كتب ـ علي الشرقاوي:
خلع عليه الرواة لقب «شهيد العشق»، هو أعاد للأذهان قصص الحب الخالدة في الأدب العربي قيس بن الملوح وجميل بثينة وكثير عزة وعنترة العبسي.
أحب الشاعر القطري محمد الفيحاني بكل جوارحه وخلجات نفسه إحدى فتيات القرية حباً صادقاً لا تشوبه شائبة، ولكن العادات والتقاليد بحكم خطبتها لابن عمها حالت دون لقاء الحبيبين، ليبقى المحب هائماً على وجهه يبث همومه وشكواه شعراً لم يعرف الخليج مثيله.
ودع الفيحاني الدنيا الفانية وهو في الثانية والثلاثين من عمره بعد أن هده العشق والوجد وتناهبته الأمراض، وقال لصديقه وهو على فراش المرض «مي ماتت قلبي يحدثني بذلك»، ويقول الرواة إن الحبيبين فارقا الحياة فعلاً في يوم واحد.
شبعنا من عناهم
في مرحلة الصبا كانت الأغاني المصرية هي الغالبة، ورتب مطربون أمثال عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وآخرون وجداننا ونظرتنا للحب، إلا أن بعض المطربين البحرينيين كانت لهن مكانة خاصة، منهم محمد وزيد وعبدالله سالم بو شيخة، وكانت أغنيته «شبعنا من عناهم وارتوينا وعند رسوم منزلهم يجينا» توجهنا دائماً جهة القلب.
وتقول كلمات الأغنية
شبعنا من عناهم وارتوينا وعند رسوم منزلهم بكينا
وعقب فراقكم شنا وحنا وحنينا وثم أنا عوينا
وسايمنا وساقمنا وحنت لنا حتى المنازل والعنينا
ونادينا وقلنا خبروهم ترانا من محبتهم نعينا
وأثرنا من مفارقهم نحلنا وكان فرقاهم طاول فنينا
إلى جيتم منازلهم فقولوا لهم بأقوالنا يا راحلينا
ولا تنسون ما قاله محمد أمانتكم لها ياحاملينا
ترانى للذي قالوا سمعنا وباللي هم بغوا منا رضينا
وكل شروطهم نقدم عليها قدمنا بالذي فنوا علينا
وأثرنا من مخالفهم رجعنا وهونا عقب ماحن عصينا
وثرنا من محبتهم حفرنا وسيسنا ومن فوقه بنينا
تكلفنا وهم عنا براحه وذبنا وهم عنا غافلينا
وناموا ورقدوا واحنا سهرنا عليهم وهم ريوا والتظينا
وهذا الحب بالزفرات يشوي ألا يا ويلكم يا عاشقينا
يلين من المحبة كل قاسي ولو قلبه حجر يازي طحينا
لحلاوة الكلمات وعذوبة اللحن وسهولة الأداء، كنا نردد الأغنية في كل مكان، في البداية لم نكن نعرف من هو صاحب الكلمات، وما كان يهمنا ذلك، الأكبر سناً منا يعرف اسم صاحبها، ومن هو في عمرنا لا يعرفه.
بعد أن كبرنا عرفنا أنه الشاعر الكبير محمد عبدالوهاب الفيحاني، عاشق عانى لوعة الحب العذري كما عاناه من قبله قيس ابن الملوح، والسؤال الذي كان يتردد بيننا من هي المرأة التي حولت الفيحاني إلى عاشق عذري على نمط الشعراء العشاق في التاريخ العربي.
عرفت حبيبته مي من إحدى الجلسات مع الشاعر البحريني الكبير علي عبدالله خليفة ، ومن خلال قصيدة تقول..
قصت حبالك من عقب وصلها مي
واستبعدت من عقب ما هي قريبه
ومن المحبة ما بقى عندها شي
صارت عقب ذيك الصداقة حريبه
امتر صافي مايها العذب وانطي
اصري ولا ظنيت يصفي قليبه
ولا هقيت يعود لي ذلك الفي
هيهات مرجوع القمر من مغيبه
ألا أن تعود عصور شداد ولوي
وإلا الصبا يرجع لعود وشيبه
يا ويل قلبي من بلاويه ياوي
الله الأحد ويلاه ي ا هي مصيبه
أعدم بقايا صحته منهج الغي
واتلاه صرف الوقت حطه ضريبه
تسمع حنينه كل ما بالحشا ضي
حنين مسيوق الرياح الصليبه
يدوي ولي من حركه ذكرهم هي
وازداد من فرقى الحبايب نحيبه
وأن ليم صمصم ما يطيع العذل عي
مفتون كثر اللوم عيى يجيبه
ما لوم كن بضامره يرسم الكي
لي من ذكر قطع الرجا من حبيبه
نوحي حمامة كل ما نحت والعي
غريب وأنت يا حمامة غريبه
الكل منه ضامه الوقت والني
وإلى شكى ما شاف له من يثيبه
باشكي عليك الحال وأنت لي أشكي
وتعززي لي لو على غير ثيبه
قالت ربوعك وينهم قلت ما شي
قالت بلى وين الذي تعتزي به
قلت الذي تعنينهم ذبوا الطي
واللي تحريته بهم صار خيبه
تعذروني يا حمامة بلا شي
يوم استمت حبلي وشفت الغليبه
خلوني الخلان واستعذر الخي
اللي ذخرته للخطوب الصعيبه
واللي نخيته عقبهم صابه الي
يا عونة الله وين من نلتوي به
ولكن مع التقدم العمري والمعرفي بدأنا التعرف على هذا الشاعر الكبير وعرفنا قصة كتابة أو قول قصيدة له «شبعنا من عناهم وارتوينا»،
بحثنا عنه بين من يعرف تاريخه وفي كتاباته وبين من كتبوا عنه في الفضاء الافتراضي، فخرجنا بما يمكن أن يعطي هذا الشاعر العملاق شيئاً من حقه وتجربته الحياتية ويبقيها في ذاكرة الأجيال المقبلة.
هاضني وحدث شجوني
من الأغاني التي مازالت في الذاكرة أغنية «هاضني» وتقول كلماتها
هاضنـــــــــي وحــــــــدث شجونــــــــي
حــــــــب نــــــــــــــاس مـــــا يبونــــــي
يرقــــــــدون الليــــــــــل كلــــــــــــــــه
والسهــــــــــر قطــــــــــر عيونــــــــــي
لــــــــــو يبونــــــي كـــــــان جونــــــــــي
فــــــــــي وعدهـــــم مـــــا أخلفونـــــي
يــــــــــوم شافونــــــــــي مسيــــــــــــر
سيــــــــــروا لــــــــــي خلفونــــــــــــي
كنا نرددها في الجلسات خاصة من خلال أحد العزاف الذين يتقنون العود.
الفيحاني عالمياً
اسم شاعرنا العاشق محمد بن جاسم بن عبدالوهاب الفيحاني، وهو من عائلة الفياحين، وهم فرع من فخذ الروبة من قبيلة سبيع وهذا ما يقره أبناء العشيرة وهو المتفق عندهم. جده محمد الفيحاني من أكبر تجار اللؤلؤ في الخليج، أما والده جاسم بن محمد بن عبدالوهاب من تجار اللؤلؤ المعروفين، وصاحب ثروة لا بأس بها، أما جده لأمه فهم من آل طوار الكرام من قبيلة البوكوارة. ولد الشاعر العاشق في بلدة الفويرط على الساحل الشمالي الشرقي لقطر، أما عن تاريخ ولادته فذكر المؤرخ السعودي صالح الذكير تاريخاً دقيقاً 10 يناير 1907.
البحر والتجربة الشعرية
البيئة البحرية المائية دائماً ما تعمل على ترطيب روح الإنسان المنتمي إليها، وكان محمد الطفل واحد من أطفال البحر، حيث الغوص على اللؤلؤ هو المهنة الوحيدة التي مارسها أبناء قطر.
ولازدهار الصيد ـ صيد اللؤلؤ ـ ازدهرت التجارة بين قطر والدول الأخرى المعتمدة على خيرات بحار الخليج، وكانت السفن تملأ الشواطئ الشرقية والشمالية من قطر، وكانت بلدة فويرط مزدهرة وعامرة بالسكان.
وحسب ما يقول رواة سيرته، فإنه بعد مولده بعام توفيت والدته، فنشأ يتيم الأم، وسارعت خالته لتحتضن ابن شقيقتها، وأرضعته وعوضته بحنانها عن فقد الأم، ولكن الصغير لم يهنأ في كنف خالته غير عامين، حيث ماتت هي الأخرى، فعهد به والده إلى إحدى قريباته لتربيته والعناية بشؤونه. وتمضي الأيام بالطفل اليتيم مزيجاً من البؤس والشقاء وسوء الحظ، والمعاناة النفسية التي جعلته يحمل قلباً يفيض رقة وشاعرية وحباً، وكان في صغره يميل إلى العزلة وظهرت عليه بوادر الشهامة. انتقل والده من قطر ليعود إلى بلدته دارين، ويأخذ معه طفله اليتيم محمد، وعند وصوله انزوى الصغير بعد مشاكل كثيرة نشبت بينه وبين الأطفال في الحي بسبب اختلافه عنهم، فأقنعه والده بلزوم البيت وقضاء وقته في القراءة، وبدأ والده يدرسه القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
دراسته وتعليمه
يقول الذكير عن دراسته «لما بلغ الفيحاني السابعة من عمره عهد به والده إلى أحد كتاتيب القرية ليأخذ قسطاً من التعليم، بعدها بفترة وجيزة أرسله إلى الكويت مع أحد أقربائه للدراسة هناك، وفي الأيام الأولى لوصوله أدخله المدرسة المباركية، وهي المدرسة الوحيدة هناك، وبدأت رحلة الفيحاني الدراسيه التي تلقى خلالها العلوم الدينية من فقه وتفسير وغيره على أيدي كبار الأساتذة، وبدأ يعشق الأدب فحفظ الكثير من دواوين الشعراء القدامى، ولما بلغ الثانية عشر من عمره وهو مازال على مقاعد الدراسة منكباً على تلقي العلم توفى والده الشيخ جاسم في الهند، فعاد إلى قطر دون إكمال دراسته».
في قطر
عاد الشاعر الفيحاني من الكويت إلى مسقط رأسه قطر على ظهر أحد المراكب الشراعية دون إكمال دراسته بعد وفاة والده، وكان يلبس غترة وفوقها عمامة بيضاء وكان عمره يزيد عن عشرين عاماً، جاء إلى أخواله آل طوار في فويرط، ورتبوه إماماً في مسجدهم الذي كانوا يصلون فيه، وبعد مدة من الزمن خلع العمامة ولبس زي أهل قطر الغترة البيضاء والعقال الأسود، وكان يلبس البشت في بعض المناسبات، وعندما خلع العمامه قال:
قلبي عن الغي في صندوق ومحكماتٍ لواليبه
ما فاده الصبر قام يتوق من عب سيد رعابيبه
اتصف محمد رحمه الله بأحسن الأخلاق وأفضل الصفات، وأجمل وأنبل الخصال والشمائل، كان حسن السيرة وحسن الهيئة والسمت، وفياً لأصدقائه، حيياً خجولاً طيب المعشر، مؤدباً عفيفاً شريفاً، مهذباً في كلامه وفي تصرفاته وكان نقياً ورعاً محافظاً على الصلوات، أما صفاته الخلقية والجسدية، كان قوي البنية والشخصية، وسيماً، ويبدو أنه كان طويلاً أو أقرب إلى الطول، وهناك من الرواة من قال إنه متوسط الطول، ومن الرواة من قال إنه أسمر، ومنهم من ذهب إلى أنه أبيض، وآخرون قالوا إنه كان أبيض مشرباً بحمرة، معتدل القوام، وكانت عيونه واسعة جميلة ومن خلال شعره يتبين لنا بعض صفاته الخلقية دون أدنى شك أو ريب.
يقول الفيحاني في صفة نحول جسمه، مقرراً أنه كان سميناً بعض الشيء ثم نحل سحت لحومه نجر سمه والأول لحيم
أما دليل بياض بشرته ثم تغيرها إلى السمرة بسبب معاناته الطويلة في الحب فيقول: ولا لوني غدا من عقب ما هو كما القرطاس مثل القار نيلي
في فضاء الحب العذري
أحب الفيحاني بكل جوارحه وخلجات نفسه إحدى فتيات القرية، حباً عذرياً صادقاً، عفيفاً شريفاً لا تشوبه شائبة ولا تقرب منه أدنى ريبة وأطلق عليها في شعره اسم (مي) وعاش قصة حب مؤثرة تناقلها الرواة إلى يومنا هذا.
وقرر الزواج منها، ولكن تقاليد الأسرة لم تسمح له بذلك لوجود ابن عم لها خطبها لنفسه، وله الأولوية عليه حسب العادات الاجتماعية المرعية في تلك الحقبة، فظل هائماً وفياً في حبه، ينظم القصائد ويبعث بها إلى أصدقائه من الشخصيات المرموقة في عصره راجياً مساعدته أو التوسط له لنيل مراده، ولكن كل المحاولات فشلت، ولم يقدر الله له الاجتماع بمن أحب، حتى أرهقه الحب وأضناه العشق وأصيب بالأمراض المختلفة المستعصية على العلاج، وظل هذا حاله إلى أن توفاه الله.
ولذلك انتشر بين الناس أن الشاعر قتله الحب العذري شأنه شأن الشعراء من أهل العفة والصدق، وتحدث في شعره كثيراً عن مأساته وشرح معاناته وتنبأ بنهايته.
من غيص إلى صاحب سفينة
أقام الفيحاني في الأعوام الأولى من عودته إلى قطر في بيت عم والدته ناصر بن شاهين «طوار»، ثم ركب البحر وعمل في مهنة الغوص على اللؤلؤ، شأنه شأن أهل قطر في تلك الفترة.
كان البحر والغوص في أعماقه لاستخراج اللؤلؤ هو المصدر الوحيد للرزق، فلا بد والحال أن يتجه الشاعر إلى البحر، ويصبح غواصاً ماهراً بعد ذلك.
وركب البحر أولاً في قرية فويرط مع النوخذة محمد بن كليب الكواري، ثم أصبح نوخذة في سفينة من نوع «جالبوت» استأجرها من أحد نواخذة البحرين أطلق عليها اسم «فريجة»، وركب مع النوخذة سعيد بن أحمد الربيعة الكواري، وركب الردة مع النوخذة صالح بن غان الكواري.
وذكر عنه أنه كان يغوص وينظم الأبيات في قعر البحر، وإذا خرج يلقنها لزملائه على ظهر السفينة كي يحفظونها إلى أن تكتمل القصيدة، ويذكر مثالاً على ذلك قصيدة
من الفرقا عساها للنفادي ألا ياصا حبي ومن البعادي
أنا ما ني بعن لا ماك صابـر حداني لك من الويلات حادي
وبعد مدة من الزمن امتلك الفيحاني سفينة صغيرة، وأصبح فيها نوخذة، وكان يركب معه القليل من أصدقائه ومنهم محمد بن يوسف الكواري، وعندما يحين وقت النوم يذهب كل إلى فراشه ويظل الفيحاني ليس له مكان للنوم، وهكذا كان الفيحاني في البحر كما هو في قريتة كريماً سخياً شهماً يألف ويؤلف، ويلف حوله زملاءه يحبهم ويحبونه، ويعينهم ويعينونه ويكرمهم ويكرمونه.
رحلة الغارية
في سنة 1349 هـ رحل آل ربيعة من بلدة الفويرط ونزلوا بلد الغارية، فرحل معهم الشاعر الفيحاني ونزل في جوارهم، ومع ذلك لم ينس الفيحاني أخواله آل طوار الكرام، ولم ينس ذكريات طفولته في بلدته الفويرط فكان يزور ويواصل أخواله الذين تربى بينهم.
وسكن الشاعر أول وصوله الغارية في منزل سعيد بن أحمد الربيعة الكواري، وبعد فتره من الزمن سكن الفيحاني في منزل مهجور من منازل الغارية القديمة، بعد أن أصلحه ورممه وعمره بالكرم والجود، وكان مجلسه مفتوحاً ولا يخلو من الأصدقاء والأصحاب والضيوف، وكان بعض الأصدقاء يساعدونه في إعداد القهوة وطبخ الولائم، وهو حينها يملك ثروة لا بأس بها يبدو أنه ورثها عن والده، وينفق منها ويصرف بسخاء.
وكان الفيحاني رغم حبه للناس واحتفائه بهم يحب العزلة، يذهب إلى مكان معين ينعزل فيه عن الأعين، ويجلس وحيداً فريداً يتأمل وينظم الشعر ويدونه.
تدينه وإيمانه
كان الفيحاني مؤمناً بالله أشد الأيمان، متديناً أعظم التدين ويبدو أنه تعمق دراسة علوم الدين في المدارس الدينية، التي نظن أنه التحق بها في الإحساء أو الزبير، وكان يؤم المصلين في أحد مساجد بلدة الفويرط وهو وإن كان خلع العمامة بعد ذلك، إلا أنه ظل متديناً صادق الإيمان، متمسكاً بالعقيدة الصحيحة الناصعة، ورغم ما ابتلي به من عشق إلا أنه ظل متمسكاً بأهداب دينه، حافظاً نفسه وعرضه، وعرض من أحب، عن أي خطيئة أو دنس.
وإذا طالعنا بعض قصائده نراه يفتتحها بالابتهال إلى الله، والتذلل له والتضرع إليه.
وذكر عبدالوهاب بن جاسم أخ الشاعر محمد الفيحاني، أنه كان لدى والده جاسم كتب كثيرة متنوعة، وبعد وفاته ظلت تلك الكتب في حوزة زوجته والدة عبدالوهاب، وبعد مدة أعطتها للشيخ عبدالله بن إبراهيم الأنصاري الذي كان مدرساً في ذلك الوقت في دارين، ليسلمها هدية إلى حاكم قطر في تلك الفترة الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني.
ولا بد أن الفيحاني قرأ هذه الكتب وقرأ دواوين الشعر العربي في عصور مختلفة، ما صقل موهبته الشعرية والأدبية ونماها، وأوصله إلى ما وصل إليه من مستوى ثقافي وشعري متميز.
ومن خلال قراءة ديوانه نستطيع أن نقرر أنه كان على ثقافة عالية ومعرفة واسعة تحيط بشتى النواحي الدينية والتاريخية والأدبية، ما لا يدركه سوى القليل من أقرانه وأبناء منطقته.
وإذا تصفحنا ديوان الفيحاني نجده مليئاً بالإشارات الدينية، ما يدل على تعمقه في دراسة العلوم الشرعية من توحيد وفقه وتفسير وسيرة وسنة نبوية، ومن ذلك قوله ذاكراً بعض الكتب السماوية وأنبياء الله عليهم السلام.
ثقافته التاريخية
ثقافة الفيحاني التاريخية واضحة أيضاً في شعره، وفيها أورد كثيراً من المعلومات التاريخية، وأسماء أعلام من التاريخ، ومواقع وأحداث تاريخية كثيرة.
وفي قصيدته التي شكى حاله فيها إلى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين في ذلك الوقت، حشد كثيراً من أسماء الشخصيات التاريخية والدينية والأدبية وأيام العرب في الجاهلية والإسلام، مشيراً إلى كسرى ملك الفرس وقائده سابور الذي هزمه العرب في موقعة ذي قار. واستمد الفيحاني ثقافته الأدبية من الكتب الأدبية والدواوين الشعرية، التي قرأها واطلع عليها، ولا بد أنه حفظ الكثير منها، واختزن في ذاكرته ثروة لغوية وأدبية يستدعيها وينهل من معينها الذي لا ينضب، لتعينه وتسعفه وقت الحاجة إلى النظم وإنشاء الشعر.
ومن الشخصيات التي ذكرها في شعره سحبام وائل وقيس بن عاصم وقس بن ساعدة، وهم من حكماء وخطباء العرب القدماء.
على فراش المرض
عانى الفيحاني كثيراً من مرضه الذي ألم به نتيجة عشقه وهيامه، وشحب لونه كثيراً، وغامت عيناه وأصبح من يراه ينكره ولا يعرفه، وقد صور كل ذلك في شعره.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما المرض العضوي الذي أصاب الفيحاني؟ في الحقيقة أننا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لعدم تمكننا من معرفتها، وسعينا جاهدين إلى معرفة حقيقة مرض الفيحاني.
ذهب الفيحاني إلى مستشفى في البحرين مرتين، الأولى ذهب فيها بنفسه دون أن يخبر أحداً، وزاره أخوه فهد في المستشفى فأقسم عليه ألا يخبر أحداً بوجوده في المستشفى وعاد إلى قطر دون أن يدري به أحد.
وفي المره الثانية سافر السيد سلطان بن ناصر بن طوار إلى البحرين وأخبر فهد أن أخاه محمداً في خطر، وقد يدركه وقد لا يدركه، وحثه على الإسراع بنقله إلى المستشفى، فأسرع فهد وتوجه إلى قطر واستأجر لهذا الغرض سفينة «جالبوت» ونزل في شمال قطر واستأجر من هناك ناقة واتجه إلى الغارية، وعندما وصل إليها رأى أخاه محمد في حالة يرثى لها، وقد اشتد به المرض وأشرف على الهلاك.
وهنا أسرع بنقله إلى سفينة راسية في بندر الغارية للسيد النوخذة خمسي العبيدلي، فاستأجرها فهد منه بثمن شحنة الجص التي كان ينوي نقله وبيعه من خلالها.
وفور وصولهم أدخل محمد المستشفى الأمريكي، وأوصى فهد الدكتور ديم بأخيه محمد فرد الدكتور ديم بالقول «هذا أخوك لم لم تخبرني من قبل، لم يعد للعلاج أي فائدة انتهى أخوك ولا نستطيع أن نفعل له شيئاً فقد تفشى المرض في جسمه ولا يمكن علاجه».
وعندما سمع فهد هذا الكلام من الدكتور أخذ أخاه إلى بيته في الحورة ويقول عبدالوهاب «مرت اللحظات ثقيلة وعادت الغيبوبة مرة أخرى، ولم نسمع من كلماته الأخيرة غير اسم مي».
وحظر الدكتور ديم وطلب منهم مغادرة المكان ثم خرج وقال «مات صديقي محمد الفيحاني»، وكانت وفاته يوم 28/ 12/ 1357 هـ الموافق 17 يناير 1939م عن عمر لا يتجاوز 32 عاماً، وانتهت قصة الشاعر المعذب التي كشف عنها شقيقة لأول مرة، وأسدل الستار على أجمل قصة حب عرفها الخليج.
إحساس الفيحاني بوفاة مي
يذكر أحد الرواة قصة مؤثرة عندما أدخل الفيحاني المستشفى، حيث كان يرافقه صديقه غانم بن جاسم الكواري وكان يواسيه، وأثناء ذلك توفيت «مي» فأحس الفيحاني بوفاتها، وأخبر صديقه جاسم بن غانم بذلك، قال له «مي توفيت»، فرد عليه صاحبه مواسياً ومطمئناً «لا.. مي لم تمت»، فقال الفيحاني «هذا ليس صحيحاً.. أنا قلبي يحدثني أنها ماتت»، وبعد قليل انتقلت روحه إلى بارئها. ودفن الشاعر محمد الفيحاني بعد وفاته في مقبرة المنامة القريبة من منطقة القضيبية.
وصدر ديوان يحمل اسم الشاعر «ديوان الفيحاني» من إعداد عبدالله علي الفياض وعلي بن شبيب المناعي، بعد أن أخذ منهم 20 عاماً لإعداده، كما إنهم سافروا إلى البحرين والكويت والسعودية وذلك لجمع قصائده وسيرته، عدا القصائد المأخوذة من أصدقائه ومن عاشروه، كما ستجد القصص الصحيحة للقصائد ولحياة الفيحاني.
قلنا إن عبدالوهاب بن جاسم أخو الشاعر كان يسكن الحورة، وخلف العديد من الأبناء الذين عاشوا في الحورة وترعرعوا فيها وحملوا اسم الفيحاني، منهم محمد عبدالوهاب جاسم ناصر.
وبعد فترة انتقلوا إلى مناطق أخرى من البحرين، ولكن بيتهم القديم مازال واقفاً يتكلم باسم الأب عن رحلة محمد جاسم الفيحاني الذي عشق بعنف ومات بهدوء في نفس الوقت الذي ماتت فيه حبيبته.