^   تأسيساً على ما تقدم عرضه حول نشوء وتطور مفهوم “المسؤولية الاجتماعية للشركات” في العالم وفي البلاد العربية، وعندما يحاول المرء إجراء مقارنة سريعة مكثفة بين ما هو عربي وغير عربي، فسوف يكتشف أنه بينما وصل هذا المفهوم درجة من النضج تخوله الوصول إلى ما يشبه البند الأصيل في عقود تأسيس الشركات، وركناً أساسياً من أركان استراتيجيتها، تحقق بفضله إزالة الكثير من مخاوف المساهمين والشركاء حول احتمالات تأثيراته السلبية على أرباح شركاتهم، نجد أنه مايزال في مراحله الجنينية في المنطقة العربية، وبحاجة إلى المزيد من حملات التوعية في صفوف المواطنين أولاً، وأصحاب الأعمال ثانياً. في هذا السياق هناك حاجة، كما هو الحال عليه في الدول المتقدمة، ألا يقتصر الأمر على حملات التوعية ودعوات المشاركة في الحملات فقط، بل أن يتطور كي يتمكن من الوصول إلى مستوى تقنين التشريعات التي تنظم العلاقة بين ممارسة الشركات لأعمالها، وسعيها للانخراط في حملات وبرامج “المسؤولية الاجتماعية للشركات”. ولابد هنا من ضرورة الإشارة إلى علاقة التناسب الطردي الإيجابية بين تنامي “توطين” سياسات “المسؤولية الاجتماعية للشركات” في تلك الشركات، ونضج وفعالية سياسات الضرائب المعمول بها في البلد المعني. فمثل ذلك يساعد كثيراً الحملات والبرامج السائرة في هذا الاتجاه، دعاة “توطين” مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات على الإسراع في بتر العلاقة التي كانت مترسخة في أذهان أصحاب الشركات، وكذا المواطن العادي، والتي ترسخ علاقة التأثير العكسية بين تبني الشركات للمفهوم، ونسبة الأرباح التي يمكن أن تحققها تلك الشركات. نعود بعد ذلك لكتاب فيليب كوتلر ونانسيلي “المسؤولية الاجتماعية للشركات”، الذي يقع في حوالي 380 صفحة من القطع الكبير، وتتوزع محتوياته على عشر فصول إضافة إلى المقدمة والشكر والحواشي. ينتهي المتن الأساسي للكتاب، بتوجيه من يريد أن ينخرط في برامج وخطط “المسؤولية الاجتماعية للشركات”، للأخذ بمجموعة من التوصيات المفصلة المشروحة، التي يعتقد المؤلفان “أنها تتيح للمنظمات غير الحكومية والوكالات العامة أفضل الفرص للفوز بدعم الشركات للمبادرات الاجتماعية”، ويلخصان عصارة تلك الدعوة في النقاط العشر التالية: 1. البدء بإعداد قائمة بالقضايا الاجتماعية التي تكون المنظمة المعنية مسؤولة عن دعمها. 2. إعداد قائمة قصيرة بالشركات التي قد توجد بينها وبين القضايا الاجتماعية، من خلال شيء ما له صلة برسالة أعمالها. 3. الاتصال بالشركات و/ أو وكالات الاتصال للتعرف على اهتماماتها وتجاربها وخبراتها. 4. الإصغاء لاحتياجات الأعمال التجارية الخاصة بالشركات. 5. الاطلاع على القضايا الاجتماعية التي تدعمها المنظمة المعنية ودراسة المبادرات التي يمكن تنفيذها. 6. تحديد الشركات الأكثر اهتماماً بالمبادرات وتقديم عروض محددة لها. 7. المشاركة المباشرة في وضع بنود خطط التنفيذ. 8. عرض أداء أكبر قدر ممكن من العمل الإداري. 9. المساعدة في قياس النتائج وإعداد التقارير. 10. تقدير مساهمة الشركة المعنية بالطرق التي تفضلها هي. من جانب آخر يعج الكتاب بمجموعة مختارة -تقارب 25- من التجارب الحية الناجحة التي خاضتها شركات عملاقة (تضمن الكتاب قائمة بها) تشمل مختلف القطاعات الصناعية من أمثال “جنرال ميلز” و«جنرال إلكتريك” و”مايكروسوفت” وأجبان “كرافت”.. إلخ. المفيد والممتع في آن من قراءة الكتاب، هو تلك التجارب الحية التي يتحدث الكتاب بشيء من التفصيل عن كل واحدة منها على حدة، مزودة في حالات منها بالخلفية التخطيطية، والنتائج التي تحققت، والتي ليست بالضرورة، كما قد يتوهم البعض منا “مكرمات نقدية” تقدم لمن هم بحاجة لها. على سبيل المثال لا الحصر؛ عندما اكتشفت شركة جونسون وجونسون عام 2002 أن الولايات المتحدة باتت “تعاني نقصاً في الممرضات هو الأشد في تاريخ بلادنا، فقد قمنا بإطلاق حملة جونسون آند جونسون من أجل مستقبل التمريض”. يورد الكتاب العديد من ظواهر النجاح التي حققتها الحملة، من بينها نتائج مسوحات شملت “أكثر من مليون طالب كانوا يتأهبون للالتحاق بالجامعات، جاء التمريض والوظائف المتصلة به في الترتيب التاسع بين جميع المهن، وهذا العام (2003) انتقل التمريض إلى المركز الرابع واعتبر أكثر من 90 ألف طالب وطالبة التمريض خيارهم الأول”. التجربة الثانية المثيرة هي حملة شركة سافيكو “Safeco”، وهي “شركة للتأمين والاستثمار” ضد الحرائق، والتي انطلقت تحت شعار “بدون حرائق” في منطقة بيند بولاية أوريجون في التسعينات. وليس هناك أدل من النجاحات التي حققتها الحملة، كما جاء في الكتاب أكثر، من أن “الشركة ماتزال تنفق نحو 50 ألف دولار سنوياً على إنتاج وتوزيع النشرات والأفلام التعريفية وأفلام الفيديو مجاناً على مسؤولي الحرائق ووكلاء سافيكو في أنحاء العالم، الذين يعيشون ويعملون في مناطق معرضة لحريق الغابات”. هكذا إذا تحولت “المسؤولية الاجتماعية للشركات” من مجرد عمل خيري إلى سلوك مؤطر تتقيد به الشركات، وتمارسه المؤسسات غير الطامحة للربح، وتشجعه حكومات الدول، وتحتضنه المؤسسات غير الحكومية، وتدعو له المنظمات الدولية. بل تطور المفهوم كي يصبح جزءاً من مقررات المدارس والجامعات التي تصر على أن تغرس في ذهن روادها ذلك المفهوم، وتروج لفوائده التجارية والمجتمعية على حد سواء. ليس القصد إشاعة نظرة سوداوية متشائمة حول وضع “المسؤولية الاجتماعية للشركات” في المنطقة العربية، لكن أحوالها، وبكل نظرة موضوعية، لا تسر الناظرين، ومن ثم فهي بحاجة إلى أكثر من مجرد إعادة النظر كي نستطيع أن نلحق بركب من سبقونا في هذا الميدان.