كتب – جعفر الديري:
ب. ف. غلوب، عالم آثار دنمركي، أمضى اثني عشر عاماً في التنقيب المتواصل في جميع أقطار الخليج العربي سعياً وراء اكتشاف حضارة دلمون التي ظلت مطمورة تحت الرمال حتى الخمسينات من القرن العشرين.
الآثاري المقبل من الدنمرك، كتب كتاباً بعنوان «البعثات الدنمركية في دلمون القديمة»، ترجمه د.محمد البندر، وصدر ضمن سلسلة «كتاب البحرين الثقافية»، ضمّنه خلاصة تجربته الشخصية، وانطباعاته أثناء البحث والتنقيب في أعماق صحراء قطر وحرّها اللاهب، وعند سواحل البحرين الدافئة وغابات نخيلها الغنّاء وعيون مائها العذب، وعلى جبال عمان الزرقاء، وفي قرى البريمي النائية، وفي جزيرة فيلكا البعيدة، وبين أنقاض مدن جرها وتاروت والزبارة التاريخية.
وعدا عن تفصيلات التنقيب الآثاري فقد حفل الكتاب بتسجيلات حية لتفاصيل دقيقة من الحياة اليوميّة السائدة التي تركت في نفسه أثراً طيباً، وذكريات لن تّمحى من حسن الضيافة والكرم، الذي شمله به أهل الخليج من عامّة الناس وخاصّتهم على حدّ سواء.
وإذ كان غلوب صديقاً مقرباً من الآثاريّ الشهير ت.ج بيبي، فإن هدفاً مشتركاً جمعهما، منذ بدء العمل العام 1953، في أول بعثة دنمركية في البحرين، لم يكن اكتشاف دلمون، كما يذكر غلوب، بل السبب الذي أوجب لجزيرة لا تزيد مساحتها عن مساحة جزيرة فالستر في قسمها الشمالي أن تضم عدداً هائلاً من القبور يزيد عن الدنمرك الغنية بالقبور، حين حدثه بيبي أنه شاهد 100,000 من القبور في هذه الجزيرة الصغيرة، وهي تمثل أكبر مقبرة في العالم، ولا أحد يعلم بها على وجه الدقة.
ومن النادر –كما يؤكد غلوب- أن تجد في العالم أجمع معالم للقبور التاريخية القديمة مثلما احتوت عليه البحرين التي اكتظت بـ 100,000 قبر، وهي تغطي الصحراء في القسم الشمالي من الجزيرة متخذة موقعاً متوسطاً بين غابات النخيل ذي الخضرة الزيتونية، وبين المرتفعات البيضاء الضاربة إلى الصفرة حيث بدت القبور مزدحمة ومتراصة على شكل مجاميع، يخيل للمرء من خلالها بأن هذه البثور الناتئة على سطح الأرض ليست من صنع الإنسان، وأن يد الطبيعة قد صنعتها من رمل الصحراء الذي علته الشمس الحارقة وحولت كتلته إلى فقاعات جافة. ويبقى أصل هذا العدد الهائل من القبور لغزاً محيّراً ليس فقط لأبناء البحرين والزائرين بل وللمنقبين الآثاريين أنفسهم. وكأن حل هذا اللغز يزيد استعصاء كلما تعرضت البعثات الآثارية للإخفاق للامساك بخيط البداية ابتداء.
د.محمد البندر، مترجم الكتاب، يذكر أن معطيات البحث الآثاري لم تكن وحدها هي الحاسمة في تحديد البحرين باعتبارها مهد الحضارة الدلمونية، بل استعان غلوب بوثائق التاريخ اليونانّي المكتوب، وبالأساطير الرافدينية، وبالمعطيات الجغرافية والفلكيّة، والمادّة الأنثروبولوجيّة لتعزيز استنتاجاته التاريخيّة وجعلها شيئاً غير قابل للنقض، حتى خلص للقول، بعد سنوات من العمل الذي قامت به البعثات الآثارية الدنمركية في البحرين، أنه «أصبح من الثابت القول بأن دلمون القديمة وجزيرة الآلهة هي البحرين نفسها، التي استطعنا من العثور على سطحها على أقدم حضارة بقت غير معروفة إلى حد الآن، وجرى تعميدها باسم البحرين القديمة دلمون».