بقلم - الشيخ خالد السعدون:
تقدم في مقالتنا السابقة التنبيه على أن الناس فطروا على الخطأ والذنوب، وأنه ما من أحد إلا وهو يذنب، ومن ثم فليكن حكمنا ليس على الخطأ وحده، وإنما على ما غلب من حال ذاك المخطئ، لتستقيم وتصفو أخوة الدين، أما بعد، فقد نمتدح مقصراً فهذا لا يعني إقراراً، ولا يعني أننا سويناه بمن استقام دهره وبه قد صلح، ولو رمينا صالحاً بسوء، فهذا لا يعني إذلالاً وإبعاداً، أو نسويه بمن ساء وطلح، أخرج البخاري عن أبي هريرة: قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت «في جوف الليل»، فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى الغداة»، يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة ؟! قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود!.. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود! قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم...» حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: «إذا أويت إلى فراشك....، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة، قال: لا، قال: ذاك شيطان».
فها هنا بين نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قد صدق! فقال: «أما إنه قد صدقك»، وهذا من العدل في الحكم ولو للخصم! وعبر عنه بفعل ماض: «صدقك» إشارة إلى قلة أو ندرة صدقه، فالتعبير بالماضي يدل على التقليل، ثم أردفه بالأصل والبيان، وأن هذا خلاف أصله من الكذب فقال: «وهو كذوب»، وهذا تعبير بجملة اسمية يدل على التكثير، وثبوت الوصف وقراره في الموصوف.
فيؤخذ منه وبالأولى أن إخواننا إذا أخطؤوا ولهم كثير صواب، وإذا أردنا معهم عدلاً وإنصافاً، أو أردنا السنة، أو على أقل حال الزحزحة عن النار فيلزمنا على الأقل ولو مرة واحدة أن نقول مثلا عند الرد والتصحيح لا الفضح والتقبيح: أخطأ فلان وهو أخونا، أو أخطأ فلان وهو فاضل، أو على أشد حال من سوء المقال: أخطأ أخونا وقد ضل وجهل! فيما لو أردنا زجراً وتشديداً، وأما من لم يوفق للسنة فلسان حاله إذا حكم على إخوانه: «أخطأ الخبيث وهو خبيث» أو كذب فلان وهو كذاب! فصير الفرع أصلاً، وسلط القليل على الكثير!
فاللين يكون مع من كان صحيح العقيدة والمنهاج، ومثله قد يكون مع جاهل غير معاند ولا مستكبر، لكنه ضل لجهله لا هوى نفسه، بل وقد يعمل باللين حيناً حتى مع كافر مستكبر جبار، قال الحق تعالى: «اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري «42» اذهبا إلى فرعون إنه طغى «43» فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى».
وإن ابتغينا فصل الحكم في المخالف تبياناً لأمره ولوصفه الغالب، فلا ضير إذا رددناه إلى أصله، بل هذا الرد هو السنة كما في الحكم على إبليس اللعين، فقال «صدقك» عدلاً منه صلى الله عليه وسلم وتصديقاً لما به صدق، ثم أتبعها بما هو معلوم من أصله وغالب أحواله فقال «وهو كذوب».
- منهج السلف الصالح في الحكم على الناس: روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قال عبدالله بن المبارك: «قلت لسفيان الثورى إن عباد بن كثير، من تعرف حاله! وإذا حدث جاء بأمر عظيم! فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى. قال عبدالله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد، أثنيت عليه في دينه، وأقول لا تأخذوا عنه».
فثناؤه عليه في دينه كان أصلاً، لكنه فرع على هذا الأصل أمر الرواية، فلما كان فيها ضعيفاً، حكم عليه لهذا الفرع، وحذر من الرواية عنه، ولكن بعد إذ رده إلى أصله من حسن الدين.