كتب ـ علي الشرقاوي:
الشعر العامي هو لهجة الأم، لهجة البيت، لهجة الفريج، لهجة المجتمع، تربينا على كلماتها وإيقاعها ومدلولاتها، والبلاغة غير المحدودة المتضمنة في ثناياها، وتجربة الشاعر الكبير علي عبدالله خليفة في الموال البحريني تجربة كبرى أعادت الروح للكلمة العامية وأعطتها أبعاداً رمزية وإنسانية لا محدودة، ولم تتعود عليها قبلاً.
يقول الشاعر والباحث علي عبدالله خليفة في بحث عن الموال «إن الموال بضم الميم وتشديد الواو، أحد صنوف الشعر الشعبي الشهيرة والمعروفة في كافة الأوساط الشعبية العربية، يصاغ على هيئة لحنية يختص بها مذهب منفرد في الغناء، وأكثر استعماله في استهلالات الألحان تمهيداً للدخول في جنس نغم الدور».
ويضيف في بحثه «تتضارب روايات مؤرخي الأدب حول نشأة الموال، وأول من نطق بالموال هم موالي البرامكة بعد أن نكبهم الرشيد عام 802 هـ، وصادر أموالهم ومنع الشعراء من رثائهم»، قبل أن يستدرك «الثابت تاريخياً أن المواليا أو الموال قائم في الأوساط الشعبية قبل ذلك، وشاع استخدام الموال في مزارع نخيل البصرة، ومنها ارتحل إلى بعض البلاد العربية ومنطقة الخليج العربي القريبة، وقد يكون مغني البحر (النهام) و(الحداي) لنداء يا مال حرف عن لفظ (يا مواليا)، التي كانت تردد بعد قول كل موال عند بداية نشأته». ويرى خليفة أن الذاكرة الشعبية لعموم المنطقة اكتنزت بأعداد لا تحصى من المواويل مجهولة القائل، ينسب بعضها إلى شعراء الموال المشهورين المتداولة أسماؤهم بين الرواة والحفاظ ومغني البحر. ويعدد أبرز هذه الأسماء، فرج بو متيوح وحسين بو رقبة وبن مرهون من البحرين، وعبدالله الفرج وعبدالعزيز الدويس وأحمد الرشود من الكويت، وراشد بن فضل البنعلي من المملكة العربية السعودية، ومحمد الفيحاني من قطر.
تأثير الموال الشمالي
في البحرين
ويقول الباحث خليفة في دراسته «بفعل التجربة والمرات اكتسب النهام والحداي خبرة عالية في اختيار نصوص الموال المناسبة، وتميزا بذائقة خاصة تفرز ما هو عالي الجودة وتعمل على حفظه وترديده بين البحارة، وقد تنافس هؤلاء المغنون فيما بينهم لاقتناص الجديد من هذه النصوص، والاستحواذ عليها بالحفظ السريع والتمرين على الأداء إلى أن تحين لحظة إطلاقه لأول مرة».
ويتابع «إلى جانب النصوص المحلية كانت نصوص موال عراقي تفد إلى الكويت والبحرين، يطلقها شعراء الموال الكثر هناك لتصل إلى حناجر المغنين على السفن وفي الدور الشعبية، وكان البحارة يطلقون على الموال المجلوب من العراق اسم (موال شمالي)، أي وافد من شمال منطقة الخليج».
ويواصل «نتيجة لرواج هذا الشكل الفني وطبيعة محتواه، احتل الموال فاصل المقام في استهلال فن الصوت الشائع في البحرين والكويت، ونظراً لتقارب اللهجتين العراقية والخليجية اختلطت النصوص ببعضها ودخلت مفردات وتعابير اللهجة العراقية إلى الموال البحريني والكويتي، ومن شعراء الموال العراقيين الذين راجت نصوصهم واحتلوا مكانة رفيعة لدى الرواة والحفاظ الشاعر محمد بن إسماعيل الحلي صاحب الروضة الشهيرة في الموال المتوفي عام 1274 هـ حوالي 1831م والمعروف بابن الخلفة».
الموال البحريني
ارتبط الموال في الحركة الشعرية البحرينية كما في الكويت والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بالبحر، وعوالمه غير المحدودة من المعاناة، ثم في بعض التجارب المستمدة من الروح الزراعية الملتصقة بالأرض ومعاناة المزارع في التعامل مع الحياة اليومية.
الموال كما هو معروف لدى من تابعه، كان لا يخرج عن الأغراض العادية والمكررة، من شكوى الزمان، والهجاء و الاعتذار والصد، ونادراً ما نراه متمرداً على القيود الاجتماعية، لكن دخول علي عبدالله خليفة بتجربته المغايرة، أعطى الموال البحريني أبعاداً رمزية وإنسانية غير محدودة، بل حوله إلى نوع من أنواع الحلم الشعبي الإنساني.
دخل صاحب «عطش النخيل» إلى الموال من زاوية مختلفة ومفارقة لم يسبقه إليها أحد من الشعراء، وأثر تأثيراً كبيراً على من كتبوا الموال بعده.
الموال الزهيري
يقول بعض الدراسين إنه لا أحد حتى الآن، استطاع أن يحدد تحديداً علمياً صحيحاً أو أن يعين بصورة أكيدة في أي زمان ومكان نشأ وترعرع الموال الزهيري، ولا من هو الشاعر الذي ابتدع هذا النمط واللون من الشعر العامي.
ولكننا نستطيع الإقرار بحقيقة أن الموال الزهيري موجود، بأشكال متقاربة في جميع أنحاء المشرق من الوطن العربي والخليج العربي، وجميع الشعراء الشعبيين ينظمون هذا اللون من الشعر الذي يمتاز عن غيره بعدة نواحي، منها أنه شعر نظم في الدرجة الأولى ليغنى، وأنه مؤلف من عدد محدود من الأشطر، ما يسهل عملية حفظه وروايته وتناقله.
ويركز الموال الزهيري على فكرة أو غاية واحدة في كل موال، وينظم على وزن البحر البسيط، وهو إما من أربعة أشطر أو خمسة كما هو شائع في لبنان وسورية وفلسطين، أو من سبعة أشطر كما هو شائع ومعروف في منطقة الخليج العربي، فإذا كان من أربعة أشطر كان الشطر الأول والثاني والثالث من قافية واحدة بينما يختلف الرابع.
وإذا كان من خمسة أشطر اشترك الأول والثاني والثالث والخامس بقافية واحدة وانفرد الرابع، وإذا كان من سبعة أشطر جاء الشطر الأول والثاني والثالث والسابع على قافية واحدة والرابع والخامس والسادس على قافية أخرى.
ويقول علي خليفة في تعريفه للموال الزهيري «يعتمد الموال الزهيري بالدرجة الأولى على الجناس، والتورية في حالات أخرى، وتتردد في القافية الأولى في الموال كلمة واحدة تحمل عدة معان، وقد تكون مركبة من كلمتين تلفظان معاً فتعطيان صوت لفظ الكلمة الأولى ولكن لا تعطيان معناها، وفي القافية الثانية الأشطر 4 و5 و6، تستعمل كلمة أخرى تعتمد على الجناس أيضاً وينطبق عليها ما ينطبق على القافية الأولى، وهنا تظهر براعة الشاعر في تأليف وتركيب كلمات تعطي معاني مختلفة وهي ذات لفظ سماعي واحد».
فضاءات الفصحى والعامية
ويسرد علي عبدالله خليفة تجربة إصدار مواويل «عطش النخيل»، ويقول إن كتابة الشعر بالعامية كتابة مرحلية، وإن هذا الشعر بلا مستقبل لأن اللهجة في تطور يومي مستمر بفعل تطور المجتمع وانتشار التعليم.
وتنبأ أن تضيق الشقة ما بين الفصحى والعامية، بحيث ترقى العامية شيئاً فشيئاً لتصل أقرب ما تكون للفصحى، ويضيف «هذه الرؤية كانت جلية أمامي، وها هي تتحقق اليوم بعد 35 عاماً، كأروع ما تكون فيما يكتبه شعراء العامية الجدد في سلطنة عمان بالتحديد في بعض ما يكتبه قلة من شعراء دول الخليج الأخرى».
ويتابع «اللغة التي يكتبون بها ليست هي عامية كتبت بها أشعاري عند أوائل السبعينات، تلك اللهجة لم تكن بالطبع لهجة الشارع، وإنما هي امتداد للهجة مصفاة حملها إلينا الشعر الشعبي في أرقى وأعذب نصوصه».
ويواصل «مازلت أكتب أشعاراً بالعامية، لكن نتاج الفصحى الجديد لدي طغى على نتاجي بالعامية، وما كتبته بالعامية في آخر أشعاري ليست له صلة قوية بما كتبته قبل 30 سنة على سبيل المثال، فهناك فرق في التعامل مع المفردة وفي رسم الصورة وصياغة التعبير وحتى طريقة رسم الكلمة على الورق، كما أن اللهجات العربية لم تعد حاجزاً في وطن عربي تتوزعه اللهجات، في وقت أصبح فيه العالم كله مجرد قرية صغيرة».
علي خليفة
وخالد الشيخ وأنا
عندما كتبت موال «جروح قلبي وتر»، وهو أول موال أشتغل عليه بصورة جدية، في أحد صنادق سجن سافرة في مارس 1977، كان الشاعر علي عبدالله خليفة حاضراً حضوراً قوياً في لحظة الكتابة، لم يكن هناك أدوات كتابة، حضور علي خليفة دفعني للغوص عميقاً في الكلمة وما تحمله من أبعاد، ومحاولة الوصول إلى ما يشبه المثل في القافلة.
لا أعرف أن كنت أبالغ لو قلت، لحظة القول، كان علي خليفة هو من يكتب، وهو من يقول، هو من يأخذني معه، في درب جديد، مغاير، مختلف، لم أطرقه من قبل.
ولا أنكر أني كنت متأثراً بتجربته في ديوان «عطش النخيل»، والتي مثلت لي شخصياً، أهم ما كتب من مواويل بحرينية، حيث حولت اليومي والواقعي إلى مواويل قادرة على الرحيل في الزمن، معبرة عن حياة إنسانية مكتظة بالألم والأمل، مواضيعها ومشاعرها الإنسانية، لا يمكن أن تتغير وإن ترجمت إلى كل لغات العالم.
وكان أيضاً حاضراً خالد الشيخ الذي لا أعرفه شخصياً، بقدر ما وقفت أمام تجربته في أغنية (ياللوز ياللوز) التي غناها محمد يوسف ووصلت إلى القلب قبل أن تصل إلى الأذن.
من هنا أقول إن مواويل علي خليفة أثرت في تجربتي بكتابة الموال، وهي أثرت على الكثيرين غيري، ممن يتعاملون مع الكلمة واللحن والفن التشكيلي والمسرحي.
لم يكن تأثير علي خليفة على القارئ أو الناقد وشعراء آخرين فقط، إنما تعدى تأثيره على الفنانين المسرحيين والتشكيليين، فقد أثر على الفنان ناصر اليوسف ويقول عن هذا التأثير «كنت مهتماً بحكايات الغواصين فاختمرت لدي فكرة أن أرسم بعض تلك الحكايات، وبدأت أعد الاستكشات والرسومات التخطيطية لها وأجمع قصصاً تحكي عن الغوص من كبار السن».
ويضيف «صدر ديوان الشاعر الكويتي محمد الفايز -النور من الداخل- وقرأته أحسست أنه يجسد ما كنت أبحث عنه من معان، وبدأت أرسم لوحاتي السبع عن الغوص، وكانت من الحجم الكبير ومرسومة بالزيت، وعندما انتهيت عرضتها في معرض أسرة فناني البحرين في الكويت عام 1969، وكانت فرحتي كبيرة وأنا أجد الصدى الطيب للوحاتي، واختارت مجلة العربي الكويتية إحدى لوحاتي وهي -عرس الغواص- ونشرتها في غلافها الداخلي بالألوان في العدد 11 الصادر في ديسمبر 1969».
ويواصل «بعد عودتي إلى البحرين بفترة طلب مني الصديق الشاعر علي عبدالله خليفة أن أرسم مواويله الشعبية التي كان يعدها لتصدر في ديوانه، وفعلاً بدأت العمل عليها، وطبع ديوان عطش النخيل محتوياً على رسوماتي، وأفادتني تلك الرسومات وعملت منها لوحات زيتية عرضتها في معرض أسرة فناني البحرين في نادي النسور عام 1970».
كيف تزاوج بين الفصحى والعامية؟
يقول علي خليفة وهو يتحدث عن تجربته مجيباً على سؤال طرحه على نفسه «أود أن أعترف صادقاً أن ذلك خارج إرادتي تماماً، ومن تجربة فعلية فإني لا أملك خيار لغة القصيدة، وإنما هي من تختار عند التخلق ما تريد، وهذا لايزال غائباً ليس عن عامة المثقفين وإنما حتى عن بعض المتمرسين من نقاد الشعر لبعدهم عن فهم طبيعة التجربة الشعرية وبعدهم عن تفهم ما يكتب بالعامية، إما تزمتاً أوانصياعاً لما هو سائد من موقف مسبق تجاه حركة الشعر الشعبي منذ نشأتها».
ويضيف «لا أقول هذا دفاعاً عن العامية أو تحيزاً لها، فالعربية الفصحى هي الأم والعامية أية عامية عربية ما هي إلا فرع صغير من فروعها يجب عدم إنكاره أو التبرؤ منه، وأنا هنا إنما أقول ذلك عن معايشة حياتية أرى اليوم أنها من صنع ظروف نشأتي وتربيتي وتكويني الثقافي الأولي».