موجة البرد 1964 نظفت متاجر البطانيات والدفايات وأكياس الفحمتجمد البحرينيون في بيوتهم وخلت الشوارع والأسواقأهل المحرق تهافتوا على شراء الكباب بالدقوس تدفئة لبطونهمانتعشت تجارة بيع الملابس الصوفية القديمة والمستعملة من الأسواقارتفع الطلب على شراء «الجاز» بحثاً عن الدفء المدارس عطلت ثلاثة أيام فاستغل الطلبة ذلك في التسكعانتشرت موضة ثوبين وكوتين وجاكيت بحثاً عن التخلص من البردالناس تمنوا لشدة البرد أن تتحول بيوتهم إلى تنور الخبازكان الناس يتزاحمون عند محطات البترول بحثاً عن الغاز الزحام كان شديداً في سوق الخضرة للشراء والتخزينكتب – عبدالرحمن صالح الدوسري:تعرضت البحرين لموجة صقيع في يناير العام 1964. لم تشهد مثلها خلال قرن كامل مضى على منطقة الخليج العربي، وضربت الخليج العربي بما فيه قطر والبحرين وشرق السعودية، فكانت الأجواء ماطرة على مدى أسبوع كامل منذ 21 يناير 1964. لقد استمرت الأجواء ماطرة والغيوم الكثيفة بحجب أشعة الشمس. وأصبحت الأجواء باردة وضبابية ورطبة، وأمطار ديمية ما بين غزيرة ومتوسطة. بعدها هبت رياح شمالية غربية قوية السرعة، وصلت إلى 44 كم يوم 29 يناير 1964، حيث أن هذه الرياح كانت باردة جداً، وبعد أسبوع ماطر ورطب وضبابي شتوي، هبطت درجة الحرارة حسب تسجيلات مطار البحرين إلى 2.3 مئوية، على جنوب البحرين حيث تشكل الصقيع على الأشجار والقضبان الحديدية، وتجمدت حنفيات المياه.إن تعرض البحرين إلى تلك الموجة الشديدة من البرد يعد أندر الظواهر غير المألوفة التي مرت على البحرين، والتي انخفضت على إثرها درجة الحرارة إلى أدنى مستوياتها، وتساقط الجليد على أشجار وشوارع البحرين كان أكثرها في منطقة العوالي لشدة ارتفاعها عن مناطق البحرين. البحرين تحت رحمة الجليدعبدالله الذوادي ممن عايشوا تلك الفترة التي تعود إلى أكثر من 51 عاماً مميزة في حياة أهل البحرين. يتذكر بوحامد تلك اللحظات النادرة بتاريخ البحرين، فيقول: قبل واحد وخمسين عاماً، أي العام 1964، وفي شهر يناير من ذلك العام شهدت البحرين موجة برد شديدة لم تعهدها من قبل، وجاءت هذه الموجة مفاجئة للجميع فقد صحا سكان «عوالي» ليروا أشجار منازلهم وقد تغطت بالجليد، كنت وقتها سكرتيراً لمدرسة أبوبكر الصديق «الغربية» الواقعة قرب وزارة الداخلية «القلعة وقتذاك»، وكنت أقطع الطريق مشياً على الأقدام «آيه على ذلك الزمان» من منزلنا في الحورة إلى المدرسة، حيث لم أكن أجيد استخدام الدراجه، فأمشي في ذلك الطريق الطويل صباحاً وظهراً أثناء عودتي من المدرسة. كنت يومها ارتدي كنزة «جاكيت» صوف دون ربطة عنق ولا لفاف ألف به رأسي، وبفضل المشي السريع لم أشعر ببرودة الجو القارس، فكنت أسرع في المشي قبل أن تشيخ ركبي واستبدل المفاصل الغضروفية بمفاصل حديدية كما هو الحال الآن «والله زمان» ، وبهذه المناسبة والصقيع البارد فقد عطلت مدارس البحرين ثلاثة أيام استفاد منها الطلبة لأخذ قسط من الراحة وخرجوا مجموعات إلى الأسواق واللعب رغم شدة البرد، فيما استفاد أهاليهم من التكدس داخل «برستياتهم «وتحلقوا حول «المنقلة «وأكثروا من شرب شاي «الزنجبيل «و» الدارسين «لمحاربة البرد، حتى الأسواق تضررت وأقفلت «دكاكينها «وتزاحم الناس في محطة» يتيم «لشراء الغاز وزاد الإقبال على» بائع الكاز «وتسابق أهل البحرين على الأسواق لشراء حاجياتهم وتخزينها كي يقلـــلوا من فرصة خروجهم من بيوتهم.الأسماك تفترش السواحل في ذلك اليوم الشديد البرودة الذي لم يكن أحد يتوقعه، جرت أحداث عجيبة وغريبة، ووجد السكان القريبين من السواحل في البحرين، وما أكثرها في ذلك الوقت قبل أن يدفن البحر، وتختفي الشواطئ وتحل محلها البنايات الإسمنتية والزجاجية، مثل الحورة ورأس الرمان والذواودة والجفير والقضيبية والمحرق والحد وجو وعسكر والبديع والجسرة والزلاق وسنابس والدراز والبرهامة وغيرها من السواحل، وجدوا الأسماك بعضها يطفو على سطح البحر والبعض الآخر ملقى على الساحل بعد أن جرفته المياه أثناء السقي، قبل أن يتهافت عليها أهل المناطق الساحلية في سباق ماراثوني كلاً يحوش رزقه، وليدفوها على الشوايات أو في الأفران بعد ما شل حركتها ذلك الصقيع الذي أصابها في مقتل. أسراب السمك كعادتها دائماً كانت تطفو على سطح البحر، تنتظر حتفها فمنها من قضى نحبه ومنها من ينتظر حتفه بين لحظة وأخرى، وما أن رأى سكان السواحل هذه الظاهرة التي أتتهم برزق لم يعهدوه من قبل حتى تأزروا بثيابهم فوق الركبة ونزلوا البحر البارد ليلتقطوا تلك الأسماك والفرحة تغمرهم بهذا الصيد السهل والثمين ولكن لم يخطر ببالهم أنهم سيتعرضون لبعض المخاطر كنزلات البرد الشديدة، وفقد السمع لما تعرضت لها طبلات آذانهم من شدة البرد الذي لم يشعروا به وهم في نشوة الفرح بهذه الظاهرة العجيبة والصيد الثمين، واستسلام الأسماك لهم بعد ما كانوا يذهبون إلى أعماق البحار لاصطيادها. لي زميل عانى كثيراً من تلك الظاهرة حيث انفجرت طبلة أذنه، لا أذكر اليمنى أو اليسرى، مما اضطره إلى البحث عن العلاج في المدن الأوروبية وكلفه الكثير من المال الذي لو استثمره في تجارة الأسماك لأصبح مليونيراً، كما حال تجار الأسماك اليوم الذين يبيعون كيلو الهامور بثمانية دنانير بعد ما كان ثمنه لا يتجاوزه قيمة الربعة «أربعة أرطال» بروبية ونصف ولا أحد يشتريه، هكذا يعز من يشاء ويذل من يشاء، كحال بعض البشر الذين أصبحوا بين عشية وضحاها من كبار القوم بما يملكون من ثراء فاحش لا يعلم أحد مصدره، فالله وحده هو العالم ببواطن الأمور.التهافت على البطانيات والفحمإن موجه البرد العام 1964 لم يكن مكسبها الأسماك «اللايثة» على الشواطئ فحسب، وإنما نظفت متاجر بيع البطانيات والدفايات وأكياس الفحم من مخازنها، وانتعشت تجارة بيع الملابس الصوفية القديمة والمستعملة من الأسواق خصوصاً في شارع الشيخ عبدالله بسوق المنامة، وكان يوجد في هذا الشارع عدد من دكاكين بيع الملابس الصوفية القديمة مثل البدل والمعاطف الطويلة «الأوركوت» المزينة بالنياشين العسكرية التي يؤتي بها من الدول الأوروبية بعد استبدالها بجديدة للضباط والجنود أو بدل المتوفين من تلك الدول، وكان المرحوم سالمين من فريق الفاضل يفضل تلك البدلات العسكرية المزينة بأرفع الأوسمة والنياشين فيطوف بها في الأسواق وهو يرتديها وهو يحمل بيده مبخرة «المقبس»، ويحرق فيه البخور مثل الياوي والعود ليبخر بها رواد السوق والمتاجر ليبعث دفئاً في أجسادهم تقيهم شدة البرد وتطرد الشيطان من طريقهم، كما كانت تفعل العجائز عندما تلد بناتهن فيبادرن بحرق الياوي «الجادي»، والسويداء والحرمل والشب لطرد الأرواح الشريرة عن بناتهن.الإقبال على شراء الحلوىإلى جانب ذلك زاد الإقبال من زبائن الحلوى على متاجر الحلوى البحرينية والرهش في سوق المنامة «خلف شارع الشيخ عبدالله»، وفي سوق المحرق لما للحلوى والرهش والتمر من وفرة في إحداث الطاقة الحرارية في الجسد، وكذلك تهافت أهل المحرق على شراء الكباب الحار بالدقوس ليشعل أجسادهم من الداخل لمحاربة موجة البرد.هكذا أحدثت تلك الموجة الباردة التي هبت على البحرين، ورأينا الثلج يغطى أشجار عوالي ولربما غطى شجرة الحياة في جنوب البلاد التي لم يعرفها أحد حينذاك، ويقال إن البحرين مُقْدِمَةٌ على موجة عاتية من البرد والصقيع نظراً لما تمر به المنطقة من موجات برد عاتية، حيث غطت الثلوج كثيراً من مناطق المملكة العربية السعودية وقبلها الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر، حتى الدوحة عاصمة دولة القطر الشقيقة مرت بها تلك الهجمة الجوية فشهد أهل الدوحة الصقيع والثلج، وكذا الحال في الكويت، ونحن في البحرين لازلنا ننتظر الزيارة الثلجية علها تعيدنا إلى الخمسين عاماً التي انقضت.العصر الجليدينتساءل: ترى هل تتحول منطقة الشرق الأوسط والخليج إلى عصر جليدي؟، وتتحول أوروبا والقطبان الشمالي والجنوبي إلى مناطق دافئة نحج إليها في أشهر الشتاء الباردة، الله أعلم!. ونحن في انتظار ما تأتي به الأيام من برد وثلج كما حدث العام 1964 في شهر يناير من ذلك العام، فإنه لو حدث الشيء ذاته هذه السنة فإن الأوضاع ستختلف فلم تعد بيوت المواطنين في معظم مدن وقرى البحرين مبنية من سعف النخيل. ولعل موجة برد 1964 والحرائق التي تعرضت لها أحياء كثيرة في المنامة والمحرق والقرى بسبب بيوت السعف، هي التي جعلت المغفور له بإذن الله صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين آنذاك يفكر في مشروع إسكاني يحمى المواطنين من مثل تلك الأجواء الباردة والحرائق وبالفعل بدأ مشروع مدينة عيسى الإسكاني الرائد الذي نقل المواطنين من الأكواخ إلى بيوت صحية في مدينة حديثة بشوارعها وأسواقها، وعندما وجد عظمته عزوف بعض المواطنين عن تلك البيوت بسبب قصر اليد خفض أسعارها بواقع 50%، ولم تكن تلك البيوت بمساحاتها الكبيرة وغرفها ومرافقها ذات سعر مرتفع، فبيوت الأربع غرف كان سعرها خمسة آلاف ومائتين وبيوت ذات الثلاث غرف ثلاثة آلاف وخمسمئة وذات الغرفتين بألف وثمانمئة. وتدفع على أقساط شهرية مريحة، ومع ذلك جرى تخفيض سعرها إلى النصف، وكما يقول المثل رب ضارة نافعة. إن كانت موجة البرد العام 1964، قد أوجدت مدينة عيسى.. اللهم عجل بموجبة البرد إن كان فيها خير لأهل البحرين واحسرها عنا إن لم يكن من ورائها فائدة.