بقلم - د. خالد الشنو:
ركز معي أيها القارئ الكريم في هذه القصة، أراد مهندس أن يتقاعد بعد أن كبر في السن، وبعد أن عاش حياةً مليئةً بالنجاح، وعندما أخبر رئيس عمله بذلك، رفض الرئيس طلبه، ووعده بزيادة راتبه، لكنه رفض، وبعد إلحاح شديد، قرر الرئيس الموافقة على طلبه بشرط أن يقوم ببناء منزل واحد، سيكون آخر منزل يبنيه، وفعلاً شرع المهندس في العمل، وبما أنه آخر عمل يقوم ببنائه لم يستخدم إلا المواد الرديئة، ولم يكن جاداً ومخلصاً في عمله، فالنتيجة أن البناء سيكون رديئاً أيضاً. بعد انتهائه من بناء المنزل، ذهب إلى رئيسه ليسلم له المنزل، عندها كانت المفاجأة! فقد أخبره رئيسه بأن هذا المنزل مكافأة منه له على عمله الرائع طوال السنين الماضية!
أيها الكرام، إن من مبادئ الإدارة المعروفة أن: «الرواتب والوظائف للأعمال وليست للأشخاص»، وهذا هو المعروف شرعاً باسم «الإخلاص»، فإذا قلنا: ذهبٌ خالص، أي الذهب الخالي من الشوائب، ومعناه في واقع الحياة العملية: التفاني في العمل وإتقانه على أحسن وجه، انطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية والقيم الأخلاقية.
إن الإخلاص في العمل هو الطريق المستقيم للوصول إلى الهدف، وهو أقصر الطرق بالحساب الهندسي المعروف، والمخلص ميال بنفسه لذلك المبدأ من دون النظر إلى بقية الأبعاد الأخرى من رقيب أو حسيب، أو شكر أو قدح.
ولا يختلف معنى الإخلاص في الإسلام عن ذلك، فهو صدق توجه القلب وخلوه من أية شائبة، بحيث يريد بعمله وجه الله تعالى، ونستخلص هذا من قوله تعالى: «هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً»، وأحسن العمل: ما كان في نيته خالصاً، وفي طريقته موافقاً للشرع، ونستحضر هنا أيضاً الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» رواه البخاري. بل ذهب الإسلام في الإخلاص والإتقان إلى أبعد من ذلك، فحث الإنسان على مواصلة العمل حتى ولو قامت القيامة! ففي الحديث: «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلةٌ، فليغرسها» صححه الألباني.
وجود صفة الإخلاص في أي ميدان سببٌ قوي للتقدم والنجاح، فإذا حضر الإخلاص، هرب الفساد والتسيب والتساهل والتكاسل! والعكس صحيحٌ، فإن الفشل قرين عدم الإخلاص، ولعل فقدان هذه الصفة جعل دولًا كثيرة تحت وطأة الفشل والفساد بأنواعه، السياسي والاقتصادي والخدمي والإداري والتعليمي.
ولو أمعنا النظر في أسباب تقدم بعض الدول المتقدمة الناجحة في مجالات عدة، لوجدنا أنها لم تنتج خوفًا من مراقبة لجنة برلمانية، أو جهة حكومية فحسب -رغم أهميتها- بل إن السبب الأول في نجاحهم ناتج من تركيبة نفسية داخلية ورقابة ذاتية ترتكز على مبدأ الإخلاص، كل في ميدانه ومجال عمله، حتى صارت ذلك المبدأ لديهم بمرتبة القوانين الملزمة والقواعد الأخلاقية التي لا يمكن تجاوزها.
وإذا كان الإخلاص عند الغرب بهذا المفهوم، فإنه يتجاوز عندنا من مجرد الرقيب الذاتي لدى العامل إلى إحساس داخلي مدعوم باستشعار أن الله تعالى هو الذي يرى سلوكه وكل تصرفاته في أداء عمله، لذلك كان الإخلاص شجرة مثمرة ضاربة في الجذور، من أهم ثمارها اليانعة، أداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، والقوة والجاهزية للعمل بجد واجتهاد، والحرص على وقت العمل، وعدم استغلال موقع العمل لمصالح شخصية أو عائلية أو للتكسب غير المشروع، والحفاظ على أدوات العمل وأجهزته ومعداته ووسائله، وإتقان العمل، وهذا يستدعي شعور العامل بالمسؤولية تجاه ما يوكل إليه من عمل، وحسن رعايته لعمله وتطويره، والإسراع في إنجازه، وبذل الوسع في اجتناب الوقوع في الأخطاء في أداء العمل وإنتاجه.
والجامع لكل هذه الثمار هو المسؤولية الواردة في الحديث « كلكم راع وكلكم مسؤولٌ عن رعيته» رواه البخاري، والإحسان الوارد في حديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» رواه مسلم.