كتب - جعفر الديري:
من النادر أن تجد في العالم أجمع؛ معالم للقبور التاريخية القديمة مثلما احتوت عليه البحرين التي اكتظت بـ 100,000 قبر، تغطي الصحراء في القسم الشمالي من الجزيرة متخذة موقعاً متوسطاً بين غابات النخيل ذات الخضرة الزيتونية، وبين المرتفعات البيضاء الضاربة إلى الصفرة حيث بدت القبور مزدحمة ومتراصة على شكل مجاميع.
الباحثون يختلفون فيما بينهم في أصل هذه القبور، وإذا كان البحاثة الإنجليزي تيودوربنت قام باكتشافات أثرية العام 1988 ، سمى بعدها هذه القبور بأنها فينيقية، فإن بعض الباحثين الآخرين عارضوا استنتاجات بنت وقالوا إن هذه القبور يرجع تاريخها إلى عهد أقرب من عهد الفينيقيين، وإن أرض البحرين كانت في الأزمنة السابقة قد استخدمت كمدفن للموتى الذين يؤتى بهم من الساحل المقابل للبحرين من أرض لنجة حتى بوشهر ومن المحتمل أن الموتى يؤتى بهم من شبه الجزيرة العربية.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل استنتاجات هيرودوت وسترابون القائلين بأن هذه القبور فينيقية، فقد استخدمت كمدافن موطن الفينيقيين وهذا لا يمنع من الاستنتاج أيضاً أن هذه القبور رغم أنها فينيقية فقد استخدمت كمدافن لأناس ينتمون إلى عصر أقرب من عصور الفينيقيين ولهذا فإن الحضارة التي استخدمت هذه القبور ربما هي حضارة قريبة الصلة من الفينيقيين.
كانت هذه القبور وراء رحلة بحث المستكشف الدنماركي جيفري بيبي، في تاريخ البحرين، عن الأرض المقدسة عند السومريين، عن الفردوس وموئل الخلود، حيث توخى جلجامش -حسب الأساطير السومرية- من خلال رحلته إلى ‏دلمون، الحصول على عشبة تجديد الحياة التي أينعت في قاع بحرها، ‏سعياً منه لتفادي المصير المحتوم المتمثل بالموت والفناء.‏
يذكر «بيتر كورنوول» وهو من أوائل المنقبين في المدافن التلية- أن اسم دلمون ورد في الكتابات المسمارية القديمة التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد والتي وجدت في بلاد الرافدين والألواح المنقوشة وفي موقع إيبلا في شمال سوريا، وحاول العلماء معرفة مكان دلمون التي وصفت بأرض الخلود وبأنها تقع حيث تشرق الشمس وتبعد عن بلاد الرافدين بثلاث ساعات مزدوجة، وأثبتت التنقيبات الأثرية أن البحرين هي دلمون المشار إليها في النصوص المسمارية القديمة بمراحلها التاريخية المتعاقبة.
كذلك جاء اسم دلمون في الأساطير والملاحم الشعبية. ففي نص «لانجدون» عن أسطورة الخلق وفي ملحمة جلجامش تصور دلمون على أنها فردوس من الفراديس، وليس هناك من شك في أن لمخيلة الشعراء الخصبة ومبالغاتهم أثر في تكريس هذه الصورة الخيالية عن هذه الجزيرة التي ألهبت مخيلتهم. فوفرة مياهها وينابيعها الطبيعية جعلت منها جنة الخلد الأولى. جنة الخلد الأولى، كانت تمتد على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية من الكويت عند جزيرة فيلكا حتى حدود حضارة مجان في سلطنة عمان وحضارة أم النار في إمارة أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد بنى أهلها المعابد المقدسة ومئات الآلاف من المدافن على مختلف الأشكال والأحجام، مما يدل على إيمانهم بعقيدة الخلود ويدل على ذلك تشييد المقابر الضخمة ووجود مخلفات مادية وجنائزية في القبور، بالإضافة إلى اكتشاف بعض المعابد التي عثر فيها على أقداح مخروطية الشكل مثل التي عرفت في العراق في العصر السومري ومن أهم هذه المعابد (معبد باربار).