كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
البحر ذلك الصديق المخلص المحب؛ أم أنه العدو الغدار الذي لا أمان له؟!. يوهمك بأن الأمور عادية والأجواء توحي بالمحبة والطمأنينة، ويدفعك للإبحار فيه بكل أريحية، وفجأة تجد نفسك وسط زوابع وعواصف لا نهاية لها ولا مخرج منها إلا الموت والدمار والهلاك، فتتحسر على كل لحظة طاوعت ذلك الصديق الغدار ورافقته برحلة بحرية كنت تأمل أن تكون نهايتها سعيدة لكنك كمن وقع في فخ لا يستطيع الخروج منه.
ربما تكون رواية الكاتب آرنست همنغواي واحدة من أشهر القصص المجسدة للمعاناة بين الإنسان من أجل التغلب على البحر وأسماكه الشرسة للوصول إلى بر الأمان الذي كان مجرد حلم لم يتحقق وذهب أدراج الرياح، تلك الرواية التي جسدها بدرجه فائقة العملاق أنتوني كوين في واحد من أروع أفلام السينما الأمريكية.
إن الإنسان كان يعتقد قديماً بخرافات عديدة عن البحار والمحيطات، ولم تتوفر للبحارة آنذاك معرفة علمية حقيقية عن الأحوال السائدة في أعماق ذلك الغامض المسمى «البحر» حيث كانت المعلومات عن التيارات البحرية نادرة، وهذا ما حدا بالخرافات إلى الإحاطة بالبحار الراكدة التي لا يمكن أن تعبرها البواخر، حيث أعتقد قدماء الرومان بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية باستطاعتها إيقاف حركة السفن، رغم أنهم كانوا على علم بأن الرياح تؤثر على الأمواج، والتيارات السطحية إلا أنه كان من الصعوبة بمكان معرفة شيء عن الحركات الداخلية في البحار، فالبحر ليس ذاك الامتداد الذي لا يحده نظر ولا هو تلك القصيدة في كتاب شعر. إنما هو عنوان الانتقال والنجاة والبقاء ومصدر الخيرات.
البحر.. وخيرات الأرض
البحر في العصور الغابرة كان باب الرزق الأول والأساسي سواء من خلال الثروة السمكية أو من خلال كونه الوسيلة التجارية الأولى في زمن لم يعرف وسائل نقل أخرى كالقطارات والطائرات والسيارات، لذا قيل إن رزق البحر واسع لا يشح ولا يجف، ولا تتأثر ثروته السمكية بتغير الفصول، كما لم تتغير أهميته من حيث إنه وسيلة النقل التجارية الأولى والمصدر الرئيس للانتعاش الاقتصادي في العديد من دول العالم.
من جهة أخرى، تشكل البحار والمحيطات المساحة الأكبر جغرافياً من الأرض، وهي همزة الوصل بين البلدان، من هنا ولدت العلاقة بين الإنسان وكل عناصر الطبيعة لأن الماء هو الجامع المشترك بينها، ولهذا السبب فرض البحر نفسه كمسيطر على كل ما تحتويه الأرض من عناصر.
الإنسان والبحر.. وجهان متشابهان
البحر عالم من المتناقضات والغموض، هدوء وعاصفة، سكينة وصخب، كرم وبخل، خير وشر، لين وقسوة، بساطة وجبروت، أمان وخوف، غدر ووفاء… وكل هذه المعاني لا تختلف عن صراع الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، ففي صراعه مع ذاته نرى الإنسان، أحياناً هادئاً للغاية تظهر ملامح وجه صفاء وضبطاً انفعالياً يخفي صراعات مخيفة لا يعرف، هو نفسه، متى تنفجر، فيكون، بذلك، أشبه بهدوء البحر الذي قد يخرج منه «تسونامي « مدمر في أي لحظة.
عناصر مختلفة الأشكال والألوان
من جهة ثانية يحتوي البحر على عناصر حية مختلفة الأشكال والألوان لا تختلف عن البشر من حيث اختلاف الجنس والولادة والموت والتضامن والتقاتل وافتراس الكبير للصغير. وانطلاقاً من كل هذا جسد البحر، بالنسبة للإنسان، صورة واضحة عن علاقته بهذا الكل الذي هو الكون، وبما أن الكون يحتوي على الكثير من الغموض والأسرار، صار البحر أيضاً انعكاساً لهذا الغموض وهذه الأسرار، وبالتالي وجد الإنسان شبهاً كبيراً بينه وبين البحر فخلق بالتالي تواصلاً وثيقاً معه طالما أن الشبه سبب أساسي للتلاقي.
أما اكتشاف عمق البحر فلا يختلف عن اكتشاف الإنسان لأخيه الإنسان فعندما يتجاوز الفرد صراعاته وأحقاده ويتوقف عن مقاتلة الآخر ويغوص داخله يكتشف جوهره وقيمته، تماماً كالبحر الذي يكشف الغواص فيه عن ثرواته الدفينة.
في الحديث عن العمق أيضاً نشير إلى أن العمق والغوص صفتان يكتشفهما الإنسان في نفسه عندما يتأمل البحر لاسيما عندما يكون حزيناً أو مرهقاً، فلأنه يشبه البحر يصبح قادراً على الغوص داخل نفسه ليكتشف أنه عميق ومهم لكنه لم ينتبه لأهميته، ومما يساهم في هذا الاكتشاف استنشاق مادة اليود المنشطة واستنشاق الهواء المزود بالأوكسيجين، الأمر الذي يؤدي إلى رفع الطاقة وتغيير عمل كيمياء المخ.
ومن أوجه الشبه أيضاً بين البحر والإنسان كتمان السر، قد عرف عن البحر أنه « أبو ألأسرار وكاتمها « فالإنسان طالما باح بأسراره للبحر من دون أن ينتقده ومن دون أن يقاطعه، يفصح عنده عما يعذبه ويزعجه وهو متأكد من أن أسراره ستبقى طي الكتمان ولن يكشف واحد منها.
التأمل بالبحر يزيل التوتر
أصبح معروفاً أن التأمل علاج سحري للباحثين عن الراحة والتخلص من التوتر. لذلك أصبح البحر ملجأ الراغبين في إراحة النفس والجسد. ذلك أن الامتداد اللامحدود الذي لا تحده جدران ولا حواجز ينعش العين ويؤثر بشكل إيجابي على الجهاز العصبي فيشعر الناظر بالراحة النفسية. من جهة أخرى تأكد، علمياً، وجود علاقة وثيقة بين الألوان والحالات النفسية أسهم في نشوء وتطوير العلاج بالألوان. فاللون الأزرق يساعد على سحب الطاقة السلبية من الجسم واستبدالها بالطاقة الإيجابية ويزيل التوتر العصبي والاكتئاب والإحباط. فعندما يتعرض الجسم للون الأزرق من المحيط الخارجي يتلقى اللون الأزرق الكامن داخل جسم الإنسان الإشارة الخارجية للون نفسه، من خلال عملية تشبه تموجات مغناطيسية ـ كهربائية، أي أن ما يحصل هو نوع من الاتصال غير المنظور يتعدى حاسة البصر، فتتقوى خصائص نفس اللون داخل الجسم البشري لتؤمن له الراحة والهدوء، الأمر الذي يساعده على مقاومة الحالة العصبية الناتجة عن ضعف المناعة الداخلية.
وكلما مر الإنسان بحالة من التوتر والإحباط يضعف جهاز مناعته الجسدية إلى حدود التلاشي، فتضعف المقاومة وتتأثر الحالة النفسية بشكل سلبي. أما إذا حاول الإنسان تقوية عنصر المقاومة بأعضائه الداخلية، فسيفشل أي عامل سلبي باختراق الجسم، ولو راقبنا إنساناً يشعر بالتعب الشديد والإرهاق والتوتر لوجدناه يلجأ إلى الطبيعة أو إلى البحر كرد فعل طبيعي للبحث عن الهدوء من دون أن يعرف لماذا البحر والطبيعة، لكنه يكون قد سمع أن اللجوء إلى هذين المكانين علاج طبيعي أو اختبر بنفسه هذا الأمر، لكن التفسير العلمي للراحة والهدوء أن ذبذبات اللونين الأزرق والأخضر هي التي تمد الجسم بالهدوء والراحة فيقاوم الحالة العصبية السلبية ويسترجع هدوءه واتزانه، ناهيك عن أن اللون الأزرق يساعد الإنسان على الإحساس بالصفاء واسترجاع ثقته بنفسه. وفي دراسة عالمية شملت العديد من السكان الذين يعيشون على الشواطئ وسكان الجزر تبين وجود جوامع مشتركة بينهم هي الهدوء والتهذيب والتعاون والتضامن وكلها تدل على الصفاء النفسي الذي يؤمنه اللون الأزرق.
لذلك على كل إنسان يحتاج أن يكشف عن ألمه من دون خجل، أن ينسى كل ما يحيط به، أن يعيش لحظة صمت، أن يتفاعل مع الهمس، أن يسافر إلى عالم من الجماليات التي يتمنى ألا يعود منه، أن يجلس أمام البحر يتأمل. فالعلاقة الاتحادية مع المكان الذي يشكل مصدراً للراحة تضعف علاقة الحواس بالأشياء المحيطة فتتحقق الراحة النفسية.
البداية في القرن الثامن عشر
يبين تاريخ العلوم أن الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها لم تبدأ إلا في بداية القرن الثامن عشر عندما اخترعت الأجهزة المناسبة لمثل هذه الدراسات الدقيقة، ومن هذه الأجهزة التي استعملت لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو «قرص سيتشي» (The Sec chi disk) وهو عبارة عن قرص أبيض يتم إنزاله في الماء ليسجل العمق الذي تتعذر رؤيته كنقطة قياسية، ومع نهاية القرن التاسع عشر تم استخدام الوسائل التصويرية التي تم تطويرها خلال الثلاثينات من القرن العشرين.
قال تعالى: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخٌ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان *) والمرجان: هذا نوع من الحلي لا يوجد إلا في البحار المالحة. فقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي أن البحرين المذكورين مالحان فالآية تتكلم عن بحر يخرج منه مرجان وبحر آخر يخرج منه مرجان، الأول ملح وهذا ملح متى عرف الإنسان أن البحار المالحة مختلفة وليست بحراً متجانساً واحداً لم يعرف هذا إلا العام 1942.
في العام 1873 عرف الإنسان أن مناطق معينة في البحار المختلفة تختلف في تركيب المياه فيها.. عندما خرجت رحلة تشالنجر وطافت حول البحار 3 أعوام وتعتبر هذه السفينة رحلة تشالنجر هي الحد الفاصل بين علوم البحار التقليدية القديمة المليئة بالخرافة والأساطير وبين الأبحاث الرصينة القائمة على التحقيق والبحث هذه الباخرة هي أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها لقد أقامت محطات ثم بقياس نتائج هذه المحطات وجدوا أن البحار المالحة تختلف والحرارة والكثافة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين وفي العام 1942 فقط ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت نتيجة لإقامة مئات المحطات البحرية في البحار فوجدوا أن المحيط الأطلنطي مثلاً لا يتكون من بحر واحد بل من بحار مختلفة وهو محيط واحد.
الفينيقيون وضعوا أسس الملاحة
يعتبر الفينيقيون أول من وضع أسس الملاحة البحرية في علوم البحار، والصينيون استخدموا البوصلة البحرية في تحديد الاتجاهات في البحر، وقام العالم الفلكي (هيباركوس) باختراع الإسطرلاب الذي سهل الاستعانة بالنجوم في عملية الإبحار، واخترع أيضاً (جون هادلي) جهاز اسمه الربيعة واخترع العالم (جون ماير) جهاز اسمه السدس وقام أيضاً العالم البرتغالي ماجلان قام برحلة تاريخية حيث أبحر تحت العلم الإسباني، كما إن العالم الهولندي جيرادوس ميركاتور أول من رسم الخرائط وطلق عليها اسم «الأطلس»، أقسام علوم البحار، علم البحار الفيزيائي: الذي يختص بدراسة العوامل الفيزيائية للبحار، علم البحار الكيميائي: الذي يختص بدراسة الخواص الكيميائية للبحار، علم الأحياء البحرية.
سحب ركامية تحجب ضوء الشمس
تقول الموسوعة البريطانية: غالباً ما تكون البحار والمحيطات العميقة مغطاة بسحب ركامية كثيفة تحجب قدرا كبيراً من ضوء الشمس، كما يظهر في أكثر صور الأقمار الاصطناعية، فتعكس هذه الغيوم كمية كبيرة من أشعة الشمس وتحجب قدراً كبيراً من ضوئها، وأما الضوء الباقي فيعكس الماء قسماً منه، ويمتص القسم الآخر، الذي يتناقص تناقصاً رأسياً مع تزايد عمق المياه، فتنشأ مستويات من الظلمات داخل هذه البحار حتى عمق مائتي متر ويشتد الظلام بعد عمق 1000 متر حيث تنعدم الرؤية تماماً، وقد كان»قرص سيتشي» (The Sec chi disk) هو أول جهاز استخدم لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط. - استطاع العلماء مشاهدة الأسماك في البحار العميقة على عمق يتراوح بين (600 م – 2700 م) والتي تستخدم أعضاء مضيئة لترى في الظلام وتلتقط فريستها، - كشفت علوم البحار الحديثة مع نهاية القرن التاسع عشر بعد استخدام الوسائل التصويرية التي تم تطويرها خلال الثلاثينات من القرن العشرين، حيث استعملت الخلايا الكهروضوئية التي كشفت عن وجود أمواج عاتية في البحار العميقة تقول الموسوعة البريطانية: وظاهرة الأمواج الداخلية الموجودة في أعماق البحار لم يعرفها الإنسان إلا قبل مائة سنة فقط.
خرافات الأسماك السحرية
صدق الإنسان قديماً خرافات عديدة عن البحار والمحيطات، ولم تتوفر للبحارة آنذاك معرفة علمية حقيقية عن الأحوال السائدة في أعماق البحار، حيث كانت المعلومات عن التيارات البحرية نادرة، وهذا ما حدا بالخرافات إلى الإحاطة بالبحار الراكدة التي لا يمكن أن تعبرها البواخر، حيث اعتقد الرومان القدماء بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية على إيقاف حركة السفن، ورغم أن القدماء كانوا على علم بأن الرياح تؤثر على الأمواج والتيارات السطحية إلا أنه كان من الصعوبة بمكان معرفة شيء عن حركة الأمواج الداخلية في البحار العميقة، ويبين تاريخ العلوم أن الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها لم تبدأ إلا في بداية القرن العشرين عندما اخترعت الأجهزة المناسبة لمثل هذه الدراسات الدقيقة.
إعجاز القرآن في علوم البحار
إن الأسماك في تلك الأعماق ليس لها عيون بل مجهزة بأعضاء منيرة خلقها الله في جسمها ينير طريقها، وهذا وجه قوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور{ وأشارت الآية أيضاً إلى حركة الأمواج الداخلية في قوله تعالى } في بحرٍ لجيٍ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ {والمعنى أن الموج يغشى البحر اللجي وهذا ما أكده علماء البحار حيث قالوا بأن البحر اللجي العميق يختلف عن البحر السطحي حيث تتكون في داخله أمواجاً في منطقة الانفصال بين البحر السطحي والبحر العميق، تختلف عن الأمواج السطحية وهو ما لم يعرف إلا منذ مائة سنة فقط.
قوانين فيزيائية أودعها الله في الماء
يبدو اكتشاف القوانين التي تحكم حركة السوائل شكل قفزة كبيرة في تطور فهمنا للماء من حولنا. فالذي يتأمل هذه القوانين لا يملك إلا أن يقول سبحان المبدع العظيم القائل: (صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ إنه خبيرٌ بما تفعلون) [النمل: 88]. هذه القوانين الفيزيائية أودعها الله في الماء لتكون دليلاً على دقة صنعه ولتكون آية تشهد على قدرته عز وجل. وتتجلى عظمة هذه القوانين عندما نعلم بأن الله تبارك وتعالى قد حدثنا عنها في كتابه بمنتهى الكمال والوضوح، القرآن يتحدث عن خزانات المياه تحت الأرض، عندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين، هذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين وفيها أحياء مازالت تعيش وتتكاثر بقدرة الله، والعجيب أن القرآن العظيم عندما حدثنا عن الماء استخدم كلمة دقيقة جداً من الناحية العلمية، يقول تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً بقدرٍ فأسكناه في الأرض وإنا على ذهابٍ به لقادرون) [المؤمنون: 18]. فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلاً للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها؟ أليس هو الله؟!.
البحر في الأدب والرواية
البحر ذلك العالم الساحر والميتافيزيقيا الزرقاء الرائعة الذي كتبت حوله النصوص وعبرت عن جماله اللوحات، حتى صار ما يعرف الآن بــ (أدب البحر) وكان للأدب الأمريكي النصيب الأوفر في الكتابة عن عوالم البحر وتجسيد قضية الصراع الإنساني مع قوى الطبيعة الغامضة.
فقد ظهر الروائي الأمريكي المعروف هرمان ملفل (1819-1891)، واشتهر في روايته «موبي ديك « التي جسد فيها الصراع متمثلاً في المطاردة الناشبة بين سفينة « الباقوطة « وجماعات حيتان العنبر المتراصة في صفوف المناطق الاستوائية الدافئة كما هو أسلوب هرمان ملفل الروائي الأمريكي الذي اشتهر كأول أديب كان له نصيبه السباق في الكتابة حول عوالم البحر وخصوصاً ذلك الذي يدور حول جدلية الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة الغامضة، مواطن ملفل الآخر وهو الأمريكي أيضاً والروائي الماهر ارنست همنغواي المولود 1899 الذي حاز على عدة جوائز دولية بفضل أسلوبه الرائع ومنها جائزة نوبل 1954.
ومن الأعمال التي جسد فيها همنغواي هذا الصراع روايته الشهيرة « الشيخ والبحر» التي دارت أحداثها حول صراع مرير بين العجوز وأسماك القرش والسمكة الجبارة وقد جمعت الرواية بين العذوبة والفائدة وهي من أعظم الأعمال الروائية في القرن الماضي والكاتب من طراز فذ وتمرس بالنضال الإنساني على اتساعه وشموله وتنوعه، وجاء في تقرير جائزة نوبل للآداب التي حاز عليها همنغواي العام 1954 « لأستاذيته في فن الرواية الحديثة ولقوة أسلوبه كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة العجوز والبحر « وتعتبر الرواية ثاني أعظم رواية في أدب البحر التي صورت الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة وجسده في بطل الرواية العجوز « سنتياغو « مع أسماك القرش المتوحشة والسمكة الكبيرة الجبارة فقد تميزت هذه الرواية بخبرات واقعية بعالم البحر، وتظهر لك قوة الإنسان وتصميمه وعزمه على نيل أهدافه والوصول إلى ما يصبوا إليه وإمكانية انتصاره على قوى الشر والطبيعة، وفقاً لمقولة همنغواي « قد يتحطم الإنسان..ولكنه لن يهزم «
«وراح العجوز يحدث السمكة:أيتها السمكة، أني أحبك وأحترمك كثيراً، ولكني سأصرعك حتى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم.وقال في حديثه:لنتعلق بهذا الأمل..وأقبل طائرٌ صغير من الطيور المغردة، قادماً من الشمال، وحلق على مقربةٍ من سطح الماء، فأدرك العجوز أن الطائر قد بلغ آية العناء. واستراح الطائر على صدر الزورق، مستقراً عليه. ثم لم يلبث أن طار مطوفاً حول رأس العجوز.
ثم راق له أن يقف على الحبل.وسأله العجوز:ما عمرك؟.. أو هذه رحلتك الأولى. وظل الطائر يتطلع له إذ هو يتكلم، ثم راح يقبض بقدميه الرقيقتين على الحبل، فقال له العجوز:إنه ثابتٌ كل الثبات. وما كان لك أيها العزيز أن تتجشم كل هذا العناء في ليلةٍ كهذه، بلا ريح.. ولكن حدثني.. لماذا تأتي الطيور إلى هنا؟
وحدث العجوز نفسه:إن الصقور تفد إلى البحر لتلتقي بمثل هذا الطائر.لكنه لم يقل هذا الطائر شيئاً، لأن الطائر لا يفهم لغته، ولا بد أن يعرف قصة الصقور يوماً ما.ثم قال للطائر:خذ نصيبك من الراحة أيها الطائر الصغير. ثم اذهب إلى موعدك مع القدر، كأي إنسان، أو أي طائر، أو أية سمكة.
وراق للعجوز أن يثرثر، لأن ظهره كان قد تصلب و اشتد به الألم أثناء الليل. وعاد يقول للطائر:اغرب عن مأواي إذا شئت. ويؤسفني أنني لا أستطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو. على أني أحس الآن أن معي صديقاً..»
كان الظلام قد أرخى سدله. إذ إن الظلام يهبط سريعاً بعد الغروب في شهر سبتمبر.ومال العجوز إلى الأمام فاستلقى على لوحة حنية الزورق قدر ما استطاع. وطلعت النجوم الأولى في السماء.
ولمح العجوز بينها نجماً لا يعرف اسمه، وإن كان يعرف من أمره ما يشير إلى أن هذه الوحدة تقترب من نهايتها، ولن يلبث أن يجد نفسه بين أصحابه النائمين.
وقال العجوز:هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى. إنني لم أر أو أسمع بمثلها في حياتي.. ولكن، لا بد لي من قتلها.من حسن الحظ إننا لا نحاول قتل النجوم. وجعل يفكر محدثاً نفسه:
تصور.. لو حاول الناس كل يوم أن يقتلوا القمر ! أن القمر يستطيع أن يهرب ويلوذ بالنجاة ولكن.. تصور، لو بذل إنسان جهد يومه ليقتل الشمس.. من حسن الطالع أننا ولدنا هكذا».