سميت بأم الحصم لكثرة وجود «الأصداف صغيرة الحجم»
كنت أبيت عند ابن خالتي في أم الحصم بشكل أسبوعي
في بيت عبدالله الشملان تعرفت لأول مرة على رقص النساء «المرادة»
في أم الحصم بيوت عديدة مبنية من الطين و«الفروش»
أم شعوم كانت عندي أجمل برك العالم في مرحلة الصبا



كتب - علي الشرقاوي:
في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، كانت أم الحصم عبارة عن مصيف، وسبق أن سكنت فيها ذات صيف، مع عائلة كانت والدتي تعمل لديها كشغالة، تغسل الثياب وتقوم بعملية الكنس، وكانت مهمتي عند هذه العائلة، القيام بإنجاز بعض المهام الصغيرة للعائلة، كمشاوير شراء الخبز أو جلب الحليب أو أخذ الأولاد إلى السكة والتي تناسب سني في تلك الفترة.
وأم الحصم كما تقول المصادر؛ إحدى القرى الساحلية، قريبة من قرية الماحوز، مقابلة لجزيرة النبيه صالح .قربها الماحوز ، وتعتبر من مصايف البحرين قديماً وهي منطقة سكنية مكونة من المنازل والمباني حديثة الإنشاء، إلى جانب احتوائها على عدد من المتاجر والمطاعم الأجنبية. وسميت بهذا الاسم لكثرة وجود الحصم فيها سابقاً، وهو عبارة عن أصداف صغيرة الحجم كانت تستخدم لتزيين البيوت من الخارج.
أغلبية مساحة أم الحصم، كانت عبارة عن عشيش (بيوت من جريد النخل والسعف، والجذوع، وبعض الدنجل والمنكرور والذي هو حصران البوص، والذي يصلح بشكل جيد لعمل السقف) عادة ما تجلب من البصرة، لا شوارع، لا خباز، لا مطعم، ربما كانت هناك برادة أو أكثر من دكان، لا أذكر من تلك الفترة إلا القليل، ولكن بعد فترة، ربما كانت أوائل الستينات انتقلت عائلة بيت خالي إبراهيم بوسيف إلى أم الحصم ولأن أختي زينب، هي زوجة ابن خالي، خليل إبراهيم بوسيف، صاحب أستديو الهلال، فقد تسنى لي أن أذهب إليهم أسبوعياً للمبيت عندهم، واللعب مع أبناء خالي.
لم تكن هناك إلا بيوت عديدة مبنية من الطين والفروش ( أحجار بحرية) أكبرها كان بيت يوسف انجنير وبيت عادل القصيبي، وبيت الشيخ عطية الله آل خليفة وبيت الشيخ صقر آل خليفة وبيوت الشملان كانت أصغر، الذين يشكلون أغلبية العوائل، بيوت آل الشملان كانت مبنية من الطين، ما عدى بيت الشاعر عبدالرحمن الشملان، والد صديق الطفولة شملان عبدالرحمن الشملان، الذي كان هو الآخر مبنياً من السعف.
ولأن الصغار يتعارفون بسرعة، وبدون حواجز، فقد تعرفت في تلك الفترة بعبدالله عيسى الشملان وشملان عبد الرحمن الشملان، ومن ثم عمر الشملان، وبدر وبعض الأشخاص الذين نسيت أسماءهم.
كنت أذهب مع عبدالله الشملان إلى بيتهم، وهناك شاهدت لأول مرة رقص النساء (المرادة) وعرفت من عبدالله أنه أخاه ال أكبر، أحمد الشملان، يدرس في الكويت، وكان يتكلم عنه بحب.
مع عبدالله عيسى الشملان، كنت أذهب في جولات إلى نخيل أم الحصم، المحمية عادة بأسوار من الجريد القديم والتي يسهل اختراقها، خصوصاً في الصيف، لقطع بعض اللوز، وملاحقة العصافير، وقطف البسر من الشماريخ التي كانت تدعونا إليها، فقد كانت المزارع مفتوحة، طبعاً هذا بالإضافة إلى السباحة في عين هرته، هذه العين التي كانت تقع خلف النادي البريطاني التي كانت بالنسبة لنا من أفضل عيون العالم. ورغم تحذير الكبار بأن عين هرته مسكونة بالجن، إلا أن الأطفال هم جن صغار ، فضوليون ولا يوقف أمامهم أي شيء.
عناق الأرض بالسماء
كانت هناك ربوة، قريبة من البحر، تطل على بحر بوغزال، خرجت من جسد الربوة نخلتان متعانقتان، بشكل رائع مازلت أرى أنهما أجمل نخلتين رأيتهما في حياتي ومازلت أرى أن قطعهما سيشكل جريمة في حق أم الحصم والبحرين بصورة عامة، لأنهما تشكلان رمزاً للعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة وبين البحر والأرض، وبين الأرض والسماء.
نخلتان تمثلان في تصوير، المفهوم العميق للحب الإنساني والتلاحم بين الذات والموضوع بين الوقت والآخر، استمرت علاقتي بعبدالله عيسى الشملان، إلى فترة 65. حيث قلت زيارتي لأم الحصم كثيراً عن السابق.
أحداث 65 في البحرين
تقريباً العام 1964، كنت شغوفاً بالقراءة أقرأ كل ما يمر أمامي، وفي بيت خالي، ومن خلال بن خالي حسين إبراهيم بوسيف الذي كان يكبرني بعدة سنوات، تعرفت على مكتبته والتي كانت تضم مجموعة من الكتب القومية، وبالذات لساطع الحصري، والحكم دروزة وبعض الكتب المترجمة، بدأت بقراءة العروبة أولاً ودفاع عن العروبة وكتاب القومية العربية، بعد ذلك أهداني حسين مجموعة من التي انتهى من قراءتها وبذلك تشكلت مكتبتي الخاصة.
كانت العروبة، عبر أطروحات ساطع الحضري، تمثل الخط الأول للنهضة العربية، فخارطة الدول العربية متلاصقة، العرب يحملون اللغة نفسها، ويحملون نفس التاريخ وبالتالي يحملون نفس المصير.
من هنا، كنت مهيئاً للمشاركة في أحداث 65، التي تمثل التحرك الأول بعد انتهاء أحداث 56، التي قادتها الهيئة «هيئة الاتحاد الوطني» بقيادة عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبد علي العليوات.
أتصور أن من قام بانتفاضة العام 1965 هم الطلبة والمدرسون، حيث استاءت البحرين من قيام شركة بابكو، بفصل عدد كبير من العمال، ولأن أغلب الطلبة كانوا أبناء أولئك العمال، قاموا بالاحتجاج ضد هذا الفصل التعسفي، والحكومة ما كانت تعي أهمية هذا التحرك الشعبي، و ما كانت تفهم أنه تعبير طبيعي وردة فعل مشروعة، فقامت بالرد بضراوة على هذا التحرك، ورأينا أنه للمرة الأولى التي دخلت فيها خيول الشرطة حرم مدرسة الثانوية، مما أدى إلى تفاقم الوضع.
امتدت المظاهرات إلى فترة من الوقت، وقامت السلطة، في تلك الفترة، باعتقال عدد كبير من عناصر الحركة الوطنية، طلاب، مدرسين، موظفين، أو ما يسمون بالبورجوازية الصغيرة، بالإضافة إلى طرد مجموعة كبيرة من الطلبة، من الأصدقاء والزملاء ، لم أكن منهم. بعد الاعتقالات الواسعة، هدأ الوضع
في أيام الانتفاضة ومن خلال المظاهرات التي تحدث في أغلب مدارس الثانوية في المنامة والمحرق، وتنتقل بصورة غير معروفة على الأقل بالنسبة إلى الشوارع، وكان من أهم الشوارع شارع نمرة 5 والذي لو تكلم لقال للتاريخ كم من الحالات الإنسانية التي تعرف عليها.
كنا نحن الداخلين المراهقة تواً، نسمع هنا وهناك عن أخبار المعتقلين في القلعة، أو سجن جزيرة حدا. عدد كبير من المدرسين الذين أعرفهم دخلوا المعتقل، ما جرى في المعتقل، لم أكن أعرف شيئاً. كان الأكبر سناً، خصوصاً أولئك الذين عايشوا أيام الهيئة، يقولون إن الحكومة لم تستطع أن تطفئ هذا التحرّك الشعبي الكبير كنت أحب الجمباز ، والسباحة وكرة القدم والقفز العالي ، لهذا عندما لا يكون هناك مجال للرياضة كنت أقرأ الكتابات الروائية المحرضة، وبالذات كتاب مكسيم جوركي (آلام) وكتابات إحسان عبدالقدوس (في بيتنا رجل) وشيء في صدري، والتي كنت أرى فيها نفسي بطل القصة أو الرواية، والذي يحاول أن يقدم كل ما لديه من أجل الوطن، ومن أجل أبناء الشعب. طبعاً يمكن القول إنني تعرفت على قصائد نزار قباني وأحببت مجموعة من قصائده التي حفظتها عن ظهر قلب مثل قصيدة «خبز وحشيش وقمر» و«يا جملاً من الصحراء لم يفطم».
الكتابات الأولى
لابد أن أعرج على مرحلة الكتابة التي كنت أكتبها بشيء من الخجل واللقاءات مع الصديق عبد الحميد القائد على كراسي دكان السيد محمد والذي كان يمثل مقر حركة أدبية جديدة تحدث في الحورة. كان القائد يتكلم عن ابن عمته عبدالواحد نور بشيء من التبجيل، لأنه يكتب الشعر.
بدأ إطلاق سراح المعتقلين، وكان من ضمن المطلق سراحهم، أحد أبناء الحورة والذي كان بيته قريباً من بيتنا، وهو الصديق الراحل عبداللطيف راشد الغني، فذهبت إليه للتهنئة بإطلاق سراحه، ومن خلال حكاياته وآرائه، بدأت مرحلة جديدة لي في التعرف على شيء من تاريخ الحركة الوطنية. حركة القوميين العرب وجبهة التحرير الوطني وحزب البعث.
من خلال عبداللطيف راشد تعرفت على أسماء العناصر الوطنية، منهم أحمد الشملان، وعلي ربيعة، وعلي دويغر ومحمد جابر الصباح، ومحمد بونفور، وبدر ملك وعلي الشيراوي، ومن خلال عبداللطيف راشد أيضاً، تعرفت على تجربة عبدالرحمن المعاودة، والسياب والبياتي، وصلاح عبد الصبور وغيرهم من الشعراء العرب والأجانب. ومنه أيضاً تعرفت على قصائد عبدالرحمن المعاودة ومنها قصيدة ( لسان الحال) حيث كان الكتاب ممنوعاً في تلك الفترة.
شيء عن أم شعوم
عين أم شعوم من العيون التي لها شهرة عالية في مرحلة صبانا، وقد كانت هذه العين مقصد البعيد قبل القريب، فهي كما يقول العارفون عنها أكثر منا، إن هذه العين الصغيرة في حجمها، الكبيرة في عطائها تغذي المنامة والقضيبية وأم الحصم والزنج بالماء العذب، فكانت تسقي النخيل والبساتين كأبي عشيرة وأبو هدي وأبو جلال أبو غزال والسعيدية والمنقولة ونخل بدو وغيرها.. وفي العين فيما مضى حمام من جهة الشرق يستخدم لغسل الثياب عادة، وعرف عن الحاج علي بن عبد علي فيما مضى أنه يقوم مع مجموعة من الرجال بتحميم العرسان والصلاة، ولهذا وذاك تعتبر العين بالنسبة لهم أساس المعيشة.
لا أعرف كم سنة مرت، منذ آخر لقاءاتي بعين أًم شعوم، ربما تصل إلى ما يقارب النصف قرن، ربما أكثر ، ربما أقل بعدة سنوات. أم شعوم بالنسبة لي ولجيلي الطالع من ركام الحركة السياسية والتي كانت تمثلها هيئة الاتحاد الوطني والتي لا أحد يعرفها إلا بـ (الهيئة) كانت عين أم شعوم الأكثر أمناً من العيون الأخرى، كعين عذارى وعين الرحى وعين قصاري. وأيضاً الأكثر قرباً، بالنسبة لنا نحن القاطنين منطقة الحورة والقضيبية أو فريج (حي) الفاضل، فهي لا تحتاج منا إلا إلى السير على الأقدام.
لم نكن نعرف قرية الماحوز، بقدر ما نعرف أم شعوم، فهي بالنسبة لنا أكثر شهرة من القرية التي تحتضنها، وأكثر شهرة من جميع المناطق القريبة منها.
كان الذهاب أو الرحلة إلى أم شعوم، بمثابة الانتقال من البحر إلى الغابات، أو كأنك تنتقل من الطين إلى الخضرة ومن البحر إلى العيون العذبة. أم شعوم لم تكن عيناً فقط، إنما كانت كل ما هو جميل ومبهج في هذه الحياة.
في تلك الفترة لم نكن نعرف أسماء القرى والمناطق القريبة منها، بقدر معرفتنا للمناطق التي تجمعنا فيها رفقة المرح والفرح. لا أحد منا يذهب إلى أي عين من العيون الطبيعية في البحرين إلا من خلال مجموعة، فالبهجة، في أي زمان وأي مكان، هي وليدة الجماعة، هي ابنة لأكثر من واحد في هذه الحياة.
لم نكن نعرف اسم العدلية، وربما لم يكن هذا الاسم مطروحاً، ولذلك علينا العودة إلى تاريخ منطقة الماحوز وما يجاورها في تلك الفترة. وربما أحاول أن أعود إلى تاريخ المناطق في البحرين، ربما أعرف بالضبط المناطق المجاورة، فما قرأت لم يعجبني، لأن تاريخي الشخصي مختلف عن التواريخ المطروحة.
عين أم شعوم، كما هو معروف للعديد من الناس سميت بأم شعوم نسبة إلى سمك الشعوم الذي كان يعيش بها بكثرة. في الواقع أننا لم نلحظ هذه الكثرة، بقدر ما شاهدنا عدداً من السمكات، وحاول البعض أن يصطادها لكن الأغلبية كانت تنهره، على أساس أنه من المحرّم اصطياد السمك الذي يعيش في مثل هذه العيون.
كانت هناك عينان، العين العودة التي نسبح فيها ـ والعين الصغيرة التي كانت تسمى عين الحميرـ لأنها عبارة عن بركة كبيرة غير عميقة، ترتوي منها الحمير التي تتمشى في النخل المجاور للعين، بالإضافة إلى استخدامها لغسل الثياب وأواني الطبخ، و الاستفادة من الماء في عمليات البناء.
كان النخل الذي تقع داخله عين أم شعوم كبيراً بالنسبة لنا، لأطفال لا يتجاوز أكبرهم الثانية عشرة من عمره، كانت المسافات التي تفصل منطقة عن أخرى طويلة والنخيل عالية جداً، والدواليب (البساتين) أكبر من نستطيع قطعها على الأقدام. وسمعنا في تلك الفترة أن بعض العرسان، وبسبب كون عين عذارى بعيدة عن منطقتهم، فإنهم كانوا يجهزون المعرس في حمام عين أم شعوم.
كان الذهاب إلى عين أم شعوم يعتبر من المغامرات التي لا يستطيع أن يقوم بها إلا الإنسان الجريء، كنا نعتبر أنفسناً من أجرأ الأطفال الذين كانوا يضربون بتهديدات الأهل عرض الحائط، لذلك كنا الأكثر معرفة بأغلب المناطق والعيون والنخيل، فإن لم نذهب على سياكل _ دراجات هوائية) كانت الأقدام قادرة على القيام بمثل هذه المهمات، التي نعتبرها شرط القوة والجرأة والجسارة.
عودة الطائر الجريــح
(للذي عاد بعد الطيران إلى القفص القديم)
رجعت بعد الغربة البلهاء
من مفاوز
الأحزان يا «أم الحصم»
لكنما تجاربي
قد فجرت عواطفي
بذلك النغم
جئت من الفضاء للقيود
جئت من الرعود للجمود
جئت من الصمود
محنط القدم
تحتجب الآهات بين مقلتي
تحتقن الدموع في الفؤاد
تطارد الدماء في أنسجتي
في بسمتي تعمق الألم
تنخلع الضلوع من مكانها
يكشر الزمان للسعف
تحترق الأقدار في القضاء والعدم
وها هنا
أعانق الرمال في الخليج
والنخيل
في مواسم الرطب
أعانق الإرهاف - جوف القلب -
في مكامن العصب
أقبل الصغار
أقبل الأمواج في الشطوط والبحار
أغوص حتى القاع في مراجل النيران والغضب
أحيا إليك يا خليج
أحيا إليك يا خليج
في موسم الأفراح والكرب
رجعت يا أطفال، يا كهول، يا شباب
كرهت ما رأيت من تطاحن الذئاب
عشقت ما رأيت من زغاب
أكلت من حشائش الشراب
شربت من كثافة السحاب
الماء قطرتين
أخي يقول إنني سقطت مرتين
«سقطت من والدتي
محطة أولى إلى الحياة
سقطت مجروحاً على أسنة الممات
وها أنا ..
أعيش في أوعية السعال
في الأقفاص
في منعطف الشقاء
تختنق السطور بالحروف
تموت في شفاهنا رائحة الكلام
تولد من حديثنا تعاسة الغباء
يصطدم الرجال بالنساء
يصطدم الإنسان بالإنسان في الرصيف
يرتفع الصراخ
ويصمتان
معاً.. معاً مثل فقاعات الهواء
انطفأ المصباح قبل الفجر في الليل الطويل
لا زيت في مصباحنا
لا أكل في أكواخنا
لا ماء يسري بين قيعان النخيل
تمتزج الأشياء بالأشياء في داخلنا
يختلط السرور بالعويل
كبرت في البعد
وفي الأسفار
والتجوال يا والدتي
كبرت في إشراقة الزمن
كبرت في الصراع
عدت إلى الوطن
عدت لكي أخبز في مخابز الجياع
«الأضواء العدد 259. 27 أغسطس 1970»
لولو و محار أحمد عيسى الشملان وعلي الشرقاوي
عرفت أم الحصم لما عرفتك يا أحمد الشملان
وعرفت أن النخل يثمر إذا ظل بالأمل شملان
ولبش الليل في الهيرات حـق اللي تعشم لان
علــى نبرة طلايعنا مشينا في الدجى نخاطر
وف كل حالة بالخطرة نزيح فشوت ونخاطر
وإن قالوا إذا نبغــي النجاة لابد لنا نخاطر
أقول آنه تعلمت النجاه مــن أحمد الشملان.