بقلم - د. أشرف محمد كشك:
لم أجد من الكلمات أفضل من ذلك العنوان لوصف فكرة ذلك المقال، فبالرغم مما يعج به المشهد الإقليمي من تطورات متسارعة وتيرتها ومتشابكة خيوطها، فإن السياسات الإيرانية الإقليمية لاتزال في بؤرتها، والتي لا يعد الملف النووي الإيراني سوى قمة جبل الثلج منها، فالمسألة ترتبط بصراع إقليمي - إقليمي، وإقليمي دولي، إلا أنه يمر بمرحلة مخاض عسير ستكون نتيجته الحتمية صياغة واقع إقليمي جديد، وهو ما عكسته السياسات الإيرانية مؤخراً، وإن بدت منفصلة فإنها برأيي متصلة، والتي أنهت ما يمكن أن أسميه «رفاهية الانتظار» إلى «حتمية القرار» بالنسبة لدول مجلس الخليجي، وثمة مؤشرات على تلك السياسات:
أولها: انتهاء الجولة العاشرة من المفاوضات بين إيران ومجموعة دول الـ «5+1» الشهر الماضي في فيينا بتمديد المفاوضات بين الجانبين حتى 30 يونيو 2015، وهو يثير مخاوف دول مجلس التعاون مجدداً ليس حول المفاوضات في حد ذاتها، ولكن ما تزامن معها من تطورات إقليمية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن تسوية المسألة النووية يرتبط بشكل وثيق بالدور الإقليمي الذي تريده إيران ويؤكد ذلك الرسالة التي بعث بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية على خامنئي ومضمونها «بحث تعاون محتمل ضد الإرهاب حال التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي» إلا أن المثير للجدل هو توقيت الرسالة والتي جاءت قبيل المفاوضات النووية بأيام قليلة ومخاطبة الرئيس الأمريكي للمرشد الأعلى وليس الرئيس الإيراني، بل والأكثر غرابة أن إيران لم ترد على تلك الرسالة سوى بعد انتهاء جولة المفاوضات التاسعة، فضلاً عن تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني بالقول «هناك أمل بالتوصل إلى اتفاق على أساس الجميع رابحون» مما يثير التساؤل حول معنى ذلك الربح وأطرافه ولصالح من على حساب من؟.
وثانيهــا: موافقــة روسيــا تزامنـــاً مــــع المفاوضات النووية على بناء 8 مفاعلات نووية جديدة في إيران، صحيح أن التعاون الإيراني الروسي ليس بالأمر الجديد إلا أن تطورات الأزمة الأوكرانية والسورية قد عززا من الدور الروسي في الصراع مع الولايات المتحدة والتي تعد إيران أحد أبرز فصوله على المستوى الإقليمي.
وثالثها: تأكيد إيران اختبار نوع جديد من أجهزة الطرد المركزي بما يجعلها قادرة على تخصيب اليورانيوم بوتيرة أسرع.
ورابعها: تصريح قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني العميد علي حاجي من أن «إيران هي التي أنشأت مصانع الصواريخ في سوريا».
وخامسها: التدخلات الإيرانية في الشؤون اليمنية.
وإزاء تلك السياسات فإن التساؤل المنطقي هو هل يمكن لدول مجلس التعاون نزع بعض أو كل الأوراق الإقليمية التي تمتلكها إيران؟ وباعتقادي أن دول المجلس قد انتهجت ثلاثة مسارات مهمة وهي:
المسار الأول: المصالحة الخليجية - الخليجية والتي عكست قناعة خليجية مؤداها أن أمن دول مجلس التعاون كل لا يتجزأ.
والمسار الثاني: هو محاولة نزع بعض الأوراق الإقليمية من النفوذ الإيراني انطلاقاً من مبدأ أن التحالفات لا تدوم ولكنها مرتهنة بالظروف التي أنشأتها وديمومة المصالح التي رتبتها، وفي هذا السياق فإن استقبال المملكة العربية السعودية للرئيس العراقي فؤاد معصوم خلال الشهر الماضي يعد تطوراً نوعياً في الرؤية الخليجية للعراق وهو ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي بالقول» العراق عراقنا وسنفتح السفارة بأقرب وقت مما تتصورون»، والتي تأتي في أعقاب الزيارة التي قام بها وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري لدولة الكويت في 2 نوفمبر 2014 والتي أكد فيها وزير الخارجية الكويتي صباح خالد الحمد الصباح على أن «هناك رغبة صادقة في طي صفحة الماضي مع العراق» وبرأيي أنه يمكن استثمار تلك الجهود وتطويرها ضمن رؤية خليجية عامة تعكسها القمة الخليجية القادمة من خلال طرح مبادرة خليجية شاملة لدعم العراق، فضلاً عن أهمية إعادة النظر في الدور الخليجي تجاه اليمن من خلال مبادرة خليجية يكون في بؤرتها رعاية مؤتمر لكافة للتيارات السياسية اليمنية للحيلولة دون انزلاق اليمن نحو سيناريوهات لن تكون دول المجلس ببعيدة عن نتائجها.
أما المسار الثالث فهو: دعم الآليات الإقليمية للتعامل مع الأزمات الراهنة وبخاصة مشكلة الإرهاب، وفي هذا السياق فإن ما تردد بشأن وجود محادثات مصرية - خليجية مشتركة لتشكيل تحالف عسكري ضد الإرهاب يعد خطوة مهمة لسببين الأول: هو أهمية وجود حلول إقليمية للأزمات التي ربما تكون لديها القدر على حسمها بدلاً من إطالة أمدها، والثاني: ترسيخ القناعة الخليجية بأهمية تطوير علاقاتها مع الدول المحورية والتي تمثل رافداً أساسياً للأمن الإقليمي ومن بينها مصر، ابتداءً بالمناورات العسكرية المشتركة بين الجانبين مطلع العام الحالي ومروراً بالدعم الاقتصادي الخليجي للاقتصاد المصري الذي بلغ 10.6 مليار دولار خلال العام الحالي وفقاً لتصريحات وزير المالية المصري في هذا الشأن، وانتهاءً بالدعم السياسي الذي بلغ مداه خلال بعض الكلمات الرسمية لبعض مسؤولي دول مجلس التعاون أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة العام الحالي.
ومع التسليم بما سبق فإن هناك مسارات أربعة أخرى يتعين أن تتوازى مع تلك الجهود:
المسار الأول: تطوير الأمن الذاتي الخليجي: وتعد تلك المسألة ذات أولوية قصوى وبخاصة أنها ستكون تصحيحاً للخلل في توازن القوى الإقليمي الذي كان - ولايزال - سبباً لسياسات بعض القوى الإقليمية تجاه دول المجلس، ومن ثم فإن ما تردد عن الإعلان عن القيادة العسكرية الموحدة لدول مجلس التعاون خلال القمة الخليجية المقبلة في الدوحة وسيكون مقرها المملكة العربية السعودية خطوة استراتيجية بالغة الأهمية.
المسار الثاني: أهمية وجود خطاب خليجي موحد لكل من إيران والولايات المتحدة ليس فقط حول حقيقة مخاوفها مما ستؤول إليه مسار المفاوضات بل ووجود ضمانات ألا تتعارض نتائج تلك المفاوضات والمصالح الاستراتيجية لتلك الدول، فدول الخليج لم ولن تعارض أي دور إقليمي سواء لإيران أو لأي طرف معني بأمن الخليج العربي بل يتعين أن يكون ذلك ضمن إطار أكبر لبناء الثقة ونزع مسببات التوتر بين الجانبين، وقد برهنت التطورات على أن دول الخليج شريك إقليمي مهم يعتد به وتكفي الإشارة إلى مسألتين الأولى: أن دول مجلس التعاون كانت وستظل صمام لإمدادات الطاقة للدول المستهلكة بالرغم مما واجهته تلك السلعة من تحديات ومنها انخفاض الأسعار بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة، انطلاقاً من قناعتها أنها سلعة استراتيجية لا يجوز العبث بها، والثانية: المساهمة الإيجابية لدول مجلس التعاون في الحملة الدولية للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» ومنها المؤتمر الدولي لمكافحة تمويل الإرهاب الذي استضافته مملكة البحرين يوم التاسع من نوفمبر 2014 وشارك فيه كبار المسؤولين والخبراء من 29 دولة في العالم والذي خلص إلى توافق المشاركين على ضرورة مواجهة التحديات المرتبطة بمكافحة تمويل الجماعات والأنشطة الإرهابية بكافة صورها وأشكالها.
أما المسار الثالث فهو: حتمية وجود توافقات خليجية على مصادر التهديد، والتي لا تعني بأي حال الانتقاص من استقلالية وحرية السياسة الخارجية لكل دولة على حدة، وهو المبدأ المعمول به حتى في أهم التجارب الوحدوية ومنها الاتحاد الأوروبي، فهناك سياسات فردية ولكن هناك إطار عام لتقدير المخاطر ومن ثم إيجاد آليات للتعامل معها، فعلى سبيل المثال أن حدوث تسرب إشعاعي من أحد تلك المفاعلات النووية التي تسعى إيران لتشييدها على الضفة الأخرى من الخليج - نتيجة خطأ ما في عملية التشيي - لن يستهدف دولة خليجية بذاتها ويضل طريقه إلى دولة أخرى.
بينما يتمثل المسار الرابع في: تفعيل العلاقات الخليجية - الروسية، في ظل عدة معطيات تعد بيئة مواتية لذلك ومنها توتر العلاقات الغربية - الروسية، واستمرار روسيا كقوة ردع على المسرح العالمي، ووجود أطر للتعاون بين دول الخليج وروسيا بيد أنه لم يتم تفعيلها بشكل كامل، بمعنى آخر يتعين وجود شراكة خليجية أكبر باتجاه توسيع إطار التعاون مع روسيا للموازنة بين علاقاتها مع إيران ومصالحها مع دول الخليج العربية في ظل مساعي روسيا لتطوير علاقاتها الإقليمية ومن ذلك زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا مطلع الشهر الجاري والتي ضمت عشر وزراء واستهدفت تطوير التعاون بين الجانبين في المجالات كافة.
ومجمل القول إن «هلال الأزمات» الإقليمية الراهنة يتطلب المزيد من الخطوات الاستباقية الخليجية للحد من آثارها على أمن دول مجلس التعاون التي لم يعد لديها رفاهية الانتظار بل حتمية القرار.
* باحث بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة