لندن - حسان بولمية:
لا شك في أن ما يحدث من تطورات ميدانية في كل من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم ما هو إلا سيناريو جيواستراتيجي جديد، يرجح أن يكون مؤشراً قوياً على إسدال ستار شهر العسل بين روسيا والغرب والذي لم يدم طويلاً بعدما قطعت الولايات المتحدة في عهد أوباما شوطاً كبيراً من التقارب الاستراتيجي مع روسيا في عهد بوتين، لكن الأحداث الأخيرة جعلت كثيراً من الملاحظين السياسيين ينذرون باشتعال فتيل حرب باردة جديدة لا يعلم مداها ولا شكلها على الأقل في المديين القريب أو المتوسط، رغم جنوح بعض المراقبين الاستراتيجيين للوضع إلى الإيحاء بأن الأزمة الحالية بين الغرب وروسيا ما هي إلا عاصفة في فنجان، وسيتم التحكم فيها حتى وإن تطلب الأمر بعض الوقت، وذلك بالنظر إلي الروابط الاقتصادية القوية التي تربط كلا الطرفين، لكن في المقابل يتفق الجميع على أن عودة الدفء إلي هذه العلاقات إلى ما بعد 2008 يعد صعباً ما إن لم يكن ضرباً مستحيلاً، وذلك استناداً إلى حزمة العقوبات التي فرضت على روسيا سواء كانت ذات طابع أحادي أو جماعي إن كان على المستوى الأوروبي أو الأمريكي إلى جانب التلويح بفرض عقوبات جديدة في المدى القريب.
أما فيما يخص ردة فعل بوتين لهذه العقوبات فيمكن اعتباره «محتشم» خاصة تجاه بعض العقوبات أحادية الجانب مثل فرنسا والتي أوقفت هذه الأخيرة مشروع مشترك لبناء أول سيارة برمائية، لكن وجود أكثر من 1800 جندي بريطاني في بولونيا من أجل الاستعداد لتوجيه ضربة محتملة لروسيا في حالة تمادي موسكو في تهديد جيرانها، يعد مؤشراً خطيراً على محاولة غربية من أجل الاستعداد لكل الاحتمالات بما فيها الخيار العسكري والذي سوف يكون تحت إمرة «الناتو»، بالتأكيد، لكن ماهو ظاهر للعيان فيما يخص ردة فعل روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم هو سخط موسكو من السياسات الغربية في العالم بعدما أبدى بوتين مرونة كبيرة عندما أرسل رسائل طمأنة للغرب فيما يخص إرجاع روسيا إلي حظيرة الدول القوية والتي استغلها الغرب من أجل مساومة بوتين أو بالأحرى الضغط عليه من أجل تقديم المزيد من التنازلات خاصة فيما يتعلق بالتدخل العسكري في ليبيا، والملف النووي الإيراني والحرب في سوريا، لكن في نهاية المطاف يبدو أن الغرب أخطأ التقدير عندما امتدت يده إلى أوكرانيا في محاولة يائسة لضمها إلى الاتحاد الأوروبي لكن تفطن بوتين إلى الخطة وعجل بإفشالها، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما فاجأ العالم بزيارة تاريخية للصين ذرفت فيها دموع الدب الروسي حين سماعه للنشيد الوطني وهو يعزف في نفس الساحة التي وقف فيها زعماء السوفيت السابقون أمثال بريجنيف وكروشوف إلي جانب الزعيم الشيوعي الأسطوري ماو تسي تونغ، وكأن الرجل يعلن للعالم بشرى عودة الإمبراطورية السوفيتية من جديد ملقياً بذلك دراسات وتنبؤات المنظرين الرأسماليين في متحف عبر التاريخ.
تزامنت هذه الزيارة مع انعقاد لقمة عاجلة للناتو في مقاطعة بلاد «الغال» غرب بريطانيا في محاولة لإيجاد صيغة عسكرية مشتركة تقرب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين الغربيين والقادة العسكريين لأكبر حلف عسكري على وجه الأرض. من ناحية أخرى تعصف بالحلف مشاكل كبيرة ناجمة عن تعثر عجلة النمو الاقتصادي في المنطقة الأوروبية، والتي دفعت بكثير من القادة الأوروبيين إلى طرح إشكالية تحمل عبء الإجراءات العسكرية المعتزم اتخاذها ضد روسيا، وجدوى العقوبات الاقتصادية في ظل معارضة ألمانية لأي عمل عسكري في أوكرانيا، مع احتمال لجوء بوتين إلى قطع إمداداته النفطية للاتحاد الأوروبي كوسيلة لمحاولة لي ذراع بعض الدول التي تتحمس لفرض هذه العقوبات القاسية ضد بلاده.
في خضم كل هذه التطورات يرى بعض المراقبين أن الغرب يرتكب خطأ فادحاً إذا استمر في سياسته ضد روسيا، وأن التمادي في محاولة ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي واستغلال حوض شبه جزيرة القرم من أجل بناء قاعدة عسكرية بحرية أمريكية سيؤدي إلى انفجار هائل، سيؤدي إلى تعريض المنطقة برمتها إلى شبح الحرب مع تنامي الرفض الكامل لوجود أي قوة عسكرية للغرب على مشارف روسيا. أضف إلى ذلك تصريحات كيري التي أدلى بها إلي الصحافة والتي أعلن من خلالها أن كل الاحتمالات واردة، ستزيد من الطين بلة، وستدفع بروسيا إلى استعمال كل ما لديها من قوة من أجل حماية مصالحها الحيوية والاستراتيجية وهذا هو السر في معارضة ألمانيا استعمال سلاح العقوبات الاقتصادية خشية تعريض الاقتصاد الأوروبي إلى متاعب هو في غنى عنها.
من وجهة نظر أخرى، فإن تفاقم الأزمة الأوكرانية يرجع أساساً إلي محصلة الجمع بين متضادين، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين الذين يحاولون السير في طريق التوسع ونشر قيم الحرية والديمقراطية في العالم معتمدين في ذلك على مبدأ أيديولوجي بحت في حين كان الروس يستجيبون في معاملاتهم إلى إملاءات استراتيجية فرضها عليهم واقع السياسة الدولية الجديد. فالواقعية هي مبدأ لا مراء فيه يعتمد عليه الروس في هذه الفترة بالذات.
ومما زاد الطين بلة، التصريحات التي أدلي بها نائب الأمين العام لحلف الناتو ألكسندر فيرشبو، والتي
ساوى فيها بين ما وصفه بالخطر الروسي في الأزمة الأوكرانية وتهديد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش». وقد ردت الخارجية الروسية مباشرة على هذه التصريحات واعتبرتها تشويه بدائي للواقع ودليل على تمسك الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو بالمعايير المزدوجة في تحقيق مخططاتهما الجيوسياسية.
أضف إلى ذلك اعتبار روسيا أن التدريبات التي أعلن عنها «الناتو» مؤخراً والتي تقام فوق الأراضي الإستونية هي بمثابة التحضير لحالة إعلان حرب ضدها. وفي المقابل تبقى التكهنات مفتوحة فيما يخص المخرج من هذه الأزمة، فالمراقبون يَرَوْن أن أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الأزمة الأوكرانية سيضعف حتماً مصداقيتها أمام العالم وستطرح عدة تساؤلات حول قدرتها على إدارة الأزمات الدولية الأكثر تعقيداً، مما يدفع بإطالة عمر الأزمة خاصة وأن روسيا مصرة على عدم التسليم في أوكرانيا مهما كان الثمن بدليل تواصل إمداداتها العسكرية للانفصاليين في شرق البلاد. لكن يرى آخرون أن هناك إمكانية لإيجاد حل توافقي يضع أوكرانيا على الحياد فلن تكون موالية لا للغرب ولا لروسيا وبالتالي يمكن تصنيفها كدولة محايدة لا تخضع لسيطرة أي طرف وهو وضع يشبه وضع النمسا بعيد الحرب العالمية الثانية. وبموجب هذا الحل يتحتم على الغرب من جهة إيقاف دعمه لكييف وإيقاف روسيا دعمها للموالين لها من جهة أخرى. وتكون النتيجة إيجابية لكل الأطراف وقد تؤدي إلى كسر التقارب الصيني الروسي الذي أصبح يشكل أكبر تهديد للغرب في الوقت الحالي وفي نفس الوقت يتوقع من جميع الأطراف التوافق والقبول ببرنامج مساعدات عاجلة لأوكرانيا من أجل محاولة إنعاش اقتصادها مما يفضي إلى طمأنة الغرب في نفس الوقت تقليم أظافر الروس وإعادتهم إلى حظيرة التعاون الاستراتيجي على أساس المصالح المشتركة مثلما وقع مع سوريا وأزمة تفكيك ترسانتها الكيميائية وكذلك فيما يخص معالجة ملف إيران النووي الشائك ولما لا القيام بدور إقليمي آخر من أجل الحد من التصادم الغربي الصيني المحتمل في الأفق.