بقلم - د. أشرف محمد كشك:
على الرغم من كونها قمة سنوية عادية لدول حلف شمال الأطلسي «الناتو»فإنها قد انعقدت هذا العام في ظل ظروف غير عادية، الأمر الذي انعكس على بيانها الختامي.
وبعيداً عن الخوض في ظروف انعقاد تلك القمة، تثار تساؤلات ثلاثة جوهرية، أولها: هل تعد الاستجابة السريعة من أعضاء «الناتو» للرؤية الأمريكية لمواجهة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» إعادة للتأكيد على المقولة التقليدية إن السياسات الأمريكية لاتؤتي ثمارها من دون تعاون وثيق مع حلف الناتو بالرغم من كونها أكبر أعضاء الحلف، وتسهم بحوالي 75% من ميزانيته؟ وثانيها: هل يعد التوافق الأمريكي-الأطلسي الجديد جزءاً من استراتيجية لإدارة الصراع مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية؟ وثالثها: هل نحن إزاء سياسات أطلسية جديدة بالفعل تجاه منطقة الشرق الأوسط عموماً وقضايا المنطقة العربية على نحو خاص؟
وواقع الأمر أنه لا يمكن الفصل بين التساؤلات الثلاثة مع الأخذ في الاعتبار أوزانها النسبية، فعلى صعيد العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو، لا تعد هذه هي المرة الأولى التي يتدخل فيها حلف الناتو في الأزمات الإقليمية، بل كانت هناك ثلاث سوابق في هذا الشأن، الأولى: خلال الحرب العراقية – الإيرانية «1980-1988» عندما قامت إيران بمهاجمة سفن النفط الخليجية، ما حدا بهذه الأخيرة لرفع أعلام دول رئيسية في الحلف طلباً لحمايتها، والثانية عام 1991عندما قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً بناءً على قرار مجلس الأمن لتحرير الكويت من الغزو العراقي لأراضيها، وشاركت الدول الرئيسية في الحلف ليس تحت مظلة الحلف وإنما وفقاً للقرار الأممي المشار إليه، والثالثة: خلال الأزمة الليبية عام 2011. صحيح أن حلف «الناتو» استطاع إنهاء تلك الأزمة بيد أن الضربات الجوية الأمريكية في بداية الأزمة كان لها أثر مهم في نجاح عمليات الحلف.
من ناحية أخرى يلاحظ وجود توافق أمريكي أطلسي على طبيعة الخطر الذي يواجه المصالح الغربية عموماً، ربما يكون هناك اختلاف في آليات المواجهة لكن هناك اتفاق على مضمون الخطر الأمر الذي أدى لاتفاق دول الحلف على الالتزام بنسبة الإنفاق العسكري خلال العقد المقبل عند 2% وهي النسبة التي لا تلتزم بها في الوقت الراهن سوى أربع من دول الحلف، لإعادة التأكيد على مبدأ « الدفاع الذكي» ومضمونه باختصار حتمية وجود جهود تكاملية فيما بين أعضاء الحلف للوصول إلى أشكال متكاملة من الدفاع في حدود الميزانية المتاحة وهو ما تضمنه البيان الختامي لقمة الحلف في شيكاغو عام 2012، حيث يلاحظ أن نسبة الإنفاق في بعض أعضاء الحلف تراجعت إلى أقل من 1% خلال عام 2013 بسبب الأزمة الاقتصادية.
وعلى صعيد الصراع الغربي - الروسي حالياً على خلفية الأزمة الأوكرانية، فإن ثمة اتهامات عديدة وبخاصة من جانب الرأي العام الغربي للحلف بأن رد الفعل الأطلسي لم يكن مساوياً للسلوك الروسي في أوكرانيا الأمر الذي أثار التساؤل مجدداً حول جدوى استمرار الحلف كتحالف أمني، ومن ثم فقد حسم بيان قمة ويلز ذلك الجدل وهو ما تمثل في اتفاق قادة الحلف على تشكيل قوة تسمى «رأس الحربة» قوامها 13500 جندي يمكنها الانتشار خلال 24 ساعة فقط، وهو القرار الذي وصفه أمين عام الحلف أندريه فوغ راسموسن بالقول «أن التدخل الروسي في أوكرانيا كان لحظة يقظة للحلف ولا يمكننا التساهل في أمننا».
وللإجابة على التساؤل الثالث بشأن السياسات الجديدة لحلف الناتو، ينبغي التأكيد على أن أزمة داعش لم تكن منشأة لهذا الدور الأطلسي بل إنها أوضحت مهام الحلف الجديدة التي تضمنها المفهوم الاستراتيجي للحلف الصادر عام 2010 حيث أشار إلى أنه «من شأن حالات عدم الاستقرار في مناطق ما وراء حدود الدول الأعضاء أن تشكل تهديداً مباشراً لأمن الحلف» الأمر الذي يتطلب «درء مخاطر الإرهاب العالمي من خلال التشاور بشكل أكبر مع شركاء الحلف»، ومن ثم فإن دور الحلف تجاه تحدي الإرهاب ليس سوى بداية لدور أكبر تجاه قضايا الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط عموماً لسببين، السبب الأول: اعتبارات الواقع العملي فالحلف يضم في عضويته وشراكاته أكثر من ثلث أعضاء منظمة الأمم المتحدة، إذ يضم الحلف 55 دولة «28 أعضاء و20 دولة ترتبط مع الحلف باتفاقيات ثنائية، بالإضافة إلى 7 دول متوسطية ضمن الحوار المتوسطي»، ذلك التحالف يعد بديلاً عملياً للتدخل السريع تجاه التهديدات الوشيكة التي تتطلب إجماعاً دولياً داخل منظمة الأمم المتحدة ربما يعد معوقاً لتدخلها بما يعني تحول الأزمات إلى كوارث وهي المشكلة التي تجاوزها «الناتو»، بل إن هناك أمرين يعززان دور الحلف للنهوض بأدوار أمنية في مناطق النزاعات، الأول: القرار الذي أصدره مجلس الأمن في إبريل عام 2014 بشأن ضرورة إصلاح القطاع الأمني في مناطق ما بعد الصراع، وهي مسألة مهمة نظراً لخبرة «الناتو» الممتدة في تلك المسألة في دول أوروبا الشرقية، وأفغانستان والعراق، فضلاً عن إشارة المفهوم الاستراتيجي للحلف عام 2010 إلى ذلك بالقول «تستهدف استراتيجية الناتو الجديدة إعادة استقرار أوضاع ما بعد النزاعات»، والثاني: أن موضوع الإرهاب كان أحد البنود الرئيسية لمبادرتي حلف «الناتو» تجاه المنطقة، الحوار المتوسطي عام 1994 ومبادرة اسطنبول عام 2004، فضلاً عن تأكيد الأمين العام للحلف أندرس فوغ راسموسن خلال افتتاح اجتماع وزراء خارجية الدول أعضاء الحلف مع الدول الخليجية الشريكة في مبادرة اسطنبول للتعاون في إبريل 2014 القول «نواجه تحديات أمنية متداخلة ومعقدة مثل الإرهاب والقرصنة والتسلح ونحتاج إلى معالجتها مجتمعين» في إشارة مؤداها إلى أن هناك حاجة جماعية للتصدي للتحديات الأمنية المشتركة، وهو الأمر الذي انعكس على مواقف أعضاء «الناتو» بشأن الدعوة الأمريكية لمواجهة تنظيم داعش، حيث أبدى أعضاء الحلف استعدادهم لأن يكونوا «جزءاً من العمل الممنهج» للتصدي لمخاطر الإرهاب، وهو ما يعني في الوقت ذاته تحولاً نوعياً في التوافق الأوروبي الأطلسي بشأن مواجهة الإرهاب، إلا أنه غير معروف حتى الآن هل سيشارك حلف الناتو في شن ضربات جوية ضد تنظيم داعش تنفيذاً لاستراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي أعلنها وتعهد فيها بتدمير التنظيم والقضاء عليه من خلال توسيع الضربات الجوية في العراق والاستعداد لشن ضربات على التنظيم كذلك في سوريا»؟ أخذاً في الاعتبار تداخل عضوية الدول الأوروبية بين الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، حيث إن هناك 21 دولة أوروبية هي في الوقت ذاته أعضاء في الحلف وتختلف رؤى الجانبين بشأن مواجهة الإرهاب ففي حين كان الاتحاد الأوروبي يرى أن العمل على إنهاء أسباب التهديدات يعد الآلية الملائمة لمواجهتها فإن رؤية «الناتو» تنهض على مبدأ حتمية التصدي لتلك التهديدات عسكرياً، فضلاً عن أنه في ظل سعي «الناتو» للتمدد في مناطق عديدة في العالم، فإن مسألة الهوية الأمنية الأوروبية المستقلة تظل هدفاً بعيد المدى للاتحاد الأوروبي.
أما السبب الثاني فيتمثل في أن التحديات التي نتجت عن تحولات العالم العربي منذ عام 2011 تقدم فرصاً جديدة للحلف للانخراط في قضايا المنطقة بعد ما كانت تمثل تحدياً لمبادرات وسياسات الحلف تجاه المنطقة التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من أمن دول الحلف وهو ما أشار إليه صراحة الأمين العام للحلف في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط في يونيو 2011 بعنوان «حلف الناتو والربيع العربي» حيث ذكر» أن أعضاء الناتو تفهموا منذ أمد بعيد أن أمننا مرتبط على نحو وثيق بأمن جيراننا في الجنوب».
ومع التسليم بأهمية ما سبق فإن نجاح الاستراتيجيات الجديدة لحلف الناتو تجاه قضايا الأمن الإقليمي عموماً تظل مرتهنة بأمور ثلاثة أولها: أنه في ظل طبيعة التحديات الأمنية الراهنة وفي مقدمتها مشكلة الإرهاب التي تتطلب مواجهة بعيدة المدى فإن آلية العمل العسكري- بالرغم من أهميتها- فإنها قد لا تكون كافية، وبمعنى آخر قد يكون من الأفضل لحلف الناتو العمل على الحيلولة دون اندلاع الأزمات بدلاً من الانخراط في معالجة آثارها، وتجنب الوقوع في «فخ» الحلول العسكرية البحتة، وثانيها: أنه بالنظر إلى تشابك وتداخل القضايا الإقليمية بشكل غير مسبوق فإنه يتعين على الحلف بلورة استراتيجية متكاملة للتعامل مع تلك القضايا وبخاصة تلك التي تمثل تهديداً مباشراً لأمن الشركاء وفي مقدمتها أمن الطاقة وحالة عدم الاستقرار في دول الجوار الإقليمي، وثالثها: إمكانية تعزيز عمل الحلف مع المنظمات الإقليمية مثل منظمة الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، صحيح أن التهديدات الأمنية الراهنة قد أنهت الحدود الفاصلة بين مستويات الأمن الثلاثة وهي المحلي والإقليمي والعالمي إلا أن ذلك لا يعني انتهاء دور المنظمات الإقليمية بل إن استراتيجيات الحلف بدون التنسيق مع تلك المنظمات لن تكون سوى تكراراً لتجارب تدخل سابقة للحلف لم يحالفها النجاح.
* باحث بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة