^ مواصلة لموضوع التسامح والحق في الاختلاف وعلوية الحرية والذي توصّلنا فيه إلى نتيجة مهمّة، وهي الحاجة إلى الانتقال من مفهوم التسامح بمعناه العام إلى الحق في الاختلاف والحق في الحرية، وفقاّ للقانون وذلك لأنَّ الجميع يتحدث عندنا عن التسامح بمعناها اللغوي والعام، دون أن يكون ذلك المفهوم مقترناً فعلياً -فكرياً وقانونياً وسلوكياً- بحق الجميع في الاختلاف “مع الائتلاف” وفقاً لما يحدده القانون في ذلك. المشكلة التي دعت إلى إثارة الموضوع على هذا النحو هو أن على رأس المتحدثين عن التسامح غالباً ما يكون المتعصّبون في المقدمة، ومنهم الإقصائيون والطائفيون والحاقدون والعنصريون، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تشهد مواجهات على أسس طائفية ودينية في بعض الأحيان، أساسها التكفير والإخراج من الملّة، إلى درجة أنَّ بعضاً يمكن أن يبرّر القتل على الهوية الطائفية مثلما رأينا في لبنان وفي العراق وأفغانستان. الحقيقة أنه ليس في استطاعتنا أن نتحدث عن التسامح في مجتمع يرفض الديمقراطية أو يناصبها العداء أو يرفض التعددية السياسية والثقافية ويجرّمها أو يعتبرها بدعة من البدع. فالتسامح الحقيقي هو الذي يتيحه النظام الديمقراطي من حريات عامة وخاصة ومن الحق في الاختلاف وممارسة القناعات السياسية والثقافية والدينية دون الاصطدام بثوابت المجتمع أو مقدساته أو التجني على الآخرين أو الإساءة إليهم، ويأتي في مقدمة هذا التسامح الذي نقصده “الحق في المعارضة” القانونية والسلمية لا أن يكون التسامح -كما هو سائد- مترجماً لموقف الأقوياء في مواجهة مَنْ يصنفون ضعفاء أو أقليات، حيث إنَّ الموقف الديمقراطي لا يعتبر أيَّ مجموعة بشرية ضعيفة، مهما كان عددها، فهي جزء مهم من الحراك السياسي والاجتماع. المشكل الثاني الذي يمكن أن يُثار في سياق السائد من ثقافتنا وممارساتنا الفعلية، هو أن غياب الحق في الاختلاف مؤسسياً وفكرياً، وتنزيله منزلة المقدّس، قد جعل من واقع الأمر أنَّنا غير قادرين على أن نقبل اختلافنا في ما بيننا وبين أنفسنا فكيف سنكون قادرين، إذن على القبول باختلافنا مع الآخرين من خارج دائرتنا الثقافية والحضارية والدينية. إن المشكلة متأتية من قوة تأثير التيارات الدينية والطائفية منها على وجه الخصوص فهي التي تتعيش على الحقد والتمييز والتعصب بكل أشكاله، فنظرياً يبدو التدين والإيمان عاملاً معززاً للتسامح والتضامن بين بني البشر، وواقعياً تحوّل التدين في كثير من الأحيان إلى أداة من الأدوات التي يتم استغلالها لتعزيز الفوارق التمييزية والكراهية بين البشر حتى في المجتمع الواحد، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ أغلب الحروب التي شهدتها البشرية في العصور الوسطى أو في العصر الحديث قد لبست لباساً دينياً أو طائفياً. إنَّ الحداثة، هي أساس التقدم والمدنيّة والتي تجعل الدولة تنظر إلى الإنسان باعتباره مواطناً حراً بغضّ النظر عن دينه أو مذهبه وتجعل الدين مسألة شخصية صرفة. فإنسانية الإنسان هي القيمة المطلقة، ترسيخ قيمة التّسامح -بالمعنى الديمقراطي- هو الطريق الحقيقي والجاد لمجابهة الأنانية والتحجّر والتعصب في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وإحلال الاطمئنان محل الخوف، والتضامن بدل الإقصاء والتهميش في المجتمعات المتقدمة وفي غيرها على حدّ سّواء. فالتّسامح قيمة محورية في التنمية وإليها ترجع كلُّ قيم حقوق الإنسان. كما إنَّ التسامح -بالمعنى الذي نقصده- يظل من جوهر ديننا الإسلامي الحنيف، وهو في صلب تقاليدنا الاجتماعية، وهو ميّزة تاريخ البحرين الذي يشكل مثالاً لانصهار التنوع في البنية الحضارية، ولكن للأسف فإنَّ نمو الاتجاهات الطائفية والتمييزية خلال السنوات الماضية بسبب سطوة تأثير الجمعيات والتيارات السياسية - الدينية الطائفية، قد أدّى إلى تنامي نزعات عدائية ضد الآخر -حتى الشريك في الوطن- وهذه التيارات تكرِّس جلّ جهدها اليوم لحفر الخنادق التي تعزلها عن الآخرين حتى بالنسبة إلى العناصر المكوِّنة للنسيج الاجتماعي المحلّي، فما بالك بالآخر بالمفهوم الديني والسياسي والثقافي خارج الفضاء الوطني، وطالما أنَّ هذه الجمعيات تنبني على أسس دينية - طائفية، فإنَّها لن تكون قادرة بتركيبتها تلك على استيعاب وممارسة قيم التسامح بكافة معانيها السياسية والدينية والثقافية، حتى وإن ادّعت غير ذلك