khalidalsheno

بقلم - د. خالد الشنو:
«أعقل الناس، أعذرهم للناس»، هذه درة نفيسة، وحكمة راقية، من درر وحكم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأزعم أنها علاج عجيب لمرض اللوم والنقد والاتهام وسوء الظن، ووصفة مجربة لحياة ملؤها السلام والوئام والهدوء.
التماس العذر للغائب والمتأخر ونحوهم، فن لا يجيده إلا العقلاء، وقد قيل: «المتفكرون في الآخرة لا تتسع صدورهم للأحقاد والعداوات».
ولهذه الفن الأخلاقي أصول نبوية وسلفية وعربية، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبوداود وصححه الألباني. ومعنى الحديث: الحث على التغاضي عن الزلات، وعدم المؤاخذة بالصغائر، وما يندر من الخطايا، ممن كان حاله الاستقامة وظاهره الصلاح، إلا ما يستوجب العقوبة المقدرة شرعاً وهي الحدود فلا تساهل فيها.
وقال جعفر الصادق رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك الشيء تـنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه!
وقال دعبل الخزاعي:
تأن، ولا تعجل بلومك صاحبا
لعل له عذراً وأنت تلوم!
وإليكم هذه القصة الحقيقية المعبرة عن هذا الفن:
يقول ستيفن كوفي: كنت في صباح يوم من الأيام في قطار الأنفاق بإحدى المدن الأمريكية،
وكان الركاب جالسين في سكينة، بعضهم يقرأ الصحف، وبعضهم مستغرق بالتفكير، وآخرون في حالة استرخاء، كان الجو ساكناً مفعماً بالهدوء! فجأة! صعد رجل بصحبة أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وإزعاجهم القطار، جلس الرجل إلى جانبي، وأغلق عينيه، غافلاً عن الموقف كله. فقد كان الأطفال يتبادلون الصراخ ويتقاذفون بالأشياء، بل ويجذبون الصحيفة من أحد الركاب، وكان الأمر مثيراً للإزعاج، ورغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواري دون أن يحرك ساكناً! ألا يشعر؟! أليست عنده ذرة إحساس؟! لم أكن أصدق أن يكون هذا الرجل بهذا القدر من التبلد والسماح لأبنائه بالركض هكذا دون أن يفعل شيئاً!
يقول ستيفن -بعد أن نفد صبره- التفت إلى الرجل قائلاً: إن أطفالك يا سيدي يسببون إزعاجاً للكثير من الناس، وإني لأعجب أنك لم تستطع أن تكبح جماحهم أكثر من ذلك! إنك عديم الإحساس! فتح الرجل عينيه -كأنه لأول مرة يستوعب الموقف- وقال بلطف: نعم، إنك على حق، يبدو أنه يتعين علي أن أفعل شيئاً حيال هذا الأمر. لقد قدمنا لتونا من المستشفى، حيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة منذ ساعة واحدة! إنني فعلاً عاجز عن التفكير! وأظن أن أطفالي لا يدرون كيف يواجهون الموقف أيضاً!
يقول كوفي: تخيلوا شعوري حينئذ؟! فجأة امتلأ قلبي بآلام الرجل، وتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم تجاهه دون قيود. قلت له: هل ماتت زوجتك للتو؟ إنني آسف، هل يمكنني المساعدة؟!
هل رأيتم؟!، كيف تغير كل شيء في لحظة؟!
انتهت القصة، ولكن لم تنته المشاعر المرتبطة بهذا الموقف في نفوسنا.
هذه القصة تذكرنا بمواقف كثيرة مرت علينا في حياتنا، كنا في أحيان ظالمين، وفي أحيان مظلومين! والسبب في الحالتين، هو الوقوع في حبال الاتهام والدخول في النيات وعدم التماس العذر!
كم ظلمنا أنفسنا حين ظلمنا غيرنا في الحكم السريع المبني على سوء فهم، وبدون بحث عن الأسباب المؤدية لوقوع ذلك التصرف غير المتوقع من إنسان قريب أو غريب.
سبحان الله! حين تنكشف لنا الأسباب والدوافع، وتتضح لنا أصول الحكاية، نعرف وقتها كم كان الحكم الذي أصدرناه في لحظة غضب محرجاً ومؤلماً، وربما أدى إلى انقطاع حبال المودة بين الأسرة والجيران والرفاق، وغرس الشقاق والطلاق.
الزبدة هنا، أحبتي القراء، أن نتعلم ثقافة التماس الأعذار، فلا نتسرع في إصدار الأحكام على الغير، وعندما نخطأ نعتذر بكل شجاعة.
أخيراً، لنتعلم من النملة هذا الفن! نعم، تأملوا ماذا قالت النملة لما رأت النبي سليمان عليه السلام وجنوده؟! «حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون»، «النمل: 18».
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره «تيسير الكريم الرحمن»: «وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم، أنهم إن حطموكم، فليس عن قصد منهم ولا شعور، فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها وفهمه، «فتبسم ضاحكاً من قولها» إعجاباً منه بنصح أمتها، ونصحها، وحسن تعبيرها».
فهلا اقتدينا بالنملة في فن التماس العذر؟!