بقلم - الشيخ عدنان بن عبدالله القطان: أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعزّ الله به الإسلام، قال ابن مسعود رضي الله عنه (كان إسلامه فتحاً، وهجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر) وهاجر جهراً، وشهِد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والمشاهد كلَّها، وهو أوّل خليفة دعِي بأمير المؤمنين، وأوّل من كتب التاريخ للمسلمين، وأوّل من جمع القرآن في المصحف، وأوّل من جمع الناس على صلاةِ التراويح، وأوّل من طاف بالليل يتفقّد أحوالَ المسلمين، حمل الدّرّة فأدّب بها، وفتح الفتوحَ، ووضع الخراجَ، ومصَّر الأمصار، واستقضَى القضاة، ودوّن الديوَان، وفرض الأُعطية، وحجّ بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حجّةٍ حجّها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما أنا نائم أوتيت بقدح من لبنٍ، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلِي عمرَ بن الخطاب)، قالوا: فما أولتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: (العلم). وقال صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدِي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: (الدين). دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كلّ جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق، سبحان الله! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟! قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذكِر الصالحون فحيّ هلا بعمر، إنّ عمرَ كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، كان عمر شديد الخوف من ربّه، عظيم الخشية له، وكان يقول: (لو مات جديٌ بطفّ الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر). كان شديد الخوف من الله تعالى حتى حفرت الدموع خطين أسودين في وجهه من كثرة البكاء، ومن خاف الله تعالى أخاف الله منه كل شيء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك). لقد جعل الإسلام من شدة عمر رضي الله عنه شدة في أمر الله، اهتزت لها عروش الجبابرة، فرَقت منها قلوب الشجعان، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء على صحابته الكرام: (وأشدّهم في أمر الله عمر)؛ حينما كان يغلظ على أعداء الله، ويغضب لحرماته، وينطق بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم . لما ولي عمر الخلافة سار بأحسن سيرة وقال للناس: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف. كان في مدة خلافته من أشد الناس زهداً وتواضعاً في لباسه وطعامه ومركبه، يلبس الخشن من الثياب، ويأكل الخشن من الطعام. ولما ذهب إلى الشام ليستلم مفاتيح بيت المقدس ذهب وثوبه مرقع ومعه حمار يتناوب ركوبه هو وغلامه، وجاء عليه الدور ليمشي عند الوصول فأصر على أن يدخل على وجهاء الشام ماشياً وغلامه راكب. ولما قدم وفد المسلمين ومعهم الهرمزان -وكان قائداً من قواد كسرى- دخلوا على عمر وقد نام في المسجد وتوسد برنساً كان قد أعده لاستقبال الوفد فجعل الهرمزان يقول: أين عمر؟ قالوا: هو ذا ويخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه وجعل الهرمزان يقول: أين حُجّابه؟ وأين حرسه؟ قالوا: ليس له حجاب ولا حرس ولا كاتب، فقال: هذا ينبغي أن يكون نبياً، فقالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء، وقد أسلم بسبب ذلك الهرمزان. وكان هذا الإمام العظيم من أكثر الناس تحسساً لأحوال الأمة، وتفقداً لأخبارهم؛ لكي يعينهم ويسد جوعهم ويقضي حوائجهم، فقد ذكروا أنه كان ذات ليلة يعس في المدينة، فأتى على امرأة من الأنصار تحمل قربة، فسألها عن شأنها، فذكرت أن لها عيالاً، وأنه ليس لها خادم، وأنها تخرج في الليل فتسقيهم الماء، وتكره أن تخرج بالنهار، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، وقال: اغدي على عمر غُدوة يُخدِمك خادماً، فقالت: لا أصِل إليه، فقال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى، فغدت عليه فإذا هي به، فعرفت أنه الذي حمل قربتها، فذهبت تولي، فأرسل في أثرها وأمر لها بخادم ونفقة. كان عمر بن الخطاب يتعاهد الأرامل فيسقي لهنّ الماء بالليل، فرآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مُقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟! قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثراتِ عمرَ تتبَع. وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي إذ بامرأة في جوف دارٍ لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال : فما هذا القِدْرُ الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أُعلّلهم به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئًا، فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غِرارة (أي حقيبة)، وجعل فيها شيئًا دقيقًا وشحمًا وسمنًا وتمرًا وثيابًا ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: يا أسلم، أحمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك، فقال: لا أمّ لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا... جاءه يوماً أعرابي قد قرص الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، و يقف على رأسه ويقول: يا عمر الخير جزيت الجنة أكسِ بنياتي وأمهن.. وكن لنا في ذا الزمان جنة.. أقسم بالله لتفعلن.. قال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأمضين، قال عمر: وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال: والله عنهن لتسألن يوم تكون الأعطيات منة.. وموقف المسؤول بينهن إما إلى نار وإما إلى جنة، فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته، ثم قال: يا غلام أعطه ردائي هذا لذلك اليوم لا لشِعرِه، أما والله لا أملك غيره.. أيها الإخوة الأحبة: كان عمرو بن العاص والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذًاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، لماذا يضربه؟ فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنّينا أن يرفع عنه.، ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: منذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني. تلك هي عدالة عمر، وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ! وكان الخليفة العادل والإمام الكامل، يقضي بالحق على نفسه وأهله وعشيرته، ويسوّي بين الناس، ولا يحابِي ولا يجامِل. ثبت في الصحيحين أنه أعطى المهاجرين الأوائل أربعة آلاف درهم، وأعطى ابنه عبدالله ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: إنه كان من المهاجرين الأوائل، فقال: إنما هاجر به أبوه. وتستمر مسيرة عمر الخالدة، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعًا، فحلف عمر أن لا يأكل سمينًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان يبكي ويقول: الله يا عمر، كم قتلت من نفس؟ وهل قتل عمر أحدًا؟! لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس... وقف على المنبر يوم الجمعة ببُرْده المرقّع، وأثناء الخطبة قرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين). قال أسلم : كنا نقول: لو لم يرفع الله سبحانه وتعالى الضائقة عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين. لا زالت الدّنيا ترزى بموت الأخيار، وتبلى بوفاة الأطهار، وتأتي نهاية عمَر بالموت كما هو سبيلُ كلّ حيّ سوى الله، بل أكرمه الله عز وجل بالشهادة في سبيله، فبينما عمر يصلّي بالناس صلاةَ الفجر، إذ طعنه أبو لؤلؤةَ المجوسي لعنه الله، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه... ودفن رضي الله عنه في الحجرة النبوية مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد أن استأذن من عائشة رضي الله عنها فأذنت له، وقد كان رأس أبي بكر بمحاذاة كتف النبي صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر بمحاذاة وسط النبي صلى الله عليه وسلم. (فهنيئاً لهما بهذا القرب، وبهذه المحاذاة الشريفة في الحياة وبعد الممات وفي الجنات) رضي الله عنه وعن أبي بكر وعن جميع الصحابة والآل من المهاجرين والأنصار... قال علي بن أبي طالب: وعمر يكفن قبل أن يصلى عليه: (والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجل إلا بعمل رجل مثلك) وجاء في نهج البلاغة وعند الطبري: أن الإمام علي رضي الله عنه مدح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موته قائلاً: لله بلاء عمر، فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وأمات الفتنة! خرج نقي الثوب، بريًا من العيب، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي) وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنا آخركم عهدًا بعمَر، دخلتُ عليه ورأسُه في حجر ابنه عبدالله، فقال له : ضع خدي على الأرض، فقال عبدالله: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟! فقال عمر: ضع خدّي بالأرض لا أمّ لك، وسمعتُه يقول: ويلي وويلَ أمّي إن لم تغفِر لي حتى فاضَت نفسه، رضي الله عنه وأرضاه. عباد الله :هذا هو عمر الذي عجَزت نساء الدنيا أن يلدنَ مثله، وقصرت أرحامهن أن تخرج لأرض رجلاً على شاكلته. ما بلغ عمر وأصحابُه ما بلغوا إلاّ بهذا الدين الذي أعزّهم الله به، ورباهم رسول الله عليه، ومن أراد أن يدرك الركبَ فليأخذ بما أخذوا، وليلتَزم ما التزموا، ومن يفعَل ذلك فقد هدِي إلى صراط مستقيم... فهل عرفتم - يا شباب الإسلام - سيرةَ عمر؟! وهل تأملتم صدقه وإيمانه؟! وهل عايشتم شجاعته وإقدامه؟! فهل يسرّكم أنكم لهوتم ولم تتعلموا هذه السيرة العطرة؟! وهل يسركم أنكم نمتم ولم تطالعوا هذه الأخبار المضيئة؟! عودوا إلى التاريخ وتعلموه وعلموه الأجيال، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ). يا شبابنا: إن عمر رضي الله عنه مثالكم في صدق الإيمان، وعظيم الجهاد، وشدة البأس، وجميل الخصال، وهو منهاجكم في التواضع والخشية ودوام التزهد والمراقبة، فاقرؤوا سيرته، وطالعوا أخباره، فإنها العجب العجاب، والمنهل الروي المُستطاب. ^ خطيب جامع أحمد الفاتح الإسلامي ورئيس محكمة الاستئناف العليا الشرعية
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}