قال علماء ودعاة إن «الله خلق الدار الدنيا وجعلها معبراً وممراً للآخرة، فمن الناس من يأخذ منها زاده إلى جنة عرضها السموات والأرض، ومنهم من يأخذ منها زاده إلى النار، ومن ثم فالتنافس المذموم فيها هلاك»، مشيرين إلى أن «النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن تفاهة الدنيا، وهوانها على الله عز وجل حين قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء»، مستذكراً قول الله تعالى: «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»».
وذكروا أن «العجب العجاب ممن يعلم حقيقة الدنيا وحقارتها ثم ينافس الناس ويعاديهم من أجل الفوز بالدنيا والانفراد بها ونيل حظوظها ولو على حساب دينه ومبادئه وأخلاقه ومروءته».
من جهته، قال الداعية الشيخ محمد حسان إن «الدنيا حين تستقر محبتها والتعلق بها في نفس العبد، فإنها تحمله على الكثير من القبائح والمنكرات، ومنها التنافس المذموم على الدنيا فتهلكه، وهذا الذي كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حين قال: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»».
وأضاف أنه «ليس عيبا أن يحب الإنسان منافع الدنيا وبعض متاعها، لكن العيب أن ينحرف في هذا الحب، فيحمله على ما حرم الله من منع واجب أو أخذ حرام، أو اعتداء على آخرين بغير حق».
ورأى أن «من مظاهر التنافس على الدنيا، التكاثر بحيث يريد كل واحد أن يكون أكثر من غيره حظوظاً من الدنيا، وهذا التكاثر يلهي عن الله والدار الآخرة، قال تعالى «ألهاكم التكاثر»، ونبهنا الله لهذه الآفة المهلكة فقال: «يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون»، إضافة إلى إيثار الدنيا على الآخرة وعدم المبالاة بما اكتسب من حلال أم من حرام كما يحمله ذلك على بغض طلاب الآخرة والوقيعة فيهم، والمخاصمة الدائمة على الدنيا وتشتت الذهن وكثرة الهموم والأحزان، خصوصاً إذا فات شيء من الدنيا، وغير ذلك من المظاهر التي تدل على انغماس صاحبها في الدنيا، وإعراضه عن الآخرة».
ويرى العلماء أن «الشرع قد ندب العباد إلى الرضا والقناعة وإن حث على السعي والتكسب، قال الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون». كما نهى عن التطلع إلى ما عند الآخرين، في قوله تعالى «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين»، وقال تعالى: «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى».
وفي هذا الصدد، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «لا تنظر إلى ما عند هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم فيه من النعم، فإنما هي زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور».
ولهذا لفت الشرع الأنظار إلى خطورة التنافس في الدنيا مع الإعراض عن الآخرة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «.....وإني أعطيت مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: يا رسول الله، وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض».
وكان الحسن بن علي رضي الله عنه يقول: «من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنيا فألقها في نحره». ويقول: «والله لقد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون، أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا؟ أو ذهبت إلى ذا».
من ناحية أخرى، أكد العلماء أنه «إذا كان التنافس في الدنيا من أجل إحراز سبق أو كفاية يستغني بها المسلمون، كابتكار علمي، أو سبق اقتصادي، ولا يبقون عالة على أعدائهم، مع نية التقرب بذلك إلى الله، والطمع في جنته ورضوانه، ومع الاهتمام بكل أعمال الآخرة الأخرى، والمتمثلة في النزول على حكم الله عز وجل في كل ما يأتي المرء وما يدع، فذلك حسن ومحمود، لأنه لا يخرج عن أن يكون من عمل الآخرة».
وقد أمرنا الله عز وجل أن تكون الدنيا التي في أيدينا موجهة نحو عمل الآخرة، وذلك في قوله سبحانه: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك».
وإذا أيقن العبد أن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير مع الأخذ بالأسباب المشروعة لما تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ولما جعلها أكبر همه، قال الله عز وجل: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا»، فالله يأمر الملائكة أن تكتب رزق العبد وهو في بطن أمه، والله عز وجل يعطي الدنيا من يشاء ويمنعها من يشاء: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد». وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية:
«يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله، وما يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات...».
والعبد الحريص على الدنيا، المنافس للانفراد بها، لا يشبع أبداً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب».
في ذات السياق، قال الإمام محمد متولي الشعراوي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى «الحياة الدنيا»، إن «ذلك المعنى المقصود به أن هناك مقابلاً، والدنيا ليست مذمومة بالمطلق، بل إنها مزرعة الآخرة، فالمرء لن يدخل الجنة إلا بإحسان عمله في الدنيا، وبالتالي الدنيا موضوع الدين، وليست الآخرة، لكن الآخرة جزاء الدين، ولذلك الدنيا أهم من أن تنسى، لكنها أتفه من أن تكون غاية، لأن الغاية الحقيقية التي ليس لها بعد، لكن الغايات التي لها بعد فهي مرحلة من المراحل».