«مسرحية قصيرة مقتبسة من الفصول الأولى من رواية «ثمن الروح» للروائي الراحل عبدالله خليفة.
إعداد علي الشرقاوي.
الشخصيات
أدهم: في الستين من العمر
علي: في العشرينات من عمره
لقمان: في الأربعينات
الضابط: في الثلاثين
الهندي: في الأربعين
الجندي: في العشرين
المصور: في العشرين
رجال آخرون
المشهد الأول
غرفة كتب «ليل». رجل كهل لا يتضح منه سوى لمحةٍ من وجهه وهو عاكف على الورق. إنه التاجر أدهم منشغل بترتيب أوراقه
إنه يتحدث وحده:
- هل توقف الزمن؟ كل الأشياء ما عادت تجدي، لا شيء يحدث، لا شيء يتحرك، لا شيء ينبض بالفرح، الأخبار اليومية لا تتحدث إلا عن القتل، التلفزيونات لا تعرض إلا صور المقتولين.
«دق على الباب. أدهم يرفع رأسه عن الأوراق»
أدهم: ادخل يا علي
«يدخل علي»
علي: كيف عرفت أني علي
أدهم: ومن يأتي في هذا الوقت المتأخر غيرك
علي: جئت أتفقد أخبارك
أدهم: في أفضل ما أكون
«صمت»
علي: لا أعرف إلى متى يا أبي ستبقى على هذا الحال
أدهم: أي حال
علي: تتعب عينك بهذه الأوراق.. ولم نعد نراك.. كأنك قاطعتنا..!
أدهم: ليست يا ولدي هذي أوراق
علي: ما هي إذن
أدهم: هي أرواح، كل كتاب روح، قديماً كان أم جديداً. كل كتاب تجربة حياتية مر بها هذا أو ذاك من الناس، فإذا كانت حياتك تجربة واحدة، فقراءتك لتجارب غيرك تضيف لتجربتك مئات الآلاف من التجارب
«صمت»
«وهو يزيح كتاباً من الكرسي»
- أترغب أن تجلس
- تفضل.. تفضل.
علي: شكراً أبي.. أفضل الوقوف
أدهم «ضاحكاً» أتخشى أن تتوسخ ثيابك من غبار الكتب
علي: تستطيع أن تقول ذلك
«صمت»
- يا أبي.. لم تعد تزاحمنا على مائدة الطعام ظهراً، لم تكن الوجبات تحلو لنا دون صوتك وبسملتك؟
«يتراجع الأب قليلاً في مقعده، يتناثر بعض الغبار»
أدهم «مندهشا» ماذا كنت.. تقول يا علي؟
علي: أبي.. هذه العيشة الصعبة التي فرضتها على نفسك بعد وفاة أمنا مضرة بصحتك.. هذه العزلة والخلوة.. إلى متى؟
أدهم: لست.. أفهمك يا ابني.. ماذا تريد أن تقول؟
علي: نحن مشتاقون إليك، وهذا العلم هو مكتمل وقد ختمه الله على نبيه الكريم، وما لنا سوى أن نعود إليه حتى تطمئن نفوسنا، وتتواصل عبادتنا..
«صمت لحظة»
أدهم «بهدوء» العلم لا يتوقف.. وسوف آتيكم.. كثيراً ونأكل. ونفرح، فلا تغتم..
علي: لكن إلى متى، لقد ظللت أكثر من سنة وأنت حابس نفسك في هذه الحجرة التي كنا جعلناها للخدم، وتركت جناحك ولم تعد تنزل البركة، أو ترى أحفادك الذين اشتاقوا إليك!
أدهم: الأهم من الولد والمال.. هو أن يصل المرء إلى.. حقيقة نفسه.. أن يزيح كل الأردية الفضفاضة التي لبسها. رغماً عنه.. أن يطلق روحه مثل عصفور حر. يرى الشمس والمطر لأول مرة..
«صوت التلفون النقال من جيب علي، علي يخرج التلفون من جيبه، يبدأ بالاستماع، صوت صياح وصراخ، ثم ينقطع الإرسال»
علي: كأنه صوت المشرف الهندي، لكن ماذا يريد في هذه الساعة؟
«حاول أن يتصل لكن التلفون الآخر ظل معطلاً. ثم رن الهاتف ثانية»
صوت التلفون بلغة عربية مكسرة
الصوت: سير.. عمال. بيت. طاح بمب.
علي: ماذا تقول؟
عمال أقوى من السابق «بيت طاح. عمال. مو.. تى؟!
علي ينهض منفعلاً: .. عن إذنك يا أبي..! ما هذه الكارثة؟ لابد أنهم كانوا يلعبون على السطح
أدهم يترك ما بيده من أوراق وينهض
علي «متسائلاً لوحده» أين يريد أن يذهب؟
«ثم إلى أبيه»: لا تكلف يا أبي على نفسك، سأعالج المسألة بنفسي..
أدهم «بصوت قوي وغريب»: ماذا حدث.. ماذا جرى؟ أي.. عمال؟ أي موتى!
علي: قلت إنني سأحل الموضوع
أدهم: تقدم أمامي تقدم
علي: إلى أين؟
أدهم: لأرى ماذا حدث للعمال
«إظلام»
المشهد الثاني
بقايا عمارة مهدمة، ليل، مجموعة من الرجال واقفين، آخرين منطرحين أرضاً، إنهم موتى
علي «في التلفون»: الإسعاف.. لماذا لم يصل الإسعاف..!
يتقدم رجل من علي
علي: كان احتفالاً صاخباً إذن فوق السطح، لماذا سمح لهم؟
الرجل: ليست المرة الأولى يا سيدي!
علي: هذا جزاء شرب المنــكر!
يأتي ضابط ويتقدم من علي
الضابط: متى سقطت البناية..؟
علي: قبل نصف ساعة من الآن.. وقد جئنا بسرعة!
الضابط: أليس المكان أرضاً طينية لزجة؟
علي: هنا فقط، لكن هناك التربة قاسية..
الضابط: أي حجارة هشة هذه التي بنيتم بها هذه الخرابة!
علي: يا سيدي.. ليست هشة.. إنها طابوق!
الضابط: لا يبدو ذلك يا سيد!
«صمت»
من صاحب هذه الأرض والمباني؟
علي: إنها باسم أبي هذا، ولكن أنا الذي أدير الأعمال.
الضابط «يتقدم من أدهم»: كيف وضعت هؤلاء الناس في هذه الزريبة الحجرية؟!
أدهم: هل.. هل... تقصدني.. أنا؟
الضابط: من غيرك مسؤول عن هذه الكارثة، لماذا لا تتكلم مثل البشر؟
أدهم «يشعر بالتعب. يحاول أن يتنفس، ثم إلى علي» ماذا فعلتم.. يا علي بي؟ إنني لم أر..هذه البناية.. أبداً ! ولا تلك الدكاكين.. القميئة ولا تلك.. الغرف الوضيعة؟!
الضابط: لا يهمني على من تلقيان المسؤولية، وقد اكتسبت خبرةً طويلة في مثل عمليات التحايل هذه، ولكن بما أن الأرض والأملاك كلها باسمك يا سيد، فليس لدي سوى أن ألقي القبض عليك، إلى أن تتضح المسؤولية تماماً!
الشرطي يتقدم من أدهم ويضع في يده قيداً.
أدهم: لا تقيدني، سأسير معك
الضابط: ما دمت متهماً لابد أن تقيد
علي «إلى الضابط»: ما دخل أبي في مثل هذه الكارثة، كانوا يعربدون ويسكرون ويرقصون على السطح فانهار عليهم!
«صمت»
أبي يملك الأرض والمبنى لكنه غير مسؤول.. هؤلاء العمال هم المسؤولون!
أدهم «وحده»: كيف حدث هذا؟ كيف بدلوا البستان؟ كيف نخروه بهذه القمامات الحجرية، وهذه المزابل وهذه الحشود من الجذوع المقطوعة، وكومات الأحجار والضفادع النافقة، فأين المدى الأخضر؟ أكان لابد أن ينعزل في حجيرةٍ بدلاً من أن يتمتع بهذا الفضاء؟
«صمت».. أين كنت يا هو؟ لم لم ينزل قليلاً إلى الدفاتر والمخازن والمكاتب؟ أكانت كوات السماء خدعةً من الشيطان؟ لماذا تحول ريش الطيور الفضي الذي علق به إلى جمرٍ في ضلوعه؟
«يخرج رجل من الظلام ويقوم بتصوير أدهم عدة لقطات»
الضابط يتقدم، فيما الشرطي يدفع بأدهم إلى الأمام
صوت رجل»رجل من بعيد»: ذهب القاتل، فماذا نستفيد، وأحباؤنا طمسوا تحت التراب
«إظلام»
المشهد الثالث.. الزنزانة «ليل»
أدهم يدخل الزنزانة «شخير» يتلمس طريقه ويجلس على حافة السرير الفارغ «يحدث نفسه» سمعت عن السجن طويلاً، منذ مراهقتك حيث شاركت في بعض المظاهرات مع الطلبة في المدرسة الثانوية، سمعت من الذين دخلوا، في عدة مراحل من حياتك، وها أنت تراه الآن، لكن الذين دخلوه كانوا أصحاب مواقف، وقضايا وطنية، أما أنت يا أدهم فتدخله الآن لأسباب جنائية، قضية قتل أبرياء
ينهض جاره
لقمان: أنا لقمان. أهلاً..
أدهم: أنا أدهم
لقمان: متى جاؤوا بك
أدهم: «بالكاد تخرج الكلمة من لسانه» منذ قليل
لقمان: ماذا حدث لك أيها الشيخ، ماذا بك، ولماذا أنت مهموم هكذا؟ هل فقدت قصرك أم عرشك؟!
أدهم «متألقاً»
كنت.. معلقاً.. في الهواء.. قرب... الله.. كنت... أمد.. يدي... وبغتة.... قطع... أذني.. صوت..= آل... ي...
«ثم مواصلاً»
- ثمة رجال ونساء معلقون ، ينزفون، دمهم يسيل في برك.. البستان.. الذي كان لي صار مقبرةً.. وصاحت بي نساء المدينة المذبوحة: أنت قاتل! ألقين علي شبكةً، كنت مستعداً لتسليم نفسي لكنهن جروني، رحت أتمزق على الأرض.. ذات الأسنان الحجرية... ووجدت.. نفسي.. بين جدران..
«صمت»
- وأنت... حكايتك. حكايتك..؟
لقمان: أنا لحسن الحظ لم أسقط من السماء، بل أنا لص بسيط، كنت صاحب دكان لكن سيول الأجانب التي غمرت الأزقة واستولت على كل شيء، أفلست بي، فلم أجد طريقاً للرزق سوى أن أسرق متاجرهم، أدخل وأسأل عن البضائع وأغافل الباعة وأدس يدي في خزائنهم السريعة التحريك وأسحب الأوراق النقدية وهكذا عشت شهوراً حتى أمسكوا بي
يحاولون الآن إدانتي، ولكن أهلي تشردوا.. أبنائي خرجوا من المدارس وصاروا من الحرامية.. غير المحترمين فهناك صنفان من الحرامية كما تعرف..! ماذا يفعلون ليس لهم أخ كبير يعمل ولا أم قوية!
أدهم: وضعيتك أفضل مني
لقمان: الأفضل في ماذا
أدهم: لن يعدموك أو تسجن مدى الحياة
لقمان: أنت تاجر وستدفع كفالتك وتخرج. أما أنا فسأبقى إلى أن يفرجها الله
«صمت»
أدهم: ما أجمل أن تقول الحقيقة..
لقمان: وهل الحقيقة تـــقال أم تــصنع؟!
أدهم: لم أفهم..!
لقمان: إن قلت الحقيقة، ستكون لقمة لكل هؤلاء الوحوش وسوف يأكلونك ثم تقدم لهم عظامك على طبق من ذهب، وتصرخ: تعالوا مصمصوا عظامي!
أدهم: «يضحك» سوف يأكلوني؟ أنا لم أفعل سوى أن أعترف بجرائم ارتكبتها سابقاً، والآن هذه الجريمة أنا مشارك فيها بصمتي وغيابي!
لقمان: إذن أنت مصر على السير نحو التهلكة!
أدهم: لقد جاءني نداء عظيم.. أن أنشر كل جراحي وأفضح.. كل سوآتي لكي تظهر في الشمس وتموت الجراثيم وأنت لم تفهمني، هذه قضية أكبر من عقول الكثيرين...
لقمان: أنا أفهم هذه الشغلات عن الضمير وما أشبه ذلك، أنا تنتابني مثل هذه المشاعر وأعرف أين الخير وأين الشر، لكن أنت بين أناس لا يقيمون للضمير والأخلاق وزناً، حين فتحوا الأبواب واندفع المهاجرون الغرباء وفتحوا الدكاكين وأغلقوا عيشنا، قلنا كثيراً عن ذلك لكن لا أحد يسمع، وأسرتك وعيشك في تدهور مستمر، فتمد يدك وتخطئ، لكن هل تعترف لهم بأخطائك؟ أم تشوش عليهم وتضللهم وتبتكر وسائل أخرى للعيش؟ أنا مثلك كنت في المحكمة ولكني لم أعترف بشيء بل كشفت تناقضات أقوال الشهود، وعدم دقة كلماتهم وقلت مرافعة مذهلة حتى أن القاضي تحير وأجل النظر في القضية لجلسة أخرى، وأولئك المدعون الذين كان لديهم محام ذو لسان أطول من الجسر خرس تماماً، هكذا تكون الحياة يا شيخ أدهم!
أدهم: ما ذنب هؤلاء الذين سرقتهم، ما ذنب هؤلاء الموظفين الذين سيكونون هم مسؤولون عن سرقاتك؟ سيرتبون الدفاتر جيداً ويعودون إلى بلدانهم وقد ملؤوا جيوبهم، أطمئن عليهم..
لقمان: إذا كان الحرامية الكبار هم الذين يوزعون العيش والسكن والماء كيف تريد يا شيخ دولة الضمير والحق، اسمح لي أنت تبدو أحياناً مثل الأبله..
«إظلام»
المشهد الخامس «غرفة الضابط.. نهار»
الضابط جالس يكتب في أوراق.. علي يجلس أمام طاولة الضابط.. يدخل أدهم يتقدمه الشرطي.. أصوات متداخلة يسمعها أدهم وحده
صوت أول: يا سيد أدهم العامر أنت متهم بالتسبب في مقتل تسعة عشر عاملاً بسبب سوء البناء وإهمال الترميم... ما هي أقوالك؟ هل وكلت لك محامياً؟ ماذا تقول...
صوت آخر: علي حسن المحرقي المحامي حاضر عن المتهم.
صوت أدهم: ..لقد.. ارتكبت جرائم.. كثيرةً.. ليس هذه فقط..
قال الضابط ببشاشة:
لقد صدر عنك إفراج يا سيد أدهم.
أدههم (بدهشة) كيف وبدون قرار محكمة؟
الضابط: لم تنته محاكمتك بعد ولكنك خرجت بكفالة!
أدهم: هكذا فوق المحاكم والإجراءات؟! إنني أرفض ذلك!
الضابط: لا أستطيع أن أستمر في احتجازك وسوف..
علي (بهدوء وود)
- لم يعودوا يرغبون في استضافتك يا أبي، والعائلة كلها تنتظرك الآن!
أدهم: زميلي في الزنزانة رجل طريف اسمه لقمان،
ظننت أنه سوف يحزن لأني خرجت قبله،
لكنه فرح كثيراً، غريب أمر هذا الرجل. سيبقى وحيداً.
علي (بضيق مكبوت): أنس يا أبي الآن معاشرة المجرمين
وعد إلى صلواتك وخلوتك العظيمة!
أدهم: ما بالك يا علي تزجي لي النصائح، وأنت أولى
بها، كما أن صلواتي وخلوتي لا تتضاد مع
اختلاطي بالناس..
علي: أنت الذي تقول ذلك، وأنا الذي احترت في
عودتك للإدارة؟!
أدهم: أنت لم تكن تريد عودتي، بل تريد ابتعادي، وانهماكي في الذكر وحده. علي: كيف تقول ذلك يا أبي!
ثم بحزن:
- إلى هذه الدرجة مضى بك سوء الظن؟!
- أنا الآن في محاكمة مفتوحة وعلي أن أدافع عن نفسي؟
علي:
أية محاكمة.. إنه مبنى قديم وانهار فماذا نفعل
في قضاء الله، والقضاة متفهمون لذلك، وهو
مبلغ ما ندفعه للأسر العمال الضحايا وينتهي
الأمر، بدلاً من أن نجعل الأمر مأساة مروعة!
أدهم: إذا كنت تفكر بهذا الأسلوب فالأمر مأساة فعلاً!
إلى الضابط...
هل تسمح لي يا حضرة الضابط
الضابط: ماذا يا سيد أدهم
أدهم: لن أخرج من السجن
علي: ماذا يا أبي
الضابط: لماذا لا تريد الخروج وقد دفعت كفالتك
أدهم: أرفض الخروج
الضابط: ولماذا.. لا أحد يفعل ذلك
علي: ماذا تقول يا أبي
أدهم: أريد أن أحاكم على كل ما اقترفته يدي من جرائم
الضابط: لكن
أدهم: من حقي أن أستدعي النائب العام
وأكتب اعترافاتي كاملة دون نقصان
علي: أبي
أدهم: بعدها من الممكن أن تبدأ محاكمتي رسمياً
أريد محاكمتي. أريد أن أفضح نفسي.أريد أن أحاكم
يسدل الستار.