مسيحانية».