تحولات تشهدها جماهير الوفاق آخذة بالاتساع أهم ملامحها نهاية الخوف
الصمت انتهى بعد الفشل في تحقيق المطالب والوعود الكاذبة للجماهير


فكرة حرب اللاعنف من الناحية النظرية تقوم على كيفية نقل القوة السياسية من النخبة في قمة الهرم إلى الجماهير في قاعدة الهرم، وبالتالي يتم تنفيذ مجموعة من الاستراتيجيات وعدد كبير من التكتيكات من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يتم عادة في شكل ثورة أو انقلاب أو احتجاج سياسي متفاوت العنف.
الجمعيات السياسية الراديكالية في البحرين أدركت جيداً هذه الفكرة، وقامت بتنفيذها تزامناً مع موجة التغيير التي طالت عدداً من الدول العربية، ولكنها لم تتصور أنها ستفشل في تحقيق مطالبها من إسقاط النظام وإقامة نظام سياسي بديل، أو حتى تغيير النخبة الحاكمة فطموحاتها أفشلتها إرادة مكونات المجتمع قبل أي شيء آخر.
هذه الجمعيات قامت ببناء مجتمع افتراضي، ونظام سياسي افتراضي صورت فيه نفسها داخل هذه البنية الافتراضية أنها في قمة الهرم بمعنى أنها التي تملك القوة والنفوذ السياسي، في حين أن كوادرها وجماهيرها في قاعدة الهرم ولا يملكون القوة والنفوذ نفسه.
ووفق هذا المجتمع الافتراضي، فإن الوضع الطبيعي لتغيير معادلة القوة أن تقوم جماهير الوفاق بحرب اللاعنف ضد الجمعية من خلال الاحتجاج على مواقفها وقراراتها وصولاً إلى شكل من أشكال العصيان.
الاحتجاج على إحدى التنظيمات السياسية لا يختلف تماماً عن الاحتجاج ضد الحكومات، وبالتالي فإن الجماهير تضطر هنا إلى اتباع الاستراتيجيات نفسها، وكذلك التكتيكات المختلفة التي تحقق الهدف نفسه.
تلك مجرد مقدمة، ما دفعنا لكتابتها مجموعة من الأحداث المتباعدة زمنياً، ولكنها مرتبطة دلالياً، وكلها تعكس ظاهرة واحدة، وهي زوال خوف الجماهير من الوفاق بعد أن ظل لعقود طويلة بمثابة فوبيا من تيار ولاية الفقيه الذي تمثله هذه الجمعية.
نعود بالذاكرة قليلاً إلى صيف العام 2006 عندما اتخذ قرار حكومي بضرورة صرف رواتب للأئمة والمؤذنين العاملين على دور العبادة من خلال الأوقاف السنية والجعفرية. لم تحدث مشكلة بالنسبة لمنتسبي الأوقاف السنية، بل كانت الإشكالية حينها في الأوقاف الجعفرية، حيث كان يتطلع الكثير من الأئمة والمؤذنين والقائمين على المساجد والمآتم إلى الحصول على رواتب ثابتة تعينهم على أمورهم المعيشية، وتكون تقديراً لدورهم الديني والمجتمعي الهام. فماذا حدث؟
عارضت المؤسسة الدينية التي يرأسها عيسى قاسم القرار الحكومي تحت مبررات دينية واهية مردود عليها، وكان الهدف الأساسي هو كيفية ضمان السيطرة على المؤسسات الدينية والقائمين عليها، لأن حصولهم على مبالغ شهرية ثابتة من الحكومة يعني خسارتهم للنفوذ على هذه المؤسسات.
أوعزت المؤسسة الدينية التي تمثل تيار ولاية الفقيه إلى تنظيماتها الراديكالية للعمل على معالجة المسألة، فقامت بخطة إرهابية ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة، وهي:
أولاً: التشهير: حيث قام أحد موظفي الأوقاف الجعفرية حينها بتسريب قائمة الأئمة والمؤذنين الذين وافقوا على استلام الراتب الشهري المقدم من الحكومة. وبالتالي تم تشويه سمعتهم وأسرهم من خلال الإعلام الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي الوليدة آنذاك. ثانياً: ميليشيات إبطال الصلاة: تم تشكيل مجموعات إرهابية من الشباب مهمتها التنقل بين المساجد والمآتم لإرهاب المصلين في دور العبادة بأن صلاتهم باطلة بسبب استلام الإمام والمؤذن لراتب من الحكومة! ثالثاً: العزل الاجتماعي: هي النتيجة التي يتعرض لها الإمام والمؤذن الذي يستلم راتباً من الحكومة، حيث تتم مقاطعته اجتماعياً واقتصادياً، فضلاً عن الاعتداء على ممتلكاته وممتلكات أسرته.
نبدأ من قصة أحد شيوخ الدين طرد من حوزته في ذلك الوقت، ومنع الناس من الصلاة معه والسبب إصراره على قبول الراتب الشهري من الأوقاف الجعفرية. وبالتالي هو خالف قرار وتوجه المؤسسة الدينية التي تمثل ولاية الفقيه، ولكنه أصرّ على مخالفة قرار هذه المؤسسة لقناعته بأنه قرار غير صائب شرعاً وقانوناً، وهو قرار سياسي بالدرجة الأولى، وتعرّض لمضايقات كبيرة، واعتداءات إرهابية متكررة، ولكن إصراره على موقفه أقنع كثيرين من حوله سواءً من المواطنين العاديين، أو حتى من رجال الدين نفسه، وهو ما ساهم في وصوله إلى قبة البرلمان لاحقاً متحدياً قرارات المؤسسة الدينية التي رفضته، وقرارات جمعية الوفاق التي تحداها لأنه لا يراها تمثله وليس مقتنعاً بها.
في نهاية العام نفسه أعلنت المؤسسة الدينية بأنها كانت على خطأ خلال الفترة من 2002 ـ 2006 عندما قررت مقاطعة الانتخابات والعملية السياسية، ووجهت جمعية الوفاق إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية لأول مرة منذ بدء التحول الديمقراطي. هذا التطور اللافت أحدث صدمة لدى الجماهير، وساهم في إرباكها خاصة وأن هناك مبررات دينية استخدمت لإقناع الجماهير بمقاطعة الانتخابات البرلمانية في 2002، ثم استخدمت أيضاً مبررات دينية لإقناع الجماهير بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية خلال 2006! بعد إعلان الوفاق دخولها العملية السياسية حاولت تسويق نفسها بأنها ممثلة للشعب، وأنها ستعمل على تحقيق تطلعاتهم وفي مقدمتها المتطلبات المعيشية، وحرصت على التواصل مع الجماهير في مختلف المناطق التي فازت فيها، ولكن الصدمة حينها أن الجماهير لم ترحب بها، ووصل الأمر إلى طرد أمين عام الوفاق علي سلمان من سترة، وتكرر هذا الحدث في أكثر من مكان، وهو ما شكل صدمة كبيرة للجمعية وتيارها التي تستوعب بعد أن هناك تحولاً هاماً طرأ على الجماهير التي اعتادت شريحة واسعة منها الطاعة المطلقة لتعليمات المؤسسة الدينية وتأييد مواقف الوفاق وإن اختلفوا معها.
لم تتطور الأمور كثيراً حينها، بل ظلت شريحة من الجماهير في صمتها ورفضها للوفاق بعد أن اهتزت مصداقيتها إلى أن وقعت أحداث 2011 وأعلنت الوفاق تبنيها ما أسمتها بـ «الثورة» من أجل إسقاط النظام، فشجعت الجماهير باسم الدين إلى المشاركة في حرب اللاعنف التي قامت بها، وتورطت أعداد كبيرة من جماهيرها سريعاً في أنشطة عنيفة تحولت إلى إرهاب منظم راح ضحيته المئات من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين من مواطنين ومقيمين ورجال الأمن. ورغم هذه التطورات إلا أن الفئة المناهضة للوفاق من الجماهير اعتكفت والتزمت الصمت، إما خوفاً أو ترقباً أو حتى غضباً.
انتهى الصمت بعد التأكد من فشل الوفاق في تحقيق مطالبها التي وعدت الجماهير بها، وكانت الخسارة الأكبر ليس لدى الوفاق أو كوادرها حتى، بل لدى الجماهير الذي خسروا كثيراً داخلياً وخارجياً دون أن ينالوا شيئاً مما وعدتهم به المؤسسة الدينية أو الجمعية التي قدمت لهم الوعود تلو الوعود.
كتلة الوفاق التي كانت تمثل الأغلبية في تشكيلة مجلس النواب عام 2010 استقالت، فتقرر إقامة الانتخابات التكميلية لتحظى بمشاركة واسعة من جماهير الوفاق، بل وظهر من بينهم مترشحون تنافسوا لتغطية المقاعد البرلمانية الشاغرة.
هؤلاء لا يعتبرون وفاقيين لأنهم تمردوا على قرار المؤسسة الدينية وضربوا قرار الوفاق بالمقاطعة عرض الحائط، بل دخلوا العملية السياسية عن قناعة رغم كل التحديات. بالمقابل اعتمدت الجمعية أساليب تقوم على المناورة الفاشلة مع الحكومة، واستمرت في إرهاب الجماهير للحفاظ على نفوذها.
في الساعة الرابعة من فجر يوم الاثنين الموافق 15 يوليو 2013 تعرّض منزل رئيس لجنة الخدمات بمجلس النواب النائب عباس الماضي لاعتداء إرهابي بالمولوتوف، وهو ما أدى إلى تضرر واحتراق أجزاء من المنزل. وكان هذا الاعتداء الإرهابي بمثابة تحذير لكل من يحاول المساس بنفوذ الوفاق ويخرج عن نطاق نفوذها السياسي في مختلف المناطق. فالنظرية الوفاقية تقوم على أنه مهما كان الاختلاف يجب أن تبقى الجماهير تحت دائرة النفوذ، ولا يمكنها الخروج عنها وإن تعددت الأسباب والظروف.
لم تدفع الاعتداءات الإرهابية التي تعرّض لها النائب الماضي وغيره من المواطنين والمقيمين على تغيير مواقفهم تجاه العملية السياسية، أو المصلحة العليا للدولة، فالنائب واصل عمله البرلماني، والجماهير زادت إدراكاً بخطورة المسار الذي تسعى إليه الوفاق رغم تكرار الأخيرة إصدار بيانات الإدانة في كل حادث إرهابي، وهو ما تعتبره الجماهير مجرد «أداة للاستهلاك الإعلامي».
على مدار أكثر من عام واحد فقط، لاحظ المراقبون والوفاق نفسها أنه في كل مرة تدعو إليها إلى مهرجان خطابي أو مسيرات حاشدة تكون نتيجتها صفراً، فالجماهير الوفاقية دخلت حالة من الإحباط واليأس بعد فقدانها مصداقية الوفاق وتيارها، ولذلك تناقصت أعداد المشاركين من الآلاف إلى المئات، ووصلت في بعض الأوقات إلى العشرات! راقبت الجماهير كل محاولات الحوار التي حرصت عليها الحكومة بإشراك كافة مكونات المجتمع ومن بينها الوفاق طبعاً، ولكن أداء الوفاق كان دون الطموح، فالجماهير التي توقعت أن تكون جمعيتها أكثر ذكاء لم تشاهد هذا الذكاء، بل تابعت حالة مزمنة من «الغباء السياسي» بعد رفض الوفاق كافة المحاولات وتحولها إلى أداة تعطيل لكافة مشاريع إحداث التفاهمات والتوافقات إلى أن وصلت لقناعة بأن السير وراء هذه الجمعية وتيارها بات دون جدوى. مطلع أكتوبر الماضي أعلنت مجموعة قليلة من الجمعيات السياسية موقفها بمقاطعة الانتخابات، وظهرت الدعوات لما سمي بـ «تصفير الصناديق». فظنت الوفاق أنها ستتمكن من إحراج الحكومة بعدم انخراطها مجدداً في العملية السياسية، ولكنها ذهلت عندما شاهدت المئات من المواطنين يترشحون للانتخابات النيابية والبلدية، والمفارقة الأبرز أن الدوائر التي تعتبرها الوفاق ضمن دوائر نفوذها السياسي شهدت أكبر نسب الترشح على الإطلاق. ومن المفاجآت التي ظهرت هنا، إعلان (بونبيل) ترشحه للانتخابات البرلمانية، وهو يعد من الشخصيات البارزة وفاقياً، ولكن الجماهير مرة أخرى صدمت عندما شاهدت الوفاق التي تطالب بتمكين المواطن في صنع القرار الوطني، وتمكين المواطن في صنع السياسات العامة، واحترام الإرادة الشعبية في «حكومة منتخبة»، لا تحترم أعضاءها، حيث لوّحت فوراً بإسقاط المترشح بونبيل من عضويته رغم مخالفة ذلك للقانون، فاضطر بونبيل إلى سحب ترشحه خوفاً من التنظيم.
القناعة التي وصلت إليها الجماهير أن الديمقراطية التي تنادي بها الوفاق هي استبداد وليست ديمقراطية، لأن الأولى تعني الالتزام بالموقف والقرار دون نقاش ومخالفته تستدعي المحاسبة، أما الثانية فهي تقضي باحترام اختلاف الآراء في المجتمع، وإن كان هناك خلاف داخل التنظيم السياسي الواحد.
يتكرر السيناريو بعد تحريض المؤسسة الدينية وفعاليات الوفاق للجماهير بضرورة الابتعاد عن أجواء الانتخابات لأنها «باطلة» شرعاً وقانوناً من وجهة نظرهم، وهو ما حفّز الخلايا الإرهابية على الاعتداء على عدد من المترشحين وشملت الاعتداءات المنازل والسيارات.
عادة تكون ردود الأفعال بعد الاعتداءات الإرهابية مزيداً من الخوف لدى الجماهير، ولكن جماهير الوفاق هذه المرة لم تكترث لمثل هذه التهديدات والمخاوف، بل باتت تجاهر وتعلن أن مثل هذه المحاولات لن تثنيها عن الاختلاف مع الوفاق، بل ستدفعها أكثر نحو ممارسة الشأن العام بعيداً عن هذا التنظيم. والمفاجأة الأخيرة كانت في انتفاضة جماهير الوفاق على قرار الجمعية والمؤسسة الدينية التي عملت كل جمعة على التحشيد لمقاطعة الانتخابات، فزاد إقبال المشاركين على صناديق الاقتراع في 22 نوفمبر الماضي.
حالة من التذمر والسخط تمر بها جماهير الوفاق الآن، لأنها ترغب في العيش بسلام بعيداً عن الاستغلال السياسي الذي قامت به المؤسسة الدينية وذراعها السياسي. والأهم من ذلك كله، أن من كان يخاف الوفاق والخلايا الإرهابية والمؤسسة الدينية قبل عشرة أعوام، فإنه تجاوز هذا الخوف بلا عودة، بل بات يتحيّن انكماش نفوذ هذا التنظيم السياسي ومؤسسته الدينية.
من حالات نهاية الخوف المفاجئ لدى جماهير الوفاق ظهرت مؤخراً في موسم عاشوراء الحالي الذي اعتادت فيه هذه الجماهير ممارسة شعائرها في مآتم العاصمة على مدى عقود، ولكنها هذه المرة عزفت عن التوجه إلى تلك المآتم والمواكب الحسينية، وفضلت التوجه إلى المآتم الكثيرة المنتشرة في مناطق سكنها بدلاً وكذلك المواكب الحسينية في هذه المناطق بدلاً من الذهاب إلى العاصمة. يفسّر أحد الأشخاص الذين فوجئوا بهذه الظاهرة هذا العام، ويؤكد أن سببها هو رغبة الأهالي في عدم تسييس شعائر عاشوراء، ورفضهــم لسمـــاع الخطابـــات والشعــــارات السياسية خلال الموسم الديني.
خلاصة القول؛ إن هناك تحولات تشهدها جماهير الوفاق، قد لا تكون كبيرة وجذرية، ولكنها آخذة بالاتساع منذ عدة سنوات وأهم ملامحها نهاية مرحلة الخوف، ولا يبدو أنها ستتوقف يوماً مادام الخطاب السياسي نفسه والأجندة واحدة والارتباطات بالمشاريع الخارجية مستمرة.
والانتخابات النيابية والبلدية الأخيرة أكدت جميع المؤشرات السابقة، بأن فكرة الواقع الافتراضي الذي كوّنته الوفاق تلاشى وبدأت الحقيقة بالظهور.