كتب - عبد الرحمن محمد أمين:
لم يتبق إلا أربعة أعوام ويمر قرن من الزمان على تأسيس التعليم النظامي بالبحرين.. مائة عام انقضت حملت في ملامحها وطياتها هذا الحدث التنويري الذي أضاء الشعلة الأولى نحو انتشار التعليم والتنوير بمنطقة الخليج العربي.. مسيرة علم وتعلم نقل ملحمتها وبطولاتها وأبطالها الأستاذ المشارك بكلية الهندسة بجامعة البحرين الدكتور إبراهيم مطر أمام حضور ومتابعي برنامج جمعية تاريخ وآثار البحرين للموسم الثقافي 61، حول «نحو مئوية التعليم النظامي في البحرين»، وكيف انبثقت فكرة التأسيس، حينها كانت الأمسية نافذة على الماضي حملت بين محتواها البعد التاريخي عن بداية التأسيس، وكيف استطاع الجيل المؤسس من الأوائل وضع الأسس الأولى للتعليم، بل وكيف حافظ الجيل المؤسس على الإرث التعليمي... ولتسليط الضوء على هذه الحقبة الزمنية من تاريخ البحرين اقتربت «الوطن» أكثر من الدكتور مطر ليحدثنا عن أسرارها...
«الخيرية» و«الأهلية»
بدأ الدكتور مطر حديثه موضحاً «قرن من الزمان مر، ومر معه التعليم في البحرين بعدة مراحل، ولعل أبرزها ظهور «الهداية الخليفية» في المحرق، وصدور أول تقرير عن التعليم بالبحرين، وانطلاق تعليم البنات خلال العشرينات، أما خلال الثلاثينات فأقدمت الحكومة لتتولى مسؤولية المدارس الخيرية - الأهلية - ووضعتها تحت إشرافها المباشر، فدمجت شقي التعليم تحت إطار ومجلس واحد، وانطلاق التعليم الصناعي، ولعل أبرز ملامح الأربعينات افتتاح أول مدرسة ثانوية للبنين بالمنامة وسميت بالكلية، وكانت تضم المتفوقين في الابتدائية، وشهدت أيضاً فترة الأربعينات أن حاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة يعين أحمد العمران مديراً للمعارف، وهو أول مدير بحريني يتولى مسؤولية المعارف.
وجاءت فترة الخمسينات ولعل من ملامحها تشكيل مجلس المعارف برئاسة الأمير الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، كما شهدت الستينات افتتاح المعهد العالي للمعلمين والمعلمات، وإنشاء كلية الخليج الصناعية لتتخصص في التعليم الفني والتقني، وانطلاقة أول حفلات عيد العلم، حيث أقيم برعاية سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أما فترة السبعينات، فقد شهدت تشكيل أول وزارة للتربية والتعليم في البحرين بعد الاستقلال، وشهدت أيضاً تطوير معهد المعلمين والمعلمات ليصبح الكلية الجامعية للآداب والعلوم والتربية، وخلال الثمانيات، أعيدت تسمية كلية الخليج الصناعية لتصبح كلية الخليج للتكنولوجيا، وبدء المؤتمرات التربوية السنوية، وتأسيس جامعة الخليج العربي بالبحرين، وبعد قرار للمؤتمر العام لمكتب التربية العربي لدول الخليج عام 1979، كما شهدت الثمانينات أيضاً تأسيس جامعة البحرين بضم كليتي الخليج للتكنولوجيا والكلية الجامعية للآداب والعلوم والتربية، وخلال التسعينات، تم إنشاء معهد البحرين للدراسات المصرفية.
انطلاق الميثاق
وأضاف مطر، جاءت الألفية الثانية وحملت معها انطلاق الميثاق، والذي من خلاله بدأ تنظيم تعدد الجامعات والمعاهد بالبحرين، وتأسيس أول مجلس متخصص في شؤون التعليم العالي، وهو مجلس التعليم العالي، وظهور قانون للتعليم، وخلال التسعينات، تم إنشاء معهد البحرين للدراسات المصرفية، وجاءت الألفية الثانية، وحملت معها انطلاق الميثاق، ويعد التعليم أهم ركائز التحول المجتمعي بالبحرين، فبالتعليم تحول نمط العيش بالبحرين من شكل لآخر، وخلال فترة ليست بالطويلة، تحول من نمط مجتمعي كان يعيش على خيرات البحر واليابسة والبستان إلى مجتمع يعيش على موارد أخرى مثل النفط وحركة الاقتصاد والصناعة والاتصال، ولاشك أن طبيعية المجتمع البحريني هو العنصر المساعد الأول على هذا التحول، فهو مجتمع ذو طبيعية مميزة ساعدت على هذا التحول، ويعتبر التعليم من أكبر قطاعات المجتمع ديناميكية والبحرين سجلت سبقاً في هذا القطاع قبل بداية القرن التاسع عشر نسبة إلى دول الجوار، ومن الإشارات الجلية على ريادة البحرين في التعليم والتنوير بالمنطقة تأسيس التعليم الصناعي منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، حينها كانت الأقطار المجاورة بالكاد تتلمس خطواتها الأول نحو التعليم النظامي العام، وعند الحديث عن تاريخ هذا القطاع الزاهر، لاشك أنك سترى تاريخاً ملوناً بتفاصيل دقيقة وصوراً ومشاهد ناطقة وربما مرئيات قد حفظ الأوائل هذا التاريخ من خلالها للأجيال اللاحقة، وتعتمد منهجية تقديم هذا المحتوى على الوقوف عند عدد من المراحل المهمة خلال 100 عام الماضية من مسيرة التعليم المضيئة، مما لا شك فيه أن هناك عدداً ملموساً من المحطات والوقفات خلال مسيرة التعليم والتي بحق ساعدت في تغيير وجه الحياة بالبحرين وبالإمكان اختزالها على النحو التالي:أولاً: ما قبل التعليم النظامي: وهنا نتحدث عن المدارس أو المعاهد التي خرجت قبل إنشاء مدرسة الهداية الخليفية خلال 1890 إلى 1919، وثانياً: بعد بدء التعليم الرسمي الذي بدء عام 1919: وهنا نتحدث عن ما بعد إنشاء الهداية الخليفية حتى تدفق النفط عام 1932 خلال أي الفترة الممتدة خلال 1919 إلى 1932، وثالثاً: تجارة اللؤلؤ وتدفق النفط إلى سنوات الاستقلال في بداية السبعينات: ويمكن أن نطلق عليها مرحلة بناء التعليم بمراحله المختلفة وربطه مع متطلبات التنمية آنذاك، أي خلال 1932 إلى 1971، ورابعاً: مرحلة ما بعد الاستقلال إلى ما قبل التصويت على ميثاق العمل الوطني: ويمكن أن نطلق عليها مرحلة تشكل واتساع وتنوع التعليم خلال 1971 إلى 2001، وخامساً: ما بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني وإلزامية ومجانية التعليم وكفل الخدمات التعليمية والثقافية: وهي مرحلة ضبط التعليم، وظهور وتنوع والتوسع مؤسسات للتعليم العالي خلال 2001 إلى الوقت الحاضر.
تأسيس التعليم الرسمي
وأوضح مطر، أنه واختصاراً لحجم المعلومات هنا، فسنلقي الضوء فقط على المرحلة الأولى، وهي مرحلة ما قبل وحتى تأسيس التعليم الرسمي بالبحرين، وهي الفترة الممتدة خلال 1890 إلى 1919، كما سنمر سريعاً لمرحلة ما بعد بدء التعليم الرسمي، وهي بدء انحسار اقتصاد اللؤلؤ وتدفق النفط، أي خلال الفترة من 1921 إلى 1932 إجمالاً، وبدأ التعليم نظامياً بمنطقة الخليج العربي مع طلائع القرن التاسع عشر، والبداية كانت بالبحرين حين بدأ بمحاولات ومدارس ونمط غير رسمي حتى قبل عام 1899، أما في الكويت، فكانت بداية التعليم الرسمي عام 1912، وفي قطر عام 1913، وفي سلطنة عمان عام 1930، وفي المملكة العربية السعودية عام 1932، وفي الإمارات العربية المتحدة بدأ تطور التعليم بصورة فعلية عام 1962، والبحرين من أولى دول المنطقة التي بدأت تعليمها قبل النظامي قبل 1900، والتعليم حينها كان مقصوراً على بيوت الكتاتيب «المطوع»، وهي مواقع تعليمية تقليدية هدفها الأساسي تعليم قراءة القرآن للناشئة.
المدارس الوقفية
وأشار مطر إلى، أنه وفي البداية بدأ التعليم ليلبي مرحلة الاقتصاد المعتمد على تجارة استخراج اللؤلؤ من هيرات البحرين وبيعه، وهي مرحلة يمكن وصفها بأن تتطلب تعليم علوم الدين والشرع والقليل من القراءة والكتابة والحساب، وهي مرحلة الكتاتيب أو المطوع، واتصف التعليم حينها بتعليم نتج خلال عدة محاولات أهلية وخيرية نتج بعدها التعليم النظامي، وتذكر مصادر ومراجع الاقتصاد الأولية أنه مع نهاية القرن التاسع عشر كانت الحرف الأساسية مثل الزراعة وصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ هي الأنشطة الأساسية للعيش لساكني البحرين، كما كان يوجد نشاط تجاري محدود، وكانت تجارة اللؤلؤ تشكل المحرك الرئيس لاقتصاد سكان للمناطق الساحلية في منطقة الخليج العربي على مدى عشرات السنين، ولقد صاحب التجارة في قطاع اللؤلؤ والتجارة فيه، الحاجة لعدد من مفاهيم الحساب والقراءة، الأمر الذي جعل التجار في ذاك الزمان يبعثون أولادهم لتعلم الحساب والقراءة و شيء من الكتابة عند الكتاتيب، وخلال هـذه الفترة، وهي فترة اعتماد المجتمع آنذاك على البحر والبستان، شهدت البحرين بشكل عام انتشاراً واضحاً لدور تعليم القرآن أي المطاوع والكتاتيب في المدن والقرى، حيث كان المطوع يتولى تعليم القراءة والكتابة والحساب انطلاقاً من تدريس القرآن، وأذن البداية بالكتاتيب، مع نهاية القرن الثامن عشر كان عددها يفوق 30 منتشرة في عدد من مناطق وقرى البحرين، وبمعناها المجرد، فالكتاتيب عبارة عن غرف لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن، وكان قبول الأولاد والبنات حتى سن 10 دون تمييز ودون النظر إلى المستوى أو الوضع الاجتماعي، أما الكتاتيب فتطورت في ذاك الزمان، فأصبحت تقدم تعليم مبادئ الحساب واقتصر على أبناء الأغنياء والتجار، وللأولاد فقط دون البنات.
الملا والمطوع
وذكر مطر، أن تلك الفترة شهدت ظهور عدد من المدارس الوقفية التي تعلم مبادئ الدين والفقه والأخلاق وشيء من الكتابة مثل مدرسة حسين بن مطر الوقفية في وسط المحرق، ولعل أشهر من درس فيها القاضي الشيخ عبداللطيف الجودر، ومدرسة حسن بن خاطر، ومدرسة سعيدة بنت بشر «الغتمان»، ومدرسة بن هندي، ومدرسة علي بن إبراهيم الزياني، وفي هذا الصدد، أشار المؤرخ مبارك الخاطر إلى وجود مدارس دينية قبل التعليم النظامي، وأن هذه المدارس تتمتع باستقلالية في مواقعها ومساجدها وشؤونها المالية، ولها أيضاً حجج وصكوك وتضخ بالصدقات والهبات من المحسنين، وهناك أيضاً مدرسة عبدالوهاب الطباطبائي وعبدالله بوراشد، ومدرسة يوسف بن أحمد بابيع، ومدرسة الرستاقي ومدرسة أحمد المهزع، وكانت بعض المدارس تعلم أيضاً الخط والكتابة والحساب، إضافة إلى القرآن الكريم، وفيما يخص الكتاتيب أيضا، فإنه قبل بدء التعليم النظامي بالبحرين كانت الدراسة مقتصرة على تعليم القرآن واللغة العربية ومبادئ الحساب عند الكتاتيب، وكان الأولاد يتلقون تعليمهم عند الملا أو المطوع، بينما البنات عند المطوعة، وكل هذا نظير مبلغ مالي صغير، بعدها يعطى الملا مبلغاً آخر متفق عليه عندما يختم الطالب القرآن بالكامل، ويعطى المطوع أيضاً العيدية والفطرة زكاة الفطر، وكان المطوع يستخدم أسلوب الضرب والتهديد والوعيد لترهيب الأولاد، وكانت الكتاتيب تنتشر في مدن وقرى البحرين، فقد تركزت أهم الكتاتيب بمدينتي المنامة والمحرق، والحد، وقرى الخميس وسترة والدراز و جدحفص، وحملت على عاتقها واجب ومهمة تنشئة النشء وتزويدهم بالمعارف الدينية التي يحتاجها المجتمع في ذلك الوقت، وهي المتمثلة في تعليم القرآن وحفظ أجزائه الثلاثين، إلى جانب شيء يسير من التفسير والواجبات الدينية، وعندما ينهي الخاتم -أي المتخرج- دراسته لحفظ القرآن الكريم بأجزائه الثلاثين كانت تقام له قراءة بالختمة، وهي بمثابة حفل التخرج، ويمر موكب التخرج هذا يتقدمه الخاتم الذي أنهي قراءة القرآن، إذ يرتدي الخاتم أجود ما عنده من الملابس التقليدية بالبشت والعقال، وقد يمسك سيفاً بيده اليمنى يرافق الطالب الخاتم معلمه وبقية أقرانه فيمرون على بيوت الحي، عندها يقوم الأهالي بدورهم بتقديم بعض النقود والتي هي بمثابة هدية البيوت للتخرج تكريماً وتقديراً منهم لطلاب العلم وأساتذتهم، ولقد جرت العادة أن يقوم المرافقون من الأقران في الموكب بترديد التحميدة تقرأ من كتاب صغير، وفي إطارها اللغوي فإن التحميدة تتكون من نظم شعري موزون، وعند كل بيت ومطلعها «الحمد لله الذي هدانا، للدين والإسلام واجتبانا، سبحانه من خالق سبحان، بفضله علمنا القرآن .... حتى النهاية»، واستمرت الكتاتيب في البحرين خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وأستطيع الجزم أنَّه منذ مطلع عقد الخمسينات بدأت الكتاتيب في التلاشي والاختفاء نظراً لانتشار المدارس الحكومية في مدنِ وقرى البحرين.
والدكتور إبراهيم مطر خريج جامعة ردينج بالمملكة المتحدة، عام 1995 تخصص تكنولوجيا الروبوتكس والسيبربنتكس، ويعمل أستاذ مشارك بكلية الهندسة بجامعة البحرين، ولديه هواية الإلمام بتراث البحرين، ويحتفظ بمجموعة كبيرة من الصور التي تحكي تاريخ البحرين على مر العصور، وصور لأفراد كانت لهم بصمات بارزة فيما وصلت إليه المملكة في الوقت الحاضر.
ونستكمل الحوار مع الدكتور إبراهيم مطر في الحلقة الثانية ...