كتب - علي الشرقاوي:
الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد أحد الأصوات الشعرية المتميزة في ساحة الشعر العامي، والناهضة كالنخلة الزرقاء بين بحر الصحراء وصحراء البحر، صوتٌ له حضور طاغٍ في الأمسيات التي تعقد هنا وهناك، صوت يشبه العزف السيمفوني الذي يجمع القصيدة والمتلقي في رقصٍ يشبه علاقة المطر بالأرض.. يجمع العام بالخاص والخاص بالعام بصورة لم تطرح في تجارب شعرية سابقة.. وعندما أستمع إلى تجاربه الشعرية أشعر بشيء من الألفة بيني وبين الكلمات كأنني التقي بالمفردة للمرة الأولى، أو كأنني اكتشفها والتي تتحرك أمامي كما يتحرك الهواء في فضاء الرئتين.. لقصائده نكهة خاصة نادراً ما أجدها عند الشعراء الآخرين، فهي ممزوجة بقهوة الذات، ومهيلة «من الهيل» بالمفردة المتحركة الفاعلة في تركيبة الصورة الشعرية التي تنطلق منها، كما تنطلق الخيول في فضاءات الحرية، له قاموسه الشعري الخاص، وله تراكيبه المتفردة التي، حينما تسمعها خارجة من موسيقى الإلقاء المتميز، تشعر أنك تسبح في بحر الشعر، الأكثر عذوبة من كل أنهار الدنيا.
في الواقع إن الحديث عن تجربة الشاعر عبدالرحمن بن مساعد، ليس بالصورة البسيطة، لأنها تجربة تمتد وتتشعب وتتفرع إلى أنهار وجداول، من الصعوبة أن تحصر في قراءة قصيرة، كهذه التي نعمل عليها، ولذلك ارتأيت أن أقسمها لعدة دوائر، ربما أتمكن من اصطياد بعض الالتماعات الشعرية، وهي أكثر من كثيرة، والاقتراب من عوالمها وتفكيكها، من أجل التعرف على العوالم المتعددة في تجربتة الثرية كثراء قلب الشاعر وهو يتعامل مع المفردة والجملة والصورة التي تتسامق في الفضاء اللانهائي حين ينطقها، خارجة من القلب وداخلة إلى قلب الآخر، بدون تذاكر ودون استئذان، من الممكن أن أتعامل مع تجربة عبدالرحمن بن مساعد من خلال دوائر أساسية، هذه الدوائر هي: دائرة الذات، ودائرة الوطن، ودائرة العالم، كل دائرة هي الأخرى محتاجة لدوائر داخلية أو مثلثات داخلية، من أجل المساعدة على شئ من الإحاطة، وهي صعبة، ونحن نقوم بعملية التفكيك.
بداياته مع الشعر
يقول عبدالرحمن بن مساعد عن بداياته مع الشعر، انفعلت ذات يوم بحدث، وأحسست بكلمات تتفاعل في داخلي وتنساب على لساني تعبيراً عن هذا الانفعال، واستحساناً لمن حولي، هكذا عانقت الكلمة لأول مرة وعانقتني هي ولا أدري أينا بدأ العناق؟، وأنا لم أحاول أن أكون شاعراً لأن في الأسرة شعراء، ثم إن أخي عبد الله هو أستاذي، نعم أعترف بذلك لا أدري لماذا تفجرت العواطف والأحاسيس وشقت مجرى للشعر؟، مجرى سال منه شعر يطرب الخاطر ونثر يسكن الفؤاد، وتهفو لـه نبضات القلوب وجدت نفسي قادراً على تقديم شيء، ولي ثقة أن لدي بعض الجمهور ولكن ليس الغرور، كل ما استطيع تأكيده أن لدي جمهوراً من المتلقين في ميدان الشعر، ومثله في ميدان الفن التشكيلي، وقد بدأت محاولاته لكتابة الشعر، وهو في حوالي الرابعة عشرة عندما كان في مدرسة الطائف النموذجية.
وضوح وصراحة
ويتميز شاعرنا بالوضوح والصراحة التامة، فلا يتردد أو يجد غضاضة في أن يقول أنني أخطأت أو غلطت في الموضوع الفلاني، أو لم يحالفني ديواني الأول قصائد نبطية وأنا نادم عليه الآن، فهو إنسان مؤمن الحكمة ضالته، والحقيقة هدفه، والبحث عن الصواب مبتغاه، لا يتوانى أن يعود من منتصف الطريق، متى ما اكتشف أنه يسير في الطريق الخطأ، بل يدعو اللـه ويتضرع إليه أن يهدي قلبه، وينير دربه إلى سبيل الخير والرشاد.
«دايم السيف»
وعن كتابته تحت اسم «دايم السيف» في بداياته، يقول، لكل إنسان ظروفه وقناعته، على أن الاسم المستعار وحده ـ بطبيعة الحال ـ لا يصنع شاعراً، ويضيف، وكل من يود أن يقدم عملاً جيداً عليه أن يحترم الذين يقدم لـهم هذا العمل الفني، والتخوف من هذا المنطلق احترام للناس وليس جبناً، هو احترام لمستوى القارىء واحترام لتذوقه، والكتابة تحت اسم مستعار تكون لجس النبض، وهي اختبار للشعر لمعرفة مدى إمكانية وصولـه للمتلقي، وبحمد اللـه أثبت الشعر نجاحاً فتم تجميعه في ديوان «والحمد للـه عرف شعري قبل أن يعرفني الناس، وهذا فخر لي»، ويقول شاعرنا عن الاسم المستعار، إنه رمز يحتاج إلى شيء من الجهد للوصول إلى المدلول، لاسيما في تلك الفترة التي لم يكن اسمي الحقيقي قد عرف جماهيرياً بالشعر بعد، فخالد مرادف لدايم، والفيصل اسم للسيف، ومن وقتها وحتى الآن أجد ميلاً إلى هذه الرموز المقننة في إنتاجي.
قصيدة العمر
تزوج شاعرنا عندما كان عمره 25 سنة، ويقول، زواجي كان طبيعياً، وكان باختياري أيضاً، ويكفي للتعرف على العلاقة بين الاثنين أن نقرأ الصفحة الأولى ـ الإهداء ـ من ديوان «قصائد نبطية « والتي يقول فيها شاعرنا:
إلى قصيدة العمر أم بندر
لك يا عنود الصيد حرفي ومعناي
عمري قصيدة حب قدمتهـا لـك
معك أشرقت شمس المحبة بدنياي
صورة قصيدي لمحة من خيالـك
تأثره بالمتنبي
وشاعرنا متأثر إلى حدٍ كبير بالمتنبي إذ يقول عنه، أعترف أنني توقفت طويلاً أمام خزانة المتنبي أقلب وأتفحص درره التي أعجبتني كثيراً، إنني من الذين شغلـهم شعر المتنبي، ولقد قرأت فيما قرأت ـ بحثاً للدكتور محمد يسري سلامة موضوعه الحكمة في شعر المتنبي وأعجبت بالنقد التحليلي الذي خرج به البحث حول تيار الحكمة أصيل ينبعث من شعره مهما تعددت أغراضه، أولا: دائرة الذات، وهي في تصورنا من أهم الدوائر التي يسبرها الشاعر عبد الرحمن بن مساعد، دائرة تنداح من شجرات العاطفة المتفرعة إلى أغصان وأوراق، في كل ورقة منها نلقى تجربة رائعة ورؤية بانورامية لعوالم الذات الحاضر أبداً، ومن أهم القضايا التي ظلت تشغل الشاعر ولفترة ليست بالقصيرة اكتشافه أنه أمير وجده باني ومؤسس المملكة العربية السعودية، المرحوم بإذن الله تعالى الملك عبد العزيز بن سعود.
تجربته الحياتية
يقول الأمير عبدالرحمن بن مساعد، وهو يتحدث عن تجربته الحياتيه في هذا الجانب، اكتشافي أنني أمير لم يخل باتزاني، ولم يدفعني لاستخدام صلاحيات لم تكن متوفرة لدي، فأنا أساساً عشت حياة بسيطة لم أحب أن أفرط بها، ولم أضغط على نفسي لأتعامل مع الآخرين برسمية أو تكلف، تمسكت بحياتي السابقة وتعلمت الاندماج بالآخرين أفضل من الابتعاد عنهم بحجة الوجاهة أو الاحتفاظ بالمنصب، أو القيمة الاجتماعية، فالقيمة وجدتها ترتفع وتزداد كلما اقتربت من الناس، وفي الرياض كان الاحترام واضحاً لمكانة الإنسان الاجتماعية. ونراه أيضاً لا يستنكر كونه أميراً ولكن الواقع الذي يحياه قد أتعبه ولذلك جاءت إحدى قصائده تعبر عن مدى التعب الذي يعانيه الشاعر، يقول:
تعبت أنزف جراحي حبر وأدور للألم أسباب
لأجل أكتب شعر يحكي بعض أصغر معاناتي
قفلت من الأسى بابي وسجنت الكون خلف الباب
وعصتني دمعةٍ فيها سؤال لكل إجاباتي
مللت أخبار حسادي أحد صادق وأحد كذاب
وأحد ما طال تجريحي وأحد عايش لزلاتي
أنا شاعر رغم أنف الحسد والحقد والأحباب
وانأ ياحاسدي المسكين بعيد العيب عن ذاتي
أنا ما زادني شعري ولا زادتني الألقاب
تجي دنياي أو تدبر عزيز فـ كل حالاتي
أنا فرحي لمن حولي وأيامي فدى الأصحاب
قصيدي بلسم المجروح ونبض الناس بياتي
كسرني قلبي المكسور نادت دمعتي الأهداب
تعبت أركض ولا أوصل ولا توصلني غاياتي
أبي ذل ٍ يغطي الأرض لك يا رب يا وهاب
وأبي أحيا جبيني فوق ما تملكني رغباتي
من الدنيا أنا مابي سوى عفو العلي التواب
ويحسن خاتمة فعلي ويغفر لي ضلالاتي
أبملا العمر «بالتوبة» و«نوح» و«هود» و«الأحزاب»
متى كانت سنيني عمر؟ أنا عمري في ركعاتي
هذه القصيدة والتي تحتاج إلى دراسة مطولة، شارحة ومفسرة ومحللة للأبعاد الفكرية والفنية والاجتماعية واللغوية التي تزخر بها القصيدة، لذلك اعتبرها القصيدة الأم والتي تأتي القصائد الأخرى منطلقة منها إلى مساحات تقترب أو تبتعد عن القصيدة البؤرة.
الحالة الشعرية
وأتفق مع الشاعر عبد الرحمن بن مساعد، حين يقول، أتذكر أن التحول من كتابة الفصيح إلى العامي بدأ عندما أحببت لأول مرة، أحسست أن التي أحبها لن تفهم الفصيح، لكن هناك شيئاً غريباً هو أنني لا أذكر متى خفق قلبي لأول مرة، ولمن؟ لا أعرف من هي أول حبيبة في حياتي.. تخيلوا! ربما لأنني كنت أحب الحالة نفسها، وليس المرأة، ربما كنت أرغب أن أكون معذباً، فكانت البداية من هذا المنطق، وشعرت أنني يوما سأكون شاعراً جيداً، فالشاعر يحلم بالوصول إلى ذروة الحالة الشعرية عبر الدخول في التجربة أكبر من الموضوع الذي يشتغل عليه، سواء كان الموضوع امرأة، أو قضية يريد إيصالها المتلقي.
أول شاعر معاصر
يقول الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي، الأمير عبدالرحمن بن مساعد هو للأمانة أول شاعر معاصر في الشعر النبطي، أرجله ثابتة على التراث ومستنير إلى حد بعيد جداً، ويلتقط المفارقات الإنسانية والاجتماعية بسخاء، يجيد النظر إلى عالم الفقراء، يجيد النظر للإحساس بمشاكلهم وأمورهم، الأمير عبدالرحمن بصراحة رجل يستطيع أن يلمح الشعر في كل تفاصيل الحياة، وهو قريب لنفسه وعواطفه، لغته قريبه لإحساسه، وهو وشعره شيء واحد، وأنا أعتبره من الأصوات النادرة في شعر الجزيرة، وأتمنى ألا يكف عن العطاء ويظل هذا السيل المنهمر دائماَ وأبداً مستنيراً ومتألقاً.
اللغة عند بن مساعد
يستخدم الشاعر عبدالرحمن بن مساعد اللغة الثالثة في تعامله مع المفردة الشعرية وهي الاقتراب من كلام الناس اليومي، أو ما اسميه لغة الأم أو لغة أهل البيت، فلا هو يعود للمفردة البدوية التي تحتاج إلى قاموس من أجل تعريفها، لذلك جاءت قصائده قريبة من قلب الإنسان، يشعر بها المتلقي وبها الشيء الكثير من مشاهدات ومتابعات القارئ اليومية والتي يسمع بها في المجالس أو من خلال الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية.
يقول في مقطع كراسي من قصيد «تعاريف»:
الكراسي..
مصدر أفراح..ومآسي..
لا هي تبارك .. لجالسها الجديد..
ولا هي اللي.. لربع تاركها تواسي..
الكراسي عامدة..
تهزأ بنا وهي جامدة ..
الصرير اللي ايتسرب من قوائمها..
يقول: مافي أحد منكم أساسي!!
هنا يصب جام الشاعر نقده على الراكضين إلى الكراسي والتي لا تكون إلا دوارة، لا تبقى من فوقها وتمل من جلوسه عليها، وهذا النقد يشمل الوزراء والزعماء السياسيين ومدراء الشركات الكبيرة، إنه يطرح رؤية الأغلبية التي تمر من فلتر تجربته الحياتية والفلسفية للحياة المعاصرة، الشاعر يؤنسن الكرسي ويعطيه البعد الذي يمكنه من الكلام والحديث، وحينما يتوصل الشاعر إلى أنسنة الجامد، معناه أنه تمكن من الوصول في قصيدة شبيه الريح يأخذنا الشاعر في رحلة كونية، هي رحلة الريح في عواصم وبلدان ومواقف وقضايا اجتماعية ونفسية وثقافية، وتعد من أشهر أغاني فنان العرب محمد عبده إضافة لأغنية «مذهلة» وأغاني أخرى تعاون فيها مع محمد عبده، التي تعاون فيها مع الشاعر في مجال الأغنية.. يقول فيها:
شبيه الريح..
حبيبي الأصدق الأكذب..
عجزت أوصل شواطي .. طبعك الأعذب..
تعبت أنظر... في وسط العاصفة..
قلب وشعور وعاطفة..
تعبت أجمع ألم كل الموادع...
في المواني..
وأحضـــــــن أطيافك
تعبت السهد في ليل الشوارع..
والثواني..
تنطر إنصافك
تعبت الظلم ..وإجحافك..
تجربة عبد الرحمن بن مساعد في تصوري من التجارب الشعرية الهامة التي تحتاج إلى العديد من الدراسات، لأنه ظاهرة من الظاهرات الجديدة التي تحتاج المزيد من الضوء والمزيد من التفكيك فيها من حيث اللغة والأسلوب والقضايا المطروحة، ومن حيث الجدة والتجديد، إن عبدالرحمن بن مساعد قامة شعرية شابة أخرجت وتخرج الشعر العامي من التكلف الذي أدخل فيها ومن الصنعة والبهرجة والتي هي ليست من روحه وعالمه الحقيقي.
دائرة الوطن
للوطن مكانة خاصة عند الشاعر عبدالرحمن بن مساعد، بحيث أن هناك عشرات القصائد الساخرة من بعض السلوك الاجتماعي، والتي هي عملياً تصب في خانة تنظيف الوطن والمجتمع من مثل هذه السلوكيات التي بوجودها، يكون الوطن ناقصاً، مؤكداً فيها على حب الوطن هو المعنى الحقيقي وراء كلمة مواطن، فلا وجود لخضرة الحياة إلا من خلال الحب، للوطن ولمن يعيش في الوطن، وللقائد الذي من خلال حكمته يرتفع شأن الوطن بين أمم العالم.
من هنا نراه يقول في قصيدة «قبلوا تراب الوطن»:
قبلوا تراب الوطن... هذا الزمان أخضر
واشكروا مجزي النعم ... يزيدكم أكثر
كرامة ٍ عز ٍ وجود ... كثروا لله السجود
وافرحوا بغيض الحسود ... واقهروه أكثر»
بين الدهشة والإدهاش
الشاعر عبد الرحمن بن مساعد يعيش في تجاريه حالة من الدهشة المستمرة وهو يتعامل مع الواقع والذات والكون، لذلك ينعكس دهشته بما يرى ويشعر على قصائده، فتخرج إلى القارئ أو المستمع تحمل حرارة الإدهاش. يقول الشاعر محمد عفيفي مطر ، بعد أن وصل إلى سن السبعين من عمره، في لقاء له مع بركسام رمضان، إن تحليل مفهوم الدهشة، وهي الفعل الانفعالي العقلي العجيب الذي يؤسس للفلسفة والشعر والفن وسائر خطي البشرية علي معراج الخروج من الظلمات إلى النور، نور المعرفة والعلم والإبداع ونور الشعور الكوني بالصدور من مطلق الإبداع في «كن»، والعودة إلي مطلق الرحمة في نور التوكل الشجاع المناضل المليء بالقلق والشوق والأسئلة وكل حياتي العقلية والروحية والإبداعية ليست إلا رجع الصدى لصخب هذا القلق الخلاق.
إن الدهشة تعني لنا شعور الإنسان بجهل وجه الصواب، حيث لم يدرك أين هو وفي أي طرف هو والدهشة المقصودة في الفلسفة هي التي تتعلق بالطبيعة وبالميتافيزيقا «ما وراء الطبيعة»، أن الدهشة الفلسفية هي التي تجعل الفيلسوف يتساءل لماذا جاءت الأشياء هكذا؟، إذ يعيش المتسائل حالة وعي بجهله ويسعى إلى التحرر منه، ويستيقظ فضوله أمام عالم سحري يتداخل فيه ما هو مرئي مع ما هو غير مرئي فيجتهد في اختراق أسراره، إذن فالدهشة تحرك الفكر ولا تشله في البحث عن الحقيقة فيكون الهدف هو المعرفة لأجل المعرفة، حتى قيل بأن الفلسفة هي بحث دؤوب عن الحقيقة باستمرار، أما عن مصدر الدهشة فهو الوعي بالجهل وإدراك صعوبة السؤال.
ويرى الكاتب علي عبدالعال أن مفهوم «الدهشة» يشبه إلى حدٍ بعيد مفهوم «الروح الطفل»، أنت تراقب طفلاً رضيعاً كيف يتصرف وكيف يسلك الطريق الغامض بتلك الخطى الصغيرة المتعثرة التي ستؤدي به وتلقيه نهاية المطاف في غمار الحياة الصعبة، ولأن الطفل هو الدهشة الدائمة التي ترى للوجود بصورة لا يراها البالغون أو الكبار، فالشاعر عبد الرحمن بن مساعد لا يترك الطفل الذي يسكن في أقصى القلب أن يغادره، لذلك يطعمه بالدهشة، من خلال الإمعان في إدهاشه والرغبة في عدم ترويضه، من أجل المزيد من الإدهاش والمتعة الروحية.
دائرة الآخر
يعرف الشاعر عبد الرحمن بن مساعد أنه لا يسكن العالم وحده، ولا يستطيع تغييره إلا من خلال نقد السلبيات التي تسيطر عليه، وردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، لذلك لا يتورع من السخرية المرة على جميع من يحاول استغلال الإنسان باسم الدين أو الوطنية، فالإنسان خليفة الله على الأرض لابد أن يعيش مكرما مقدرا في بلاده، لهذا يصب جام نقده اللاذع، حتى على الأمراء الذين يشترون القصائد، على النواقص في المجتمع، على تجار السياسة والمزايدة على الدين والأخلاق، في قصيدة « بهو فندق»:
بهو فندق .. بلد غربي .. في فصل الصيف
على ميعاد أو صدفة .. جمع أجناس مختلفة
ولا فيهم أحد وافق .. أحد ثاني على تعريف للمنطق.
بهو فندق .. فيه الناس مكتظة
فخامة تكسي الجنبات
نادل يحمل الطلبات .. على أواني من فضة
هنا تجار .. يحكوا أسهم وسندات
هنا سمسار .. هنا شاعر .. هنا بنيات
هنا فلكي .. هنا لاعب كره بارع
هنا فنان .. هنا متعهد السهرات
هنا يحكوا عن الأوضة .. هنا يحكوا عن الموضة
هنا يحكوا عن السادات
يحاول الشاعر أن يرسم صورة بانورامية للواقع المعاصر، صورة تعبر عن ماذا يحدث الآن، وماهية الأحلام التي يعيشها الإنسان المعاصر، وبالذات الطبقة الراقية التي تعيش الآن في فندق، والفندق هنا ليس فندقاً بالمفهوم الضيق، مكان للعيش لفترة قصيرة، أو محطات السفر، الفندق هنا، كما يراه رمزا للعالم العربي أو العالم الذي تحدث فيه كل النقاشات والحوارات والارتباكات، وعبد الرحمن بن مساعد يدرك أن الفندق لا يعبر عن الصورة الحقيقية التي يعيشها الإنسان في العالم، لذلك يسخر منه ويحوله إلى نكتة سوداء.
الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد أحد الأصوات الشعرية المتميزة في ساحة الشعر العامي، والناهضة كالنخلة الزرقاء بين بحر الصحراء وصحراء البحر، صوتٌ له حضور طاغٍ في الأمسيات التي تعقد هنا وهناك، صوت يشبه العزف السيمفوني الذي يجمع القصيدة والمتلقي في رقصٍ يشبه علاقة المطر بالأرض.. يجمع العام بالخاص والخاص بالعام بصورة لم تطرح في تجارب شعرية سابقة.. وعندما أستمع إلى تجاربه الشعرية أشعر بشيء من الألفة بيني وبين الكلمات كأنني التقي بالمفردة للمرة الأولى، أو كأنني اكتشفها والتي تتحرك أمامي كما يتحرك الهواء في فضاء الرئتين.. لقصائده نكهة خاصة نادراً ما أجدها عند الشعراء الآخرين، فهي ممزوجة بقهوة الذات، ومهيلة «من الهيل» بالمفردة المتحركة الفاعلة في تركيبة الصورة الشعرية التي تنطلق منها، كما تنطلق الخيول في فضاءات الحرية، له قاموسه الشعري الخاص، وله تراكيبه المتفردة التي، حينما تسمعها خارجة من موسيقى الإلقاء المتميز، تشعر أنك تسبح في بحر الشعر، الأكثر عذوبة من كل أنهار الدنيا.
في الواقع إن الحديث عن تجربة الشاعر عبدالرحمن بن مساعد، ليس بالصورة البسيطة، لأنها تجربة تمتد وتتشعب وتتفرع إلى أنهار وجداول، من الصعوبة أن تحصر في قراءة قصيرة، كهذه التي نعمل عليها، ولذلك ارتأيت أن أقسمها لعدة دوائر، ربما أتمكن من اصطياد بعض الالتماعات الشعرية، وهي أكثر من كثيرة، والاقتراب من عوالمها وتفكيكها، من أجل التعرف على العوالم المتعددة في تجربتة الثرية كثراء قلب الشاعر وهو يتعامل مع المفردة والجملة والصورة التي تتسامق في الفضاء اللانهائي حين ينطقها، خارجة من القلب وداخلة إلى قلب الآخر، بدون تذاكر ودون استئذان، من الممكن أن أتعامل مع تجربة عبدالرحمن بن مساعد من خلال دوائر أساسية، هذه الدوائر هي: دائرة الذات، ودائرة الوطن، ودائرة العالم، كل دائرة هي الأخرى محتاجة لدوائر داخلية أو مثلثات داخلية، من أجل المساعدة على شئ من الإحاطة، وهي صعبة، ونحن نقوم بعملية التفكيك.
بداياته مع الشعر
يقول عبدالرحمن بن مساعد عن بداياته مع الشعر، انفعلت ذات يوم بحدث، وأحسست بكلمات تتفاعل في داخلي وتنساب على لساني تعبيراً عن هذا الانفعال، واستحساناً لمن حولي، هكذا عانقت الكلمة لأول مرة وعانقتني هي ولا أدري أينا بدأ العناق؟، وأنا لم أحاول أن أكون شاعراً لأن في الأسرة شعراء، ثم إن أخي عبد الله هو أستاذي، نعم أعترف بذلك لا أدري لماذا تفجرت العواطف والأحاسيس وشقت مجرى للشعر؟، مجرى سال منه شعر يطرب الخاطر ونثر يسكن الفؤاد، وتهفو لـه نبضات القلوب وجدت نفسي قادراً على تقديم شيء، ولي ثقة أن لدي بعض الجمهور ولكن ليس الغرور، كل ما استطيع تأكيده أن لدي جمهوراً من المتلقين في ميدان الشعر، ومثله في ميدان الفن التشكيلي، وقد بدأت محاولاته لكتابة الشعر، وهو في حوالي الرابعة عشرة عندما كان في مدرسة الطائف النموذجية.
وضوح وصراحة
ويتميز شاعرنا بالوضوح والصراحة التامة، فلا يتردد أو يجد غضاضة في أن يقول أنني أخطأت أو غلطت في الموضوع الفلاني، أو لم يحالفني ديواني الأول قصائد نبطية وأنا نادم عليه الآن، فهو إنسان مؤمن الحكمة ضالته، والحقيقة هدفه، والبحث عن الصواب مبتغاه، لا يتوانى أن يعود من منتصف الطريق، متى ما اكتشف أنه يسير في الطريق الخطأ، بل يدعو اللـه ويتضرع إليه أن يهدي قلبه، وينير دربه إلى سبيل الخير والرشاد.
«دايم السيف»
وعن كتابته تحت اسم «دايم السيف» في بداياته، يقول، لكل إنسان ظروفه وقناعته، على أن الاسم المستعار وحده ـ بطبيعة الحال ـ لا يصنع شاعراً، ويضيف، وكل من يود أن يقدم عملاً جيداً عليه أن يحترم الذين يقدم لـهم هذا العمل الفني، والتخوف من هذا المنطلق احترام للناس وليس جبناً، هو احترام لمستوى القارىء واحترام لتذوقه، والكتابة تحت اسم مستعار تكون لجس النبض، وهي اختبار للشعر لمعرفة مدى إمكانية وصولـه للمتلقي، وبحمد اللـه أثبت الشعر نجاحاً فتم تجميعه في ديوان «والحمد للـه عرف شعري قبل أن يعرفني الناس، وهذا فخر لي»، ويقول شاعرنا عن الاسم المستعار، إنه رمز يحتاج إلى شيء من الجهد للوصول إلى المدلول، لاسيما في تلك الفترة التي لم يكن اسمي الحقيقي قد عرف جماهيرياً بالشعر بعد، فخالد مرادف لدايم، والفيصل اسم للسيف، ومن وقتها وحتى الآن أجد ميلاً إلى هذه الرموز المقننة في إنتاجي.
قصيدة العمر
تزوج شاعرنا عندما كان عمره 25 سنة، ويقول، زواجي كان طبيعياً، وكان باختياري أيضاً، ويكفي للتعرف على العلاقة بين الاثنين أن نقرأ الصفحة الأولى ـ الإهداء ـ من ديوان «قصائد نبطية « والتي يقول فيها شاعرنا:
إلى قصيدة العمر أم بندر
لك يا عنود الصيد حرفي ومعناي
عمري قصيدة حب قدمتهـا لـك
معك أشرقت شمس المحبة بدنياي
صورة قصيدي لمحة من خيالـك
تأثره بالمتنبي
وشاعرنا متأثر إلى حدٍ كبير بالمتنبي إذ يقول عنه، أعترف أنني توقفت طويلاً أمام خزانة المتنبي أقلب وأتفحص درره التي أعجبتني كثيراً، إنني من الذين شغلـهم شعر المتنبي، ولقد قرأت فيما قرأت ـ بحثاً للدكتور محمد يسري سلامة موضوعه الحكمة في شعر المتنبي وأعجبت بالنقد التحليلي الذي خرج به البحث حول تيار الحكمة أصيل ينبعث من شعره مهما تعددت أغراضه، أولا: دائرة الذات، وهي في تصورنا من أهم الدوائر التي يسبرها الشاعر عبد الرحمن بن مساعد، دائرة تنداح من شجرات العاطفة المتفرعة إلى أغصان وأوراق، في كل ورقة منها نلقى تجربة رائعة ورؤية بانورامية لعوالم الذات الحاضر أبداً، ومن أهم القضايا التي ظلت تشغل الشاعر ولفترة ليست بالقصيرة اكتشافه أنه أمير وجده باني ومؤسس المملكة العربية السعودية، المرحوم بإذن الله تعالى الملك عبد العزيز بن سعود.
تجربته الحياتية
يقول الأمير عبدالرحمن بن مساعد، وهو يتحدث عن تجربته الحياتيه في هذا الجانب، اكتشافي أنني أمير لم يخل باتزاني، ولم يدفعني لاستخدام صلاحيات لم تكن متوفرة لدي، فأنا أساساً عشت حياة بسيطة لم أحب أن أفرط بها، ولم أضغط على نفسي لأتعامل مع الآخرين برسمية أو تكلف، تمسكت بحياتي السابقة وتعلمت الاندماج بالآخرين أفضل من الابتعاد عنهم بحجة الوجاهة أو الاحتفاظ بالمنصب، أو القيمة الاجتماعية، فالقيمة وجدتها ترتفع وتزداد كلما اقتربت من الناس، وفي الرياض كان الاحترام واضحاً لمكانة الإنسان الاجتماعية. ونراه أيضاً لا يستنكر كونه أميراً ولكن الواقع الذي يحياه قد أتعبه ولذلك جاءت إحدى قصائده تعبر عن مدى التعب الذي يعانيه الشاعر، يقول:
تعبت أنزف جراحي حبر وأدور للألم أسباب
لأجل أكتب شعر يحكي بعض أصغر معاناتي
قفلت من الأسى بابي وسجنت الكون خلف الباب
وعصتني دمعةٍ فيها سؤال لكل إجاباتي
مللت أخبار حسادي أحد صادق وأحد كذاب
وأحد ما طال تجريحي وأحد عايش لزلاتي
أنا شاعر رغم أنف الحسد والحقد والأحباب
وانأ ياحاسدي المسكين بعيد العيب عن ذاتي
أنا ما زادني شعري ولا زادتني الألقاب
تجي دنياي أو تدبر عزيز فـ كل حالاتي
أنا فرحي لمن حولي وأيامي فدى الأصحاب
قصيدي بلسم المجروح ونبض الناس بياتي
كسرني قلبي المكسور نادت دمعتي الأهداب
تعبت أركض ولا أوصل ولا توصلني غاياتي
أبي ذل ٍ يغطي الأرض لك يا رب يا وهاب
وأبي أحيا جبيني فوق ما تملكني رغباتي
من الدنيا أنا مابي سوى عفو العلي التواب
ويحسن خاتمة فعلي ويغفر لي ضلالاتي
أبملا العمر «بالتوبة» و«نوح» و«هود» و«الأحزاب»
متى كانت سنيني عمر؟ أنا عمري في ركعاتي
هذه القصيدة والتي تحتاج إلى دراسة مطولة، شارحة ومفسرة ومحللة للأبعاد الفكرية والفنية والاجتماعية واللغوية التي تزخر بها القصيدة، لذلك اعتبرها القصيدة الأم والتي تأتي القصائد الأخرى منطلقة منها إلى مساحات تقترب أو تبتعد عن القصيدة البؤرة.
الحالة الشعرية
وأتفق مع الشاعر عبد الرحمن بن مساعد، حين يقول، أتذكر أن التحول من كتابة الفصيح إلى العامي بدأ عندما أحببت لأول مرة، أحسست أن التي أحبها لن تفهم الفصيح، لكن هناك شيئاً غريباً هو أنني لا أذكر متى خفق قلبي لأول مرة، ولمن؟ لا أعرف من هي أول حبيبة في حياتي.. تخيلوا! ربما لأنني كنت أحب الحالة نفسها، وليس المرأة، ربما كنت أرغب أن أكون معذباً، فكانت البداية من هذا المنطق، وشعرت أنني يوما سأكون شاعراً جيداً، فالشاعر يحلم بالوصول إلى ذروة الحالة الشعرية عبر الدخول في التجربة أكبر من الموضوع الذي يشتغل عليه، سواء كان الموضوع امرأة، أو قضية يريد إيصالها المتلقي.
أول شاعر معاصر
يقول الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي، الأمير عبدالرحمن بن مساعد هو للأمانة أول شاعر معاصر في الشعر النبطي، أرجله ثابتة على التراث ومستنير إلى حد بعيد جداً، ويلتقط المفارقات الإنسانية والاجتماعية بسخاء، يجيد النظر إلى عالم الفقراء، يجيد النظر للإحساس بمشاكلهم وأمورهم، الأمير عبدالرحمن بصراحة رجل يستطيع أن يلمح الشعر في كل تفاصيل الحياة، وهو قريب لنفسه وعواطفه، لغته قريبه لإحساسه، وهو وشعره شيء واحد، وأنا أعتبره من الأصوات النادرة في شعر الجزيرة، وأتمنى ألا يكف عن العطاء ويظل هذا السيل المنهمر دائماَ وأبداً مستنيراً ومتألقاً.
اللغة عند بن مساعد
يستخدم الشاعر عبدالرحمن بن مساعد اللغة الثالثة في تعامله مع المفردة الشعرية وهي الاقتراب من كلام الناس اليومي، أو ما اسميه لغة الأم أو لغة أهل البيت، فلا هو يعود للمفردة البدوية التي تحتاج إلى قاموس من أجل تعريفها، لذلك جاءت قصائده قريبة من قلب الإنسان، يشعر بها المتلقي وبها الشيء الكثير من مشاهدات ومتابعات القارئ اليومية والتي يسمع بها في المجالس أو من خلال الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية.
يقول في مقطع كراسي من قصيد «تعاريف»:
الكراسي..
مصدر أفراح..ومآسي..
لا هي تبارك .. لجالسها الجديد..
ولا هي اللي.. لربع تاركها تواسي..
الكراسي عامدة..
تهزأ بنا وهي جامدة ..
الصرير اللي ايتسرب من قوائمها..
يقول: مافي أحد منكم أساسي!!
هنا يصب جام الشاعر نقده على الراكضين إلى الكراسي والتي لا تكون إلا دوارة، لا تبقى من فوقها وتمل من جلوسه عليها، وهذا النقد يشمل الوزراء والزعماء السياسيين ومدراء الشركات الكبيرة، إنه يطرح رؤية الأغلبية التي تمر من فلتر تجربته الحياتية والفلسفية للحياة المعاصرة، الشاعر يؤنسن الكرسي ويعطيه البعد الذي يمكنه من الكلام والحديث، وحينما يتوصل الشاعر إلى أنسنة الجامد، معناه أنه تمكن من الوصول في قصيدة شبيه الريح يأخذنا الشاعر في رحلة كونية، هي رحلة الريح في عواصم وبلدان ومواقف وقضايا اجتماعية ونفسية وثقافية، وتعد من أشهر أغاني فنان العرب محمد عبده إضافة لأغنية «مذهلة» وأغاني أخرى تعاون فيها مع محمد عبده، التي تعاون فيها مع الشاعر في مجال الأغنية.. يقول فيها:
شبيه الريح..
حبيبي الأصدق الأكذب..
عجزت أوصل شواطي .. طبعك الأعذب..
تعبت أنظر... في وسط العاصفة..
قلب وشعور وعاطفة..
تعبت أجمع ألم كل الموادع...
في المواني..
وأحضـــــــن أطيافك
تعبت السهد في ليل الشوارع..
والثواني..
تنطر إنصافك
تعبت الظلم ..وإجحافك..
تجربة عبد الرحمن بن مساعد في تصوري من التجارب الشعرية الهامة التي تحتاج إلى العديد من الدراسات، لأنه ظاهرة من الظاهرات الجديدة التي تحتاج المزيد من الضوء والمزيد من التفكيك فيها من حيث اللغة والأسلوب والقضايا المطروحة، ومن حيث الجدة والتجديد، إن عبدالرحمن بن مساعد قامة شعرية شابة أخرجت وتخرج الشعر العامي من التكلف الذي أدخل فيها ومن الصنعة والبهرجة والتي هي ليست من روحه وعالمه الحقيقي.
دائرة الوطن
للوطن مكانة خاصة عند الشاعر عبدالرحمن بن مساعد، بحيث أن هناك عشرات القصائد الساخرة من بعض السلوك الاجتماعي، والتي هي عملياً تصب في خانة تنظيف الوطن والمجتمع من مثل هذه السلوكيات التي بوجودها، يكون الوطن ناقصاً، مؤكداً فيها على حب الوطن هو المعنى الحقيقي وراء كلمة مواطن، فلا وجود لخضرة الحياة إلا من خلال الحب، للوطن ولمن يعيش في الوطن، وللقائد الذي من خلال حكمته يرتفع شأن الوطن بين أمم العالم.
من هنا نراه يقول في قصيدة «قبلوا تراب الوطن»:
قبلوا تراب الوطن... هذا الزمان أخضر
واشكروا مجزي النعم ... يزيدكم أكثر
كرامة ٍ عز ٍ وجود ... كثروا لله السجود
وافرحوا بغيض الحسود ... واقهروه أكثر»
بين الدهشة والإدهاش
الشاعر عبد الرحمن بن مساعد يعيش في تجاريه حالة من الدهشة المستمرة وهو يتعامل مع الواقع والذات والكون، لذلك ينعكس دهشته بما يرى ويشعر على قصائده، فتخرج إلى القارئ أو المستمع تحمل حرارة الإدهاش. يقول الشاعر محمد عفيفي مطر ، بعد أن وصل إلى سن السبعين من عمره، في لقاء له مع بركسام رمضان، إن تحليل مفهوم الدهشة، وهي الفعل الانفعالي العقلي العجيب الذي يؤسس للفلسفة والشعر والفن وسائر خطي البشرية علي معراج الخروج من الظلمات إلى النور، نور المعرفة والعلم والإبداع ونور الشعور الكوني بالصدور من مطلق الإبداع في «كن»، والعودة إلي مطلق الرحمة في نور التوكل الشجاع المناضل المليء بالقلق والشوق والأسئلة وكل حياتي العقلية والروحية والإبداعية ليست إلا رجع الصدى لصخب هذا القلق الخلاق.
إن الدهشة تعني لنا شعور الإنسان بجهل وجه الصواب، حيث لم يدرك أين هو وفي أي طرف هو والدهشة المقصودة في الفلسفة هي التي تتعلق بالطبيعة وبالميتافيزيقا «ما وراء الطبيعة»، أن الدهشة الفلسفية هي التي تجعل الفيلسوف يتساءل لماذا جاءت الأشياء هكذا؟، إذ يعيش المتسائل حالة وعي بجهله ويسعى إلى التحرر منه، ويستيقظ فضوله أمام عالم سحري يتداخل فيه ما هو مرئي مع ما هو غير مرئي فيجتهد في اختراق أسراره، إذن فالدهشة تحرك الفكر ولا تشله في البحث عن الحقيقة فيكون الهدف هو المعرفة لأجل المعرفة، حتى قيل بأن الفلسفة هي بحث دؤوب عن الحقيقة باستمرار، أما عن مصدر الدهشة فهو الوعي بالجهل وإدراك صعوبة السؤال.
ويرى الكاتب علي عبدالعال أن مفهوم «الدهشة» يشبه إلى حدٍ بعيد مفهوم «الروح الطفل»، أنت تراقب طفلاً رضيعاً كيف يتصرف وكيف يسلك الطريق الغامض بتلك الخطى الصغيرة المتعثرة التي ستؤدي به وتلقيه نهاية المطاف في غمار الحياة الصعبة، ولأن الطفل هو الدهشة الدائمة التي ترى للوجود بصورة لا يراها البالغون أو الكبار، فالشاعر عبد الرحمن بن مساعد لا يترك الطفل الذي يسكن في أقصى القلب أن يغادره، لذلك يطعمه بالدهشة، من خلال الإمعان في إدهاشه والرغبة في عدم ترويضه، من أجل المزيد من الإدهاش والمتعة الروحية.
دائرة الآخر
يعرف الشاعر عبد الرحمن بن مساعد أنه لا يسكن العالم وحده، ولا يستطيع تغييره إلا من خلال نقد السلبيات التي تسيطر عليه، وردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، لذلك لا يتورع من السخرية المرة على جميع من يحاول استغلال الإنسان باسم الدين أو الوطنية، فالإنسان خليفة الله على الأرض لابد أن يعيش مكرما مقدرا في بلاده، لهذا يصب جام نقده اللاذع، حتى على الأمراء الذين يشترون القصائد، على النواقص في المجتمع، على تجار السياسة والمزايدة على الدين والأخلاق، في قصيدة « بهو فندق»:
بهو فندق .. بلد غربي .. في فصل الصيف
على ميعاد أو صدفة .. جمع أجناس مختلفة
ولا فيهم أحد وافق .. أحد ثاني على تعريف للمنطق.
بهو فندق .. فيه الناس مكتظة
فخامة تكسي الجنبات
نادل يحمل الطلبات .. على أواني من فضة
هنا تجار .. يحكوا أسهم وسندات
هنا سمسار .. هنا شاعر .. هنا بنيات
هنا فلكي .. هنا لاعب كره بارع
هنا فنان .. هنا متعهد السهرات
هنا يحكوا عن الأوضة .. هنا يحكوا عن الموضة
هنا يحكوا عن السادات
يحاول الشاعر أن يرسم صورة بانورامية للواقع المعاصر، صورة تعبر عن ماذا يحدث الآن، وماهية الأحلام التي يعيشها الإنسان المعاصر، وبالذات الطبقة الراقية التي تعيش الآن في فندق، والفندق هنا ليس فندقاً بالمفهوم الضيق، مكان للعيش لفترة قصيرة، أو محطات السفر، الفندق هنا، كما يراه رمزا للعالم العربي أو العالم الذي تحدث فيه كل النقاشات والحوارات والارتباكات، وعبد الرحمن بن مساعد يدرك أن الفندق لا يعبر عن الصورة الحقيقية التي يعيشها الإنسان في العالم، لذلك يسخر منه ويحوله إلى نكتة سوداء.