كتب - جعفر الديري:
كان الرجل قد خرج من بيته قبل الفجر، موليا وجهه شطر البحر، حين شاهد عند الشاطيء حمارة، تروح وتجيء بهدوء، فعزم على أن يمتطيها «لحضرته» القريبة. اقترب منها فوجدها تستجيب له ببساطة، فحمد الله تعالى أن يسر له هذه الدابة، بدلاً من أن يتكلف السير والسباحة في الليل الموحش.
انتهى إلى «حضرته»، فوجد فيها من السمك الكثير، فقال في سعادة «الحمد لله.. ليلة مباركة»، وراح يصطاد السمك، إلا أنه بعد أن جمع من السمك الكثير، استرعى انتباهه سمكة «.... « كبيرة، سارع محاولاً اصطيادها، ومن عجب أنه وجدها تستجيب له. راح يمسح ذقنه ويقول: «غريبة، ليلة غريبة بالفعل».
أراد العودة إلى البيت، لكنه تفاجأ باختفاء الحمارة، فراح يبحث عنها دون جدوى، واضطر إلى العودة ماشياً، حاملاً على ظهره السمكة، التي ناء ظهره لثقلها. وما أن اقترب من الشاطيء، حتى نشف دمه رعباً، وزاغت عيناه.. لقد نزلت السمكة من على ظهره، وتحولت إلى رجل طويل جداً، راح يعدو وهو يقول «كما حملتك حملتني»، وراح يضحك حتى اختفى.
تلك حكاية من آلاف الحكايات الخاصة بجني البحر «بابا درياه»، ذلك الوحش المرعب الذي كان يخرج للبحارة.
ينتمي «بابا درياه» إلى عالم الجن -بحسب الباحثين- وقد عرفت عنه حكايات الرعب والإيذاء بين السكان الذين يعيشون على ساحل البحر، وخصوصاً من قبل البحارة والصيادين وغواصي اللؤلؤ. أما اسمه فيعني في الفارسية «أبو البحر» مما يدل على أن منشأ الأسطورة فارسي. وهناك نسختان من هذه الحكاية الخرافية.
تقول الرواية الأولى أن «بابا درياه» اعتاد أن يتسلل إلى قوارب الصيادين في الفترة بين صلاة العشاء وأذان الفجر لخطف أحد البحارة أو الصيادين وهم نيام، وبعدها يقوم الجني الضخم بابتلاع الضحية وإغراق القارب.
واتقاءً لشره يلجأ الصيادون إلى وضع اثنين أو ثلاثة من البحارة لحراسة القارب، وعندما يسمعون صوت بابا دارياه ينادون بأعلى الأصوات على رفاقهم «هاتوا المنشارة والجدوم» أي هاتوا المنشار والقدوم أو المطرقة، وعندما يسمعهم الجني يهرب ويختفي دون أن يستطيع أحد تبين ملامحه لأنه دائماً ما يأتي في الظلام الدامس، ولكنهم يؤكدون أنه رجل قوي وضخم الجثة. أما النسخة الثانية من الرواية فتقول: أن كل من يركب البحر يسمع صياح «بابا دارياه»، يتردد في غياهب الليل طالباً نجدته من الغرق، ولكن البحارة يعلمون أنهم إذا أنقذوه فسيسرق مؤونتهم من الطعام والشراب، ويحاول أن يخرب سفينتهم مما يعرضهم للغرق، ولذلك يأخذون الحيطة والحذر منه، ويقومون بقراءة سور من القرآن الكريم والأدعية التي تبقيه بعيداً عن سفنهم، ويبدو أن الأهالي استخدموا هذه الحكاية لتخويف أولادهم خصوصاً الشباب، وذلك لمنعهم من الذهاب ليلاً إلى البحر.
يقول الحاج محمد علي بهذا الصدد وهو عجوز تجاوز الثمانين من عمره «شخصياً لم أشهد «بودرياه» ولم أسمع صوته سواء أثناء ذهابي للبحر بمفردي أو مع البحارة، ومع ذلك كنت أخشاه، وأتقي شره بقراءة سورة الكرسي والمعوذتين وقل هو الله أحد»، فلم يكن ممكناً تجاهل ما كان يحكيه أبي وجدي عن سماعهم صوته وهم في عرض البحر».
ويضيف الحاج علي «كان جميع البحارة يخشون أبو درياه، نعم كنا في أيام الشباب -وأنت تعرف شجاعة الشباب واستهانته بالمخاطر- لا نصدق ما يروى عنه، ومع ذلك كان أكثرنا متى خرج للبحر لا يبتعد كثيراً عن الشاطيء».
الباحث سيف الشملان في كتابه «الألعاب الشعبية الكويتية» يكتب «كنت أسمع من البحارة أقوالاً عن أبي درياه وأنه حيوان بحري على شكل الإنسان يصعد إلى ظهر السفينة ليمسك من يصادفه من البحارة ويلقيه في البحر ليفترسه. وإنهم إذا شاهدوه صاعداً إلى ظهر السفينة صاحوا به وأخرجوا السكين ونحوها فيلقي بنفسه في البحر طلباً للنجاة، والعجب أن البحارة يعتقدون بوجوده ويقصون قصصاً عنه» (الشملان 1978, ج1: ص 145).