قال علماء ودعاة إن «المكر الذي وصف الله به ذاته في قوله تعالى «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين»، ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، ويعني الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما مكر الله فهو محمود، لأن فيه حفظ الله لعباده المؤمنين الطيبين، وإيصال العقوبة لمن يستحقها، لذلك فهو عدل ورحمة»، مضيفين أن «المكر هنا صفة مدح في محله، لأنه يدل على القوة والعظمة، والإحاطة بمن يريد الشر، لذلك فهو صفة كمال في تلك الحالة».
من جهته، قال الإمام محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - في تفسيره للآية الكريمة إن «كلمة مكر، مأخوذة من المكر، والمكر نوع من الشجر، فروعه ملفوفة على بعضها، بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة فيها إلى أصلها، وهناك نوعان من المكر، سيء، وخير، مثل قوله تعالى «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله»، وقوله سبحانه وتعالى «وهو خير الماكرين»، فمن لم يقصد إيقاع الضرر بغيره يسمى حيلة، ومن يقصد إيقاع الضرر بغيره يسمى مكراً، والذي يمكر، يخفي نواياه، فيريد أن يزين لك عملاً لكي يمكر بك ويوقع بك، فمن أسس المكر التبييت، وفي بعض الأحيان يكون حب يخدع بقصد الإيقاع في الضرر».
وأضاف أن «مكر البشر يدل على الضعف، لأن القوي لا يمكر ولا يبيت، بل يواجه، ولذلك وصف الله كيد المرأة «بالعظيم»، في قوله تعالى «إن كيدكن عظيم»، لكونه دليلاً على ضعفها، فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فإنهم سيمكرون على الله ورسوله، والله أعلم بما يبيتون لرسوله، ومن ثم «الله خير الماكرين»».
وشدد الإمام الشعراوي على أن «أسماء الله وصفاته توقيتية، فإذا ما رأيت فعلاً نسب إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تستقي منه وصف له سبحانه، ودع الفعل يقابل الفعل من البشر، لأنه جاء في مقابلة فعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا به سبحانه، لأن الله لو أراد أن يمكر بهم فلن يستطع الكفار أن يدركوا ويفهموا مكره سبحانه، مثل قوله تعالى: «يخادعون الله وهو خادعهم»، فلا نستطيع بالتالي أن نقول إن من أسماء الله الحسنى، الماكر أو الخادع».
وتحدث العلماء عن سبب نزول الآية الكريمة، عندما مكث الرسول الكريم 13 عاماً في مكة، يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه وآباؤهم من عبادة الأصنام، فاستجاب له قلة قليلة آمنوا به، ولقوا في الله من الأذى، والعنت ما الله به عليم، فأمرهم النبي بالهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على أنفسهم وعلى دينهم من الفتن، وبقي هو ونفر معه، صابراً على أذى قريش، حتى ماتت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، التي كانت تقف دونه بمنزلتها ومن يؤازرها من عشيرتها، ومات عمه أبو طالب الذي كان يدافع عنه، فقابل الرسول قبائل العرب، وشرح الله عز وجل له صدور طائفة من الأوس والخزرج فآمنوا به، وبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية، على أن يمنعوه مما يمنعون منه أولادهم ونساءهم، إن هو قدم إليهم، ووعدوه بالنصرة والطاعة، ووعدهم بالجنة. في المقابل ضاق كفار قريش ذرعاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم في القضاء عليه وعلى دعوته الجديدة، إذ فشلوا في وسائل التعذيب والإرهاب، كما فشلوا في أساليب الإغراء والمساومات، وعلموا بما تم بين النبي وأهل المدينة في بيعة العقبة، فأزعجهم ذلك، وشعروا بأن الإسلام ستكون له دولة يأزر إليها، وحصنٌ يحتمي به، وتوجسوا خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوته صلى الله عليه وسلم، وعزموا على أن يتخذوا قراراً حاسماً للقضاء عليه مهما كلفهم ذلك. واجتمع كفار قريش بعد شهرين ونصف من بيعة العقبة الكبرى في دار الندوة بقيادة أبو جهل، عمرو بن هشام، وغيره من صناديد الكفر حينئذ بمكة، وأجمعوا أمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاءوا إلى دار الندوة اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل من أهل نجد وشاركهم في الاجتماع. وبعد مداولات، مكر كفار قريش وقرروا أن يتخلصوا من الرسول الكريم بقتله، على أن يتولى ذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في قبائل كثيرة، فيعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلهم، فيرضوا بالدية، ولكن الأمر انتهى إلى النتيجة التي أرادها الله عز وجل، وهي حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، وإفشال مكرهم ومخططهم، فإن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، فنزل قوله تعالى «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».
وفي ذات السياق، قال العلماء إن «المكر المضاف إلى الله عز وجل ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه فإنه محمود، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله عز وجل فإنه محمود، لأن فيه حفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإيصال العقوبة لمن يستحقها، فهو عدل ورحمة»‏.
وفسر الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - الموقف بقوله «المكر صفة مدح في محله، لأنه يدل على القوة وعلى العظمة، وعلى الإحاطة بالخصم، وعلى ضعف الخصم، وعدم إدراكه ما يريده به خصمه، وعلى هذا فلو قال قائل هل يصح أن يوصف الله بالمكر؟، فالجواب: إن وصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق لا يجوز، وأما وصف الله بالمكر في موضعه في مقابلة أولئك الذين يمكرون به وبرسله فإن هذا جائز، لأنه في هذه الحال يكون صفة كمال».
من جانبه، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في تفسير ذلك إن «كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، فإذا توهم الإنسان أمراً لا يليق بالله، فليعلم رأساً أنه مخطئ، فهذه الآية هي مدح لله عز وجل، وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله تبارك وتعالى».
وقال علماء السيرة إن «من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصياته، عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها هذه المؤامرة التي دبرها زعماء قريش في دار الندوة».
وخلص العلماء إلى أن «من دروس وفوائد هذا الموقف من السيرة النبوية أن من حفظ الله، حفظه الله، فهذا درس عظيم، وسنةٌ ماضية، والحفظ من الله عام وشامل، وأعظم ما في ذلك أن يحفظ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ يشمل حفظ البدن، ولكن ليس بالضرورة أن يحفظ المؤمن الذي حفظ الله، فلا يصل إليه أعداؤه بالأذى، فقد يصاب ويبتلى لترفع درجاته، وتكفر ذنوبه، فعن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟، قال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة»».