في 16 فبراير 2001، وإثر إجراء الاستفتاء الشعبي يومي 14 و15 من الشهر ذاته، صدر الأمر الأميري رقم 17 بالتصديق على ميثاق العمل الوطني، بعد أن وافق عليه شعب البحرين بأغلبية تجاوزت 98%.
ومع حلول الذكرى الـ14 لإقرار الميثاق، ربما يكون من المفيد قراءة ما حدث خلال العقد ونيف الماضي، خاصة على الصعيد الاقتصادي، الذي كان ومازال الشغل الشاغل للقيادة الرشيدة، وموضع اهتمام الحكومة، باعتباره أحد أهم معايير قياس مدى وحجم التطور بحياة ومستوى رفاهية المواطن، وتجسيداً واقعاً لما تضمنته ديباجة الميثاق في تأكيدها أن حضارة البحرين الممتدة في عمق التاريخ تظل «شاهداً على ازدهار البحرين الاقتصادي كمركز للتجارة الحرة وميناءً حيوياً للعالم».
وأكد الميثاق الوطني أنه من أجل مواصلة خطط النهوض بالأوضاع المعيشية للمواطن، وتحقيق مستوى متقدم في مجالات التنمية والحرية الاقتصادية، ضرورة التمسك والعمل وفق عدد من الأسس تضمن للبلاد ترشيد وحسن استخدام مواردها المتاحة، ورفع متوسط دخل الفرد فيها، والارتقاء بمستويات تنميته البشرية، وهو ما كان بالفعل، ويمكن تلمسه في الكثير من المؤشرات والدلائل.
عملت البحرين، قيادة وحكومة وشعباً، خلال السنوات الـ14 الماضية، على إنجاح وتنفيذ الأسس الاقتصادية المتضمنة بالميثاق، مثلما حدد الفصل الثالث منه، والمعنون بـ»الأسس الاقتصادية للمجتمع»، حيث تعد البحرين الآن نموذجاً مبهراً في مجالات الحرية الاقتصادية، وحماية الملكية الخاصة والأموال العامة، وتحقيق العدالة الاقتصادية، وتنويع مصادر الدخل القومي، والاستغلال الأمثل للموارد والثروات الطبيعية، هذا رغم قلة الثروات الطبيعية بالمملكة، وندرة المياه، ومحدودية رقعة أراضيها بالمقارنة بغيرها من الدول المجاورة، فضلاً عن كثافتها السكانية العالية.
وينص الميثاق الوطني على أن النظام الاقتصادي في المملكة يقوم على مبدأي المبادرة الفردية للقطاع الخاص وحرية رأس المال في الاستثمار والعمل والتنقل والتملك، ما كان له عظيم الأثر فيما وصلت إليه البحرين باعتبارها موطناً لرؤوس الأموال، ونقطة جذب لرجال الأعمال في الداخل والخارج.
ولم تأت هذه السمعة والمكانة على صعيد الحريات الاقتصادية، إلا عن جدارة استحقتها المملكة، وبناء على جهد مضن كان قوامه العديد من الخطط والإجراءات مكنت المواطن من الاطمئنان على أمواله وممتلكاته، وأوصلت الاقتصاد الوطني من المرتبة الـ25 طبقاً لمؤشر الحرية الاقتصادية عام 2006، إلى المرتبة الأولى إقليمياً وخليجياً و18 عالمياً عام 2015، من أصل 178 دولة على مستوى العالم.
ولعل من بين أهم الإجراءات والخطط المتبعة بالمملكة طوال السنوات الـ14 الماضية للوصول لهذه المرتبة، فتح أبواب وفرص الاستثمار في القطاعات كافة، وتقديم إغراءات وحوافز تشجع على الانطلاق والمبادرة والعمل، وتيسير الإجراءات اللوجستية المعروفة من اتصالات وبنية أساسية وتجهيزات مختلفة، والحماية القانونية والإدارية للاستثمارات في كل مراحل عملها.
تملك الأجنبي
وأتاح قانون الشركات التجارية الصادر بالمرسوم بقانون «21» لسنة 2001، لرأس المال والخبرة الأجنبية بالعمل، بينما ساوى المشرع بموجب المرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2001 بشأن تملك غير البحرينيين للعقارات المبنية والأراضي، الأجنبي مع المواطن، وهي ميزة تنافسية تتمتع بها البحرين، حيث السماح للأجانب بالملكية الكاملة 100% لموجودات الشركات والأصول العقارية.
وعقدت البحرين اتفاقات التجارة الحرة وحماية الاستثمارات وتفادي الازدواج الضريبي، ووقعت أكثر من 65 اتفاقية ثنائية بهذا الشأن، علاوة على الإجراءات الإدارية التشجيعية، حيث يستطيع صاحب رأس المال الراغب في الاستثمار في المملكة، تدشين أعماله بسهولة ويسر دون تعقيدات بيروقراطية، ما مكن البحرين من أن تكون الأكثر جاذبية للشركات، والأكثر انفتاحاً وحرية وقبولاً في المنطقة، وإحدى الدول الخالية من أنظمة الضريبة على الدخل سواء للمؤسسات أو الأفراد.
وأسهمت هذه السياسة في تحقيق منجزين رئيسين، أولهما استقرار معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي رغم من تفاقم التوترات الجيو ـ سياسية في المنطقة، وتقلبات أسواق المال والنفط العالمية، وانخفاض نمو الاقتصاد العالمي عموماً، وتتراوح هذه المعدلات يبن 5 إلى 8%.
والمعروف حسب تقرير للبنك الدولي أن نسبة النمو في الاقتصاد البحريني بلغت ذروتها عام 2007 بنسبة 8.3%، وقدر مجلس التنمية الاقتصادية معدل النمو المحقق عام 2013 بنسبة 5.3% بالأسعار الثابتة، وبنسبة 5.1% بالأسعار الجارية، وبنسبة 4.7% بالأسعار الثابتة في الربع الثالث لعام 2014.
وثاني هذه المنجزات استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية، حيث بلغت 989 مليون دولار عام 2013 بزيادة 11% عن عام 2012، ما يعكس الثقة في الاقتصاد الوطني، بعد أن حافظ على قوة تنافسيته عام 2014، مسجلاً المرتبة 44 من بين 144 دولة حسب منتدى «دافوس»، ما يؤشر إلى أن بيئة الأعمال تعد الأكثر جدوى من حيث الكلفة والقيمة المضافة، والأقل من حيث معدلات التضخم، وهو ما يفسر تسجيل 167 شركة عقارية خلال عام 2014 بنمو بلغت نسبته 53% مقارنة بعام 2013، وبنمو في رأس المال تصل نسبته إلى 7.2%.
تنويع مصادر الدخل
وتعد المملكة من الدول الرائدة تاريخياً في مجال تنويع النشاط الاقتصادي خاصة في الخليج، ولا تعول كثيراً على النفط كمورد وحيد وأساس للدخل الوطني بالمقارنة بكثير من الدول المتخصصة في إنتاج المواد الخام، وهي واحدة من الدول القلائل استطاعت التحول، وفي غضون فترة قصيرة نسبياً، هي السنوات التالية لصدور الميثاق والتصديق عليه، إلى دولة تتمتع بمركز خدمي ومالي مرموق في المنطقة.
جاء ذلك بفضل السياسات المتبعة لتكون البحرين مركز جذب للسياحة العائلية الخليجية، وموطن للصناعة المالية في المنطقة والعالم بشكل عام، وللخدمات المصرفية الإسلامية بشكل خاص، حيث تعد المملكة الأولى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هذا الجانب بقيمة موجودات تبلغ 47 مليار دولار أمريكي، فضلاً عن عدد من الصناعات ذات القيمة المضافة الأخرى، سيما منها صناعة المعارض، حيث استضافت البحرين 74 فعالية مهمة عام 2014، وبعض الصناعات التحويلية، ما وضع المملكة على طريق التنمية الصناعية الشاملة.
ولعل إطلالة بسيطة على بعض المؤشرات الرقمية تثبت هذا المعنى، فبعد أن كانت نسبة مساهمة قطاع التعدين والمحاجر في العموم تصل إلى 44% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000، لم تتجاوز هذه النسبة أكثر من 20% عام 2012، بحسب تقرير مجلس التنمية الاقتصادية عام 2013، الذي أشار إلى ارتفاع نسب مساهمة القطاعات الأخرى في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، حيث ارتفع نصيب قطاع البناء والتشييد من 2% عام 2002 إلى 7% عام 2012، وكذا القطاع المالي من 14 إلى 17%، والتصنيع من 12 إلى 15% في نفس سنوات المقارنة.
وتتأكد هذه المؤشرات مع عدة تقارير أخرى أبرزت زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية بنسبة 79.2% من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة عام 2013، والمقدر بـ29 مليار دولار أمريكي، ونمو الاقتصاد البحريني ككل خلال العقد السابق بمعدل 70%، بينما حققت الإيرادات غير النفطية نمواً ملحوظاً خلال السنوات 2009 إلى 2012 بمعدل 27%، أي ما يعادل 8% كمتوسط نمو سنوي حسب تصريحات لوزير المالية.
ولا شك أن تراجع الاعتماد على مداخيل الموارد الاستخراجية، برهان يجسد فعلياً بنود الميثاق، وتنفيذ الدولة لالتزامات يفرضها بعيداً عن الشعارات الجوفاء، ويعبر أيضاً عن وعي القيادة الرشيدة بأهمية وضرورة تنويع مصادر الإنتاج الوطني، وعدم الاعتماد على مصدر أحادي للدخل يخضع لتقلبات السوق وعرضة للنضوب في المستقبل، والحرص على توسيع الخيارات أمام المواطن.
وعكست زيادة الإيرادات غير النفطية حرص القيادة الرشيدة على ضمان توفير حياة كريمة للشعب البحريني، عبر فتح المجال للأجيال الجديدة للتعلم والكسب من نشاطات اقتصادية أخرى تتسم بالتنوع والانفتاح، كمصافي التكرير وإصلاح السفن وصناعة الصلب والألمنيوم وغيرها، وهو ما تم تكريسه واقعاً وترجمته فعلياً مع إقرار رؤية البحرين الاقتصادية 2030 الصادرة في أكتوبر 2008، واستراتيجية الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، وهدفت عموماً إلى نقل الاقتصاد الوطني من اقتصاد قائم على الثروة النفطية إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة عالمياً، وبما يضمن حياة أفضل لكافة المواطنين.
ويتمثل التطور الأبرز هنا في تقدم قطاع الخدمات المالية، وبات يعرف به الاقتصاد البحريني ويتميز به، حيث أصبح هذا القطاع بمثابة قاطرة استراتيجية للمملكة لتنويع النشاط الاقتصادي، إذ زاد نموه بشكل ملحوظ خلال الفترة من 2011 إلى 2014، خاصة مع وجود نحو 404 مؤسسة مالية ومصرفية، يعمل فيها أكثر من 80% من مجموع القوى العاملة، وتسهم بنحو 27% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما انعكس على مستوى معيشة المواطن، وارتفع نصيبه من الناتج القومي أو متوسط دخله الفردي من 18.7 ألف دولار عام 2009 إلى 24.153 ألف دولار عام 2013، وفقاً لتقرير صدر لإحدى المؤسسات العربية في نهاية أكتوبر 2014.
الاهتمام بالموارد البشري
وأولت البحرين اهتماماً كبيراً بموردها البشري باعتباره من أعظم الثروات، حسب وصف الميثاق نفسه، وكان لذلك أثره في نمو المعدل السكاني بوتيرة متسارعة خلال الفترة من 2001 إلى 2010، بنسبة بلغت 7.4%، ويغلب على مجموع السكان فئة الشباب الأقل من 20 عاماً بنسبة 42%، في حين أن نسبة كبار السن فوق الـ65 عاماً لا تتجاوز 4.1%، وهو مؤشر مهم للمستقبل، ويعكس قوة وغلبة الفئة العمرية الواقعة بين 20 و64 عاماً، الأكثر قدرة على المبادرة والعطاء والعمل.
وإدراكاً من الدولة لأهمية هذه المؤشرات الحيوية، فإنها لم تدخر جهداً طوال السنوات التالية لصدور الميثاق وحتى الآن، في توفير ما يلزم للمواطن لكي ينمو بقدراته ومواهبه، وبحيث يمكن توظيف هذه القدرات واستثمارها في النهوض بالمملكة ومرافقها الحيوية، حيث لا يتجاوز معدل البطالة في البلاد 3.7%.
ويشار لموقع البحرين على مؤشر تقارير التنمية البشرية والإنسانية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتضع البحرين ضمن فئة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة، حيث حافظت المملكة على ترتيبها طوال العقدين الماضيين، تعليماً وصحة ومساواة ومتوسط دخل وغيرها من مؤشرات وأدلة تعكس الاهتمام بالجوانب الاجتماعية والحياتية للمواطن البحريني.
واستطاعت المملكة خلال الفترة من 1990 تاريخ صدور أول تقرير للتنمية البشرية وحتى آخر تقرير صدر عام 2014، تحقيق العديد من مظاهر التقدم، بالنظر إلى قيمة درجتها في التصنيف العالمي، التي لم تتجاوز عام 1990 أكثر من 0.721، ثم 0.773 عام 2000، وإلى نحو 0.795 و0.805 عامي 2005 و2009 على التوالي، ثم 0.815 أو المرتبة الـ44 عام 2014، وهو جهد يؤشر على أن المورد البشري في البحرين يقع في قمة أولويات ومدركات القيادة، لإيمانها أن المواطن هو أساس التقدم والتطور والنماء، ومن أهم مقومات وأصول المملكة الثابتة، الحالية والمستقبلية، في ظل ما أوجده الميثاق الوطني من أركان، وعززه العمل التنفيذي من مكتسبات ومنجزات.