كتب – عبدالرحمن صالح الدوسري:
نعاود فتح صفحات جديدة من ذاكرة د. عيسى أمين، ونعاود البحث في كثير من أوراق التاريخ عن البحرين ورجالاتها الأولين. من أول عملية جراحية أجريت في البحرين للعيون أجراها د.شارون تومز وزوجته د.ماريون تومز بمساعدة غبريا، في حوش بيت جمعة بوشهري «مدرسة عائشة أم المؤمنين، مدرسة العجم»، وتحت أشعة الشمس الحارقة. عيسى أمين يتذكر التراث، والبحث عنه والطريق للحفاظ عليه.
يقــول د.أميــن «فـــي عالمنــــا الحالـــي وفــــي منطقة مجلس التعــــــــــــاون الخليجي حيث ازدادت في العقود الأخيرة الهجرات الآسيوية إلى هذه المنطقة سواء في البحث عن العمل أو الاستقرار إلى جانب الثقافة المستوردة من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أو حتى البرامج الدورية والتي من المفروض أن تكون تنموية ثقافية تعمل على المحافظة والتطوير للإرث المحلي إلى جانب المشاركة في الإرث الإنساني كلها عوامل خارجية مؤثرة، وفي كثير من الأحيان أثرت وبصورة مباشرة على إرثنا وتراثنا الثقافي هذا ومع ازدياد حركة نزوح السكان إلى الداخل في مشاريع إسكانية لم تراع فيها الميزة الحضرية لهذه المجتمعات أو العلاقات الاجتماعية والترابط الأهلي في المدن، والبلدات القديمة أصبحنا اليوم وبصورة لا تخلو من التراجيديا نفتقد وبسرعة مذهلة هويتنا فإن زيارة قصيرة للمحرق أو المنامة وحتى الرفاع الشرقي ستعطي الزائر صورة واضحة عن التركيبة والمزيج الاجتماعي الذي أخذ في الحلول السريع في أمكنة تحمل ذكرى جميلة لأيام كانت فيها معالم تراثنا واضحة للجميع.
نظرة واحده تكفي لتؤكد مدى تداخل الثقافة الآسيوية الواردة والتي نحن الملامون في جلبها وإحلالها في بلداتنا وقرانا ومدننا، الأسماء تغيرت واللغات واللهجات تغيرت وواجهات المساكن والمحلات، والبائع وصاحب المحل، وحتى البضاعة كلها تحاكي نمطاً واحداً يطالعنا في معظم أحيائنا القديمة، وهذا النمط لا ينتمي بأية صورة إلى تراثنا بل أصاب تراثنا بالتقزم والتهميش والانحسار.
المحافظة على ما تبقى
نحن اليوم وبعد هذه الموجات الثقافية العاتية أصبحنا مطالبون في أن نحاول المحافظة على بعض ما تبقى لنا من تراث الوطن الثقافي، وذلك يعني وبصورة مباشرة تأسيس المكتبات ودور الوثائق والمتاحف الكبيرة والصغيرة والمخصصة لروافد التراث الثقافي والحفاظ على معالم هذا الإرث الثقافي سواء كان المكتوب أو المرسوم أو المنحوت أو المصنوع من عوامل التدمير البشري والبيئي ولا يعني ذلك إهمال المباني التراثية والمواقع ذات الأهمية التراثية والتاريخية من أجل أجيال مقبلة، ومن أجل المشاركة في الحفاظ على التراث الإنساني والتواصل الحضاري مع حضارات أخرى، وعلينا أن نؤكد في كل مرة بأن تراثنا الثقافي يؤكد هويتنا ولا نخصص فترة أو موقع تراثي وننفي وجود الآخر. إن المدارس القديمة والمساجد والمآتم والمقابر ودور العبادة وحتى المزارات والمباني القديمة ذات الطابع المعماري المتميز، كلها لها ذات الأهمية في تراثنا المادي ولذلك لابد من الحفاظ عليها من التخريب والهدم والإزالة وأن يكون لنا قانون يتم تنفيذه من خلال مؤسسات أهلية ورسمية مشتركة مسؤوليتها الأولى الحفاظ على الإرث الثقافي لهذا الوطن.
إذن نحن مطالبون بأن تكون لدينا درجة عالية من الوعي بالذات هذه الذات التي تشترك في الإرث العالمي الإنساني من خلال تراثها المستقل وثقافتها المتميزة نحن مطالبون بأن تكون لدينا الجرأة الكافية لنقول يكفى ما تم تدميره من سواحل وعيون ومبانٍ تراثية وحدائق والتغير السيئ للواجهات الحضارية وأن نعترف بأننا أهملنا وعلى مدى عقود طويلة هذا التراث وأصبحنا نملك القليل من كل ذلك، وهذا القليل هو رأس المال الذي سيمنع عنا الإفلاس الثقافي إذا ما عرفنا كيفية استثماره وقمنا بتعليم الناشئة وبالتعاون بين المؤسسات الأهلية والرسمية المسؤولة عن التراث والثقافة لوضع هذا التراث في المكانة الأولى لكي يتوقف الانحسار الحالي.
إنه من الخطأ استهلاك التراث الثقافي بل نحن مسؤولون عن الحفاظ عليه وتطعيمه وإنعاشه ونقله إلى جيل قادم هذا الجيل، ربما سيرفض هذا التراث ويعتبره أموراً بالية ولكن وفي أغلب الحالات يأتي جيل بعده يفتقد هذا التراث ويبحث عنه وهذا ما نريد تأكيده اليوم.
لقد كانت البحرين مصدر إلهام للطرب والشعر والمسرح والفنون والحرف اليدوية والملابس والخط والمخطوطات والصحافة والنوادي والمدارس والإدارة والمحاكم والمؤسسات الأهلية ذات الطابع المدني.
معالم التراث الشعبي
علينا البحث عن معالم هذا الإرث وتأهيل ما يمكن تأهيله من دور طرب شعبي أو فجري ومسارح ونوادي ومدارس ومبانٍ حكومية قديمة مثل المحكمة مدرسة الصناعة قلعة الشرطة الفنادق القديمة والحدائق العامة التي ارتبطت بذاكرة الوطن.
أنا أدرك أننا لا نستطيع استعادة الماضي ولكننا نستطيع استعادة الشعور بالهوية والانتماء وبصورة أكبر بالمواطنة إذا حافظنا على هذا القليل الباقي من التراث.
هذا التراث المقصود به العادات والتقاليد والقيم والعلاقات الاجتماعية وكيفية التصرف في مواقف معينة متعارف عليها إلى جانب الممارسات الإيمانية والمعتقدات والتعبير الفني واللغة والأنشطة الإنسانية الأخرى هذا التراث من الصعب المحافظة عليه مقارنة بالآثار والمباني التراثية والمواقع ذات الاهتمام الأهلي. لذلك ربما نتساءل كيف يكننا ألا ندع هذا الجزء الهام من تراثنا في موقف مواجهة مع تيارات خارجية تتميز بالحس التجاري وتمارس الترغيب والدعاية وتنتقل عبر الحدود وتصل إلى أصغر فرد في العائلة، إن الحل يكمن في إرادتنا في السعي لحفظ التراث الشعبي، والتاريخ القائم على الروايات والأمثال والالتزام بحدود ملزمة للجميع باستخدام اللغة استخداماً صحيحاً وإزالة كل ما علق بها من أبجديات مستوردة واعوجاج في طريقة النطق والكتابة، مع المحافظة على التراث الفني، سواء كان غنائياً أو مسرحياً أو أعمالاً فنية تراثية.
نحن في إرثنا الحضاري وتراثنا الشعبي نرتبط بالعالم حولنا من خلال ما تركته لنا الحضارات المتتالية على هذه الأرض وما نستطيع أن نشاهده اليوم من آثار تدل على هذا التسلسل الحضاري لذا أصبح الالتزام بالمحافظة على هذه الآثار في نفس مستوى الاهتمام بالتراث ويلي ذلك الاهتمام المباني التراثية والوثائق والأفلام المصورة بل وكذلك التسجيلات الصوتية المختلفة سواء كانت لأفراد أو مجموعات أو مناسبات هذا كله إرث الأمة ولا يملكه أحد غيرها ولا يحق لأحد أن يزيل أو يستقطع أو ينفي وجود تراث واسع وعميق للقرية والمدينة للبحر وللزراعة هذا جزء من التراث الطبيعي والذي كان يشمل العيون الطبيعية والمزارع والنباتات المحلية والطيور، وشواطئ البحر والتشكيلات الصخرية والحيوانات المحلية المنقرضة نحن ملزمون بقرار اليونسكو الصادر بعد الاجتماع العام في 1972 والمتعلق بالحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي ، والذي التزمت به العديد من الدول حتى إنه ولغاية العام 2011 يوجد 936 موقعاً أثرياً و725 موقعاً ثقافياً و183 موقعاً طبيعياً و28 موقعاً مركباً في 153 دولة كل موقع من هذه المواقع ونتيجة لإصرار الشعوب في الحفاظ على تراثها أصبح موقعاً هاماً بالنسبة للشعوب كلها وجزءاً من تراث الإنسان على الأرض، إن إحساسك بتراثك يجعل الآخرين يدركون من أنت وربما أكثر أن ذلك يعطيك أنت الشعور بالانتماء وبالتالي هذا الشعور يقيدك إلى تراث أجدادك، لذلك نسأل مرة أخرى من يحافظ على هذا التراث.
الحفظ أو الإهمال
إنه الوقف الدائم والذي له من يرعاه، لا أحد يستطيع أن يخطف أو يلغي تراثك، ولك أنت وحدك الاختيار في المحافظة عليه أو إهماله ، إننا نعيش في عالم قام ولعدة أسباب بدأها بالحروب والتعصب والتميز الطائفي والعنصري بتدمير الكثير من التراث الإنساني لقد فقدنا تدوين أجدادنا وتدوين أحداث وطننا ووضعنا الباقين من كبار السن في دور العجزة دون أن نسأل أحد منهم عن الماضي وبهذا فقدنا جزءاً كبيراً من تراثنا الذي نحاول استعادته.
4 آلاف عام
منذ ما يقارب أربعة آلاف عام والبشرية حاولت أن تترك لنا مؤشرات ومعالم سواء كانت مخطوطة منحوتة أو مبانٍ تشغل مساحات وارتفاعات شاسعة من الأرض فإذا نظرنا إلى الأختام الدلمونية ومدافن ومعابد ومستوطنات البحرين وآثار وأختام بابل وحضارة الرافدين وأهرامات ومعابد مصر الفرعونية والرومانية وآثار الجزيرة العربية ما قبل الإسلام وسوريا ولبنان والأردن وشمال أفريقيا وآثارها البيزنطية وأماكن كثيرة أخرى كلها شيدت وكتبت لتمحل لنا رسالة من هذه الحضارات التي سادت وأصبحنا نحن أصحاب هذا الإرث الحضاري والمطالبين بالإبقاء عليه وترك علاماتنا المميزة لأجيال بعدنا.
دعونا نختصر هذا الإرث، ونتحدث عن دلمون هذه الحضارة التي امتدت من العراق في الشمال إلى عمان في أسفل الخليج وكانت مركزاً هاماً للتبادل التجاري وتحكمت في مسارات التجارة في الخليج فالسومريون قالوا عنها إنها أرض مقدسة، وجاء ذكرها في حضارة وادي الرافدين بأنها شريك تجاري، وهي من أقدم حضارات الشرق الأوسط وهي الجنة على الأرض هذه الحضارة التي بدأت تنحدر مقوماتها منذ ألف سنة قبل الميلاد وأصبحت جزءاً من بابل وحضارة فارس ستمائة سنة قبل الميلاد هذه الحضارة أسست لموقعها على طرق التجارة البرية والبحرية ولخصوبة أرضها سواء كان حديثنا عن البحرين أو الساحل الشرقي للجزيرة العربية وارتبطت بحضارات أخرى في ملوخا وما جان وبلاد الرافدين وحضارة وادي السند، وجاء ذكرها في الأختام المسمارية السومرية ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد في معبد الآلهة «انانا» في الوركاء في العراق. حضارة نقلت الأخشاب إلى الملك أورنانش في لاجاش 2300 سنة قبل الميلاد، وتذكر مرة أخرى 1370 قبل الميلاد في الفترة الكاشية في بابل وكل هذه المدونات تؤكد أقدمية هذه الحضارة وأهميتها التجارية ووجدت أختامها في وادي السند والكجرات والهند وفيلكا وما بين النهرين، ونقلت الأخشاب والنحاس والأقمشة والأحجار الكريمة في عملية تبادل تجاري واسع، وسميت أرض الحياة وأرض الخلود.
البحث عن دلمون
منذ العام 1922 بدأ البحث الأوروبي عن هذه الحضارة المفقودة وبدأت وبالتدريج معالم وموقع دلمون تظهر للوجود، واختلفت الإحصاءات والنظريات لمعالم هذه الحضارة التي تشكلت من مبان سكنية وإدارية، وتلال المدافن والمعابد والمستوطنات وكل ما احتوته من فخار وأختام وأدوات للزينة وحلي وبقايا بشرية هذه الاكتشافات المبدئية والفرضيات جاءت بالمكتشفين والمنقبين عن الآثار من الدنمرك في 1950، وبدؤوا بالتنقيب في موقع قلعة البحرين، وفي الفترة البرونزية من حضارة دلمون وأكدوا وجود لُقي أثرية تعود في تاريخها فترات بعيدة قبل الميلاد تتطابق مع ما ذكر في الأختام التي وجدت في مواقع حضارات ما بين النهرين.
وجاءت بعد الدنمركيين الفرق الفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية وكانت كلها تبحث عن حلقات مفقودة من التراث الإنساني تحاول اكتشافها لتكمل سيرة حضارة الإنسان لذلك كل ما كتب أو دون أو رسم في أبحاث أو كتب أو منشورات منها أوروبية وخسرنا مرة أخرى روعة الاكتشاف الذاتي فلم نقدم للعالم حضارتنا بل ومثل كل شيء في حياتنا استقدمنا الأوروبيين ليقدموا بالنيابة عنا كل ذلك ومع كثرة المكتشفات ومرور أكثر من نصف قرن على الاكتشاف الأول مازالت جامعاتنا ومؤسساتنا الرسمية ترفض الاعتراف بهذه الحضارة وبأهمية وجود الباحثين المحليين والأبحاث المحلية والعرض المحلي لهذه الحضارة بل وأكثر من ذلك أن آثار البحرين سواء كانت تلالاً أو معابد أو مستوطنات أصبحت في مخازن النسيان تفعل بها العوامل البيئية والمناخية ما تفعل ويهدم الإهمال ما بقى شاهداً أربعة آلاف عام من حضارة دلمون.
في 21 مايو 2013 وفي أخبار هيئة الإذاعة البريطانية من لندن تعلن الهيئة عن اكتشاف إحدى المواقع الهامة لحضارة البحرين القديمة دلمون وتقصد هنا مستوطنة سار والتي تعتبر نموذجاً معمارياً متميزاً لهذه الحضارة إلى جانب المستوطنات القريبة من قلعة البحرين. هذه المستوطنة اليوم لا يعرف مصيرها هذا الاكتشاف كان له صدى عالمي ولم نستثمر نحن هذا الحدث ونقوم بتطوير هذا الموقع وصيانته وحمايته وتأهيله للسياحة الثقافية.
في الفترة الزمنية نفسها تنشر جريدة إنجليزية محلية «جلف ديلي نيوز»، مقاله يتساءل الكاتب فيها لماذا تجرف تلال دلمون وتهمل الآثار وتدمر؟ لماذا نحن مطالبون بالاهتمام بالآثار والمواقع الأثرية؟ إن دراسة هذه الآثار هي في الحقيقة دراسة الحراك الإنساني في الماضي والوصول إلى تصور عن تلك الفترة من خلال المواد التي تركت لنا سواء كانت كتابات أو نقوشاً أو مبان أو تماثيل. لقد بدأ الإنسان الأول في تقديم هذه المواد لنا في أفريقيا منذ 4 ملايين سنة، حيث وجدت أدوات صنعها هذا الإنسان من الحجر. هذا الاكتشاف كان لا بد له وأن يمر من خلال الدراسة الميدانية بالتنقيب والتحليل والفرضيات ثم وضع الخلاصة النهائية.
المصدر الرئيس
لـ «ديلمون»
في البحرين ولعدم وجود كتابات أثرية، تصبح الآثار هي المصدر الرئيس لقراءة حضارة دلمون إلى جانب الأختام الخاصة بهذه الحضارة.
لهذا السبب تكون عملية المحافظة على الآثار في مقدمة الأولويات، والمبدأ الأساسي الذي لابد أن تلتزم به المؤسسة الرسمية مع القطاع الأهلي ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالتاريخ والآثار والدخول في عملية شراكة مع الجامعات والمؤسسات السياحية والخاصة من أجل استمرارية الحفاظ على هذه الآثار، واسترجاع أو نسخ ما أخذ من مواقع البحرين الأثرية إلى خارجها والتطبيق الفعلي لقانون الآثار والتراث، ووضع الخطط ورصد الميزانيات اللازمة لتأهيل هذه المواقع، إذ إننا لا نستطيع أن نتحدث من عاصمة السياحة ونحن نفتقد خريطة الطريق إلى آثار البحرين ومعالمها التراثية.