بقلم - د. خالد الشنو:
تناظر الحافظ ابن عبدالهادي الحنبلي «ت 744 هــ»، مع أحد الفقهاء في مسألة، فثبت ابن عبدالهادي، وأما الآخر فغضب حتى بصق في وجه ابن عبدالهادي، فقال ابن عبدالهادي بعد أن مسحها: «هذا طاهر بإجماع المسلمين، لكن هات ما عندك إن كان عندك شيء!». سيعلق القارئ قائلاً: جواب في الصميم ألقمه الحجر!
هذا الموقف العجيب يجسد لنا أمرين في نفس الوقت، أدب الخلاف، وخلاف الأدب.
نكون أحياناً في مواجهات فكرية ومناقشات عقلية في بيوتنا أو مجالسنا أو أماكن عملنا أو أروقة الدراسة والعلم، ولكل منا موقفه ورد فعله تجاه ما يطرح من آراء ووجهات نظر، في مسائل تقبل النقاش، وأكثر من رأي.
والناس أشكال وألوان في ذلك، فالضعيف في الحجة والبرهان والحريص على الانتصار لرأيه، ولو كان خطأ أو باطلاً، حيلته الوحيدة هي «التفل»، كما فعل صاحبنا مع الفقيه ابن عبدالهادي أوالصراخ «والصراخ على قدر الألم كما يقال»، وأحياناً يكون سلاحه في النقاش، المسارعة إلى الاتهام والتسفيه واستعراض العضلات، وربما يستعمل البطش والقوة ويصادر الحرية ويكمم الأفواه، كما فعل ويفعل الطغاة والمكابرون المعاندون للرسل عليهم السلام والمصلحين والدعاة، وهؤلاء يظنون أنفسهم رجالاً أقوياء، لا يشق لهم غبار ولا يرد لهم أمر، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً!
أما القوي في رجولته وتربيته الإيمانية، الحريص على طلب الحق ولو كان الحق مع خصمه، فإنه يسلم للطرف الآخر، إذا بدا له خطؤه، ويذعن للحق، ولو كان مراً وخالف رأيه، لأنه يعلم أن الرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال، ويكون موقفه كموقف الإمام الشافعي مع تلميذه يونس الصدفي، ولندع التلميذ يحكي لنا القصة: «ما رأيت أعقل من الشافعي! ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!».
وقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، متفق عليه.
فالقوة دوما تكون مع صاحب الدليل والبرهان، مع الذي ينقد الفكرة مع احترامه للمفكر، مع من يدافع عن رأيه، مع اعتقاده أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، مع من يلتمس الأعذار للمخالف، بل يبلغ به الذوق مبلغ الفقيه ابن قدامة الحنبلي الذي كان لا يناظر أحداً إلا وهو مبتسم!
لنتذكر، أننا في مجال طرح الآراء، ولسنا في معركة «ميدان يا حميدان»، وإنما في بستان تربية وإحسان، لذا فلنجعل شعارنا: «نختلف لنأتلف».
ومع ذلك، هناك من الأفكار ما لا يمكن التنازل عن الإيمان بها والدفاع عنها، بل الموت في سبيلها إن استدعى الأمر! إنها تلك المبادئ الحقة التي لا تموت بموت أصحابها أو حصارهم وسجنهم، ولا تلغى لعدم اكتراث أو اقتناع الناس بها، بل يزيدها ذلك انتشاراً، كعود زاده الإحراق طيباً.
يقول الشاعر:
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى
أبداً، وفي التاريخ بر يميني
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين.