العذراوات يفضلن النوافذ
على الأبواب والأشياء الخجلى تخبئ أحلامهن
النوافذ تمارس الشهيق
والزفير ومخترعها وضع بحساباته أموراً كثيرة
«حقل» مدينة تأخذ منك الحب عنوة وتمنحك في المقابل آمالاً وأحلاماً
إذا رحلت عنك القوافل فاجعل لنفسك قافلة مقيمة يقف بها المارون



كتب ـ علي الشرقاوي:
ترسم قسمة العمراني لقريتها «حقل» حدوداً عند حواف نهاية العالم، لا تلبث أن تمحيها وتشرع أبوابها على الكون الفسيح، وتقول عن قريتها «حقل مدينة تأخذ منك الحب عنوة، وتمنحك في المقابل آمالاً وأحلاماً».
في كتابها «القرية التي هي حاضنة البحر»، تزرع قسمة قريتها الوادعة المستلقية شمال المملكة العربية السعودية نجمة في سماء العالم، تناجي طرقاتها، أبوابها ونوافذها المفتوحة أبداً، ترتلها مثل تعويذة وتغنيها قصيدة.
«إذا رحلت عنك القوافل المارة فاجعل لنفسك قافلة مقيمة يقف المارون بها»، هكذا جعلت قسمة من «حقل»، ملتقى للمارين والذاهبين إلى أصقاع الأرض، يرتاحون في أفيائها، يأكلون ويمرحون، ثم يجمعون المكان داخل أمتعتهم ويغادرون وعيونهم تتطلع إلى الخلف.
الخروج عن المألوف
العام الماضي 2014، عملت قسمة العمراني على محاولة إطلاق الروح التواقة إلى الأجمل والأروع والأدهش، إطلاق روح قريتها وجعلها تنطق بما لم تنطق قبلاً، تقول ما لم تقله في كل تاريخها.
قبل الدخول إلى القرية، علينا التعرف عليها بصورة شبه بانورامية، من أجل أن نكون أكثر قرباً من قلب الشاعرة وهي تتحدث بمثل هذا العشق لمكان غير المعروف لنا من قبل، ولهذا ارتأينا التعامل مع الموسوعة الحرة التي تقول الأهمية السياحية.
يبلغ عدد سكان محافظة حقل قرابة 30 ألف نسمة، ويتميز طقس المدينة بالاعتدال في فصل الصيف والشتاء، وفي المساء تستطيع أن تشاهد مدن العقبة الأردنية وأيلات «أم الرشراش» المحتلة وطابا المصرية، أيضاً تفوح منها نسيم بارد خلال الصيف ما يزيد الروح جمالاً.
القرية «حاضنة البحر»
قسمة العمراني تخرج أوراقها التي تتناولها، من حقيبة العمر لتحتفظ بها في صناديق الذكريات وتهديها لملفات التاريخ، واختارت عنواناً لابد أن يستوقف كل قارئ «القرية التي هي حاضنة البحر».
تلعب قسمة باللغة كما يلعب همس البحر باليابسة، وترسل الإضاءات ملخصة عوالم سكان القرية وأحلامهم وطموحاتهم، وما جرى لشخصيات عاشت مرارة التجارب الحياتية وتمسكت بالأحلام لتتحرك في الجهات الخمس.
الكتاب مختلف في الحجم، مختلف في الطباعة، مختلف في أسماء الفصول، إنه محاولة جادة للمؤلفة، الشاعرة، الراوية المتحدثة باسم كل حقلاوي إن جاز التعبير، حالمة أن تعيد إلى القرية مكانتها المسروقة لأسباب لا حصر لها، خلف الكلام المنطوق الكثير الممتد على مساحة 248 صفحة، من الكلام المسكوت عنه وعليه، لذلك ترى الكثير من الحيوات في حياة الشخصيات، وهي تطرحها أمامك -لتحاول أنت كقارئ أن تكمل جملاً لم تقلها- وتفتح أبواب خيالك، بالأحرى أقول الشبابيك، لتلاحق حركة الحياة، في هذا المكان الأكثر هدوءاً من الخارج، والأكثر ضجيجاً من الداخل.
تقول الكاتبة «القرية التي هي حاضنة البحر، قرية تقع على آخر حدود الاستيطان وأول حدود الاغتراب والهجر، قررت أن تحضن البحر ذات لقاء فحضنتها الوداعة، وتفيأها الجمال والهدوء، لكي تكتب عنها يلزمك عمراً من الحياة فيها، ومعرفة بكل خباياها، وإلماماً كبيراً بتاريخ من استوطنوها وعاشوا بها، وعندما يؤرّخ للمدن من خلال تاريخها الإنساني والاجتماعي، فإن المهمة ستكون أصعب، فالأمر لا يتطلب الخضوع لمعلومات تاريخية موثقة، بل لقدرة عقلية ذاتية على تحليل الأمور والأحداث وربطها، بالوقائع الحاصلة والحوادث المعاشة على أول حدود الانتماء وآخر حدود الاعتناء، عن قريتها المدينة البلاد العالم».
تقع معشوقة الغيم عروس الجمال، حاضنة البحر ومرضعته، كم حضنت هذه المدينة القرية، أو لنقل القرية التي ترتدي ثوب المدنية، من الوجوه العابرة والمقيمة؟ وكم مر بها ومشى على أرضها من أناس وكم ماتوا؟ مدينة باذخة البراءة تلف كل وجوه الحياة على خاصرتها، هي المدينة البكر الثيب في آن وهي المدينة الفتية القادمة من بوابة تاريخ العشق والحياة.
هناك تجدونها مرفأ للفكر، ومحطة للأمل ومنجماً للعطاء الذي لا ينتظر مقابلاً، هناك هي صدراً حنوناً يحتضن الغريب في أولى خطوات عبوره، من هذا الجزء لصحرائنا الكبيرة، وهي نافذة لكثيرٍ من الدول والثقافات المجاورة، عندما تجلس على رمال شواطئها تنسى كل شيء خلفك، إلا هدوءك حيث تجد متسعاً منه لتمنح نفسك فرصة لإعادة ترتيب أوراقك من جديد والتصالح مع ذاتك!
نوارس البحر تحلق فوق مياهها كل مساء، و تغازل أمواجها أشعة الشمس كل صباح كانت لنا بها أحلام و آمال وقد كنت ومازلت، أعتقد أنها وجدتني داخل إحدى صدفاتها الثمينة، في رحلة غوصها لاستخراج اللآلئ!
اللوكيشنات بدلاً
من الفصول
وكعادة المبدعات الخارجات عن الأطر التقليدية في الكتابة، استخدمت الكاتبة تجربتها وقراءاتها ومتابعاتها وعينها السينمائية، لتضعنا في محطات المكان، حيث اللوكيشن «الموقع»، يدل على المكان الذي تنطلق منه حركة شخصياتها، وقدمت الكاتبة العديد من الشخصيات ما أن يتعرف عليها القارئ حتى تسكنه كما سكنت قرية حقل كل خلية من خلايا الكاتبة، شهيق النوافذ وزفيرها، وقسمة العمراني يمكن أن تكون أول من كتب عن علاقة الأبواب والنوافذ والفروقات الأنثوية بينها إن جاز التعبير.
تقول الكاتبة «الأشياء الخجلى دائماً تحاول أن تخبئ كثيراً منها أحلام البنات العذراوات من الاشياء التي يرزمها الخجل كثيراً، لذا هي تفضل النوافذ على الأبواب».
وتضيف «النوافذ مهمتها ممارسة الشهيق والزفير، وكثير من الأشياء تجد في النوافذ متنفساً لها، عندما ثقبت في الجدار لأول مرة، بالتأكيد أن صاحب الفكرة لم يخترعها من أجل التهوية فقط، بل وضع في حساباته أموراً أخرى» .
توقفت عند الكثير من القصص نقلتها الكاتبة بأسلوبها الشيق الجميل عن قريتها الكونية، من «لمى والذئب» و«المرأة التي كسرت رجلها»، وقصة «على غصن الانتظار» و«عناية الله» و«عاتكة».
هي مدينة تأخذ منك الحب عنوة، وتجعلك متعلقاً بها لتمنحك في المقابل آمالاً وأحلاماً تراودك في أمواجها وعليك أنت اصطيادها رغم الهدير، والسعي في ممرات تلك القرية، قد يهبك شيئاً من التفاؤل وقد يرديك طريحاً في غيابات اليأس، «هناك في قريتي حيث لا فرصة، أنت وحدك من يحمل على عاتقة أسباب نجاحه أو فشله، وحدك من يسير في طريق طويل يلزمك له كثيراً من الصبر وكثيراً من الخطر مع ساكنيها»، تقول امرأة على آخر حدود الأرض وتضيف «إذا رحلت عنك القوافل المارة ولم تجد لك بها مكاناً، فاجعل لنفسك قافلة مقيمة يقف المارون بها»!
ونقتطف من الكتاب «هكذا هي قريتي عبرتها كل قوافل التطوير والاعتناء، ولم يتوفر لها بها مكاناً رغم إنها تواقة للسير في ركبها فقررت، أن تجعل لنفسها قافلة مقيمة يقف العابرون بها فكان لها ما أرادت!
قريتي الصغيرة طفلةٌ معجونة بالبراءة تلبس ثوب التلقائية والطفولة، يجملها الذكاء الفطري كل صباح تشرق الشمس على محيا أطفالها فيمارسون نزقهم بمنتهى العفوية.
فقيرة الحظ تلك القرية غنية المكارم سخية البذل، زارها الشتاء ذات موسم فلحفته أضلعها، وقالت له أقم هنا بعد أن كومت فوقه معاطف الدفء، وأهدته معازف الروح.
وعندما قدم إليها الصيف في موكبه، يرافقه بعضاً من حاشيته استعانت بابن عمها البحر، وقالت له أجلب عليهم بخيلك من خيرك دسماً ولؤلؤاً ونسيماً!
الحب يرسمها شطره ذات إعجابٍ انتهى بعلاقة، فأتت إليه كما ينبغي لقلب لا يجيد سوى لغة الوداد، وأقامت صلواتها في محرابه مقدمة له كل فروض الولاء والطاعة.
تشكلت بحب مع الجغرافيا عندما أهدتها موقعاً لا يضاهى، وجغرفت كل تضاريس الجمال في محياها، حتى بدت كطفلةٍ، تلوح بوجه صبوح في طابور مدرسي طويل تجذبك بابتسامة، من فم يضيق بين غمازتين مكث الكرز طويلاً وهو يبحث عنهما، ليجعلهما فاكهته المفضلة، الحب أيضاً جعلها في المقدمة وحجز لها مقعداً متقدماً على درجات الينبوع الروحي، فباتت تبث الحياة في أوردة التراب، كل شيء عشقها وهام بها وجداً، وتكدس فيها حباً.
وحده الحب من علقها وساماً على صدره، وحده الحب من يربت على كتفها ويأخذ بيدها إلى حيث تنوي، وحده الحب من يضيء لها عتمة الطرقات، وحدها هناك ترقب قادماً لا يأتي، ولايزال الحب هناك ممسكاً بيدها ولاتزال على وفاء منذ لثغة الحرف الأولى، وأنا أرتل تلك القرية، في كاتدرائيات الكلام ومنذ نبضة القلب الوجلى، وأنا أتلوها عشقاً في محراب الوفاء.
في قريتي يلزمك شيئاً من التأمل، كثيراً من الصمت وقليلاً من الكلام، الكلام هناك بحساب وأيضاً له ميزان يمر عليه كلامك شئت أم أبيت، لذا يجب أن تقول ما يرجح كفته، حتى وإن قل يجب أن يدل، في قريتي لا تكن كما أنت، أو كما تتمنى أن تكون، بل كن كما يتمنون هم ويشتهون.
الكل هناك يتربص بك، ريب المنون، مازال في جعبة قريتي الكثير من الكلام الذي تود قوله، وتأمل أن يكون مفيداً ومازالت ممراتها تطلب المزيد منه».
سيرة قسمة
قسمة العمراني شاعرة وكاتبة سعودية معاصرة، من مواليد مدينة حقل الواقعة على رأس خليج العقبة في أقصى شمال غرب السعودية، وتنحدر من قبيلة العمران إحدى عشائر الحويطات.
نبذة عن الشاعرة والباحثة قسمة العمراني، كل هذه الأسفار الجميلة في سموات المحبة والخير والعطاء، هي زادنا من هذه الرحلة المحفوفة بالجمال الداخلي والخارجي، درست المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة حقل، وأكملت دراستها الجامعية في مدينة الرياض، وتخرجت منها عام 1414 هـ ـ 1415 هـ، تعمل في مجال التعليم في مدينة حقل منذ العام 1416هـ.
تميزت منذ الصغر بحبها للأدب والشعر والخطابة، ورافقت المنابر الإعلامية منذ نعومة أظفارها، حيث كانت دائمة المشاركة في الأنشطة المدرسية من إذاعة وتمثيل وغيرها وبرزت بشكل لافت بين قريناتها في الرسم والخط والتصميم والخطابة وغيرها، وكانت عموداً فقرياً في الإذاعة الصباحية والاحتفالات المدرسية طوال مراحل دراستها، واستمرت برفقة المنابر أثناء الدراسة الجامعية وإكمال مسيرة عشقها للكتابة والإعلام من خلال الصحافة وبعض وسائل الإعلام المسموعة. بدأت النشر منذ بداية المرحلة الثانوية من خلال صفحات القراء عبر مجموعة من المطبوعات السعودية كجريدة الرياضية ومجلة اليمامة وغيرها، إلى أن حررت العديد من الزوايا في مختلف الصحف الرسمية كصحيفة الرياض والجزيرة وعكاظ والبلاد منذ المرحلة الجامعية، ومازالت تتعاطى عشق الكتابة من خلال وسائل النشر.
برعت في مجال كتابة القصيدة النبطية والمقالات الأدبية، وهي تتواجد بشكل دائم ومستمر من خلال كل قنوات النشر سواء الورقية أو الإلكترونية كالمنتديات والفيس بوك وتويتر، وسجلت تواجداً مكثفاً ومميزاً من خلالها، اشتهرت باسم «ساقية عطر» والذي يحمله ديوانها الشعري، ونعتت مدينتها حقل باسم «حاضنة البحر»، وانتشرت تلك التسمية على مدينة حقل مسقط رأسها حتى أصبحت مرادفة للاسم الأصلي. شاركت لأول مرة في مهرجان الجنادرية أثناء المرحلة الجامعية في الذكرى المئوية لتأسيس المملكة العربية السعودية، وأحيت أمسية في مركز الأمير سلمان الاجتماعي بالرياض، وفي مهرجان تبوك الصيفي بأمسية شعرية بمركز الأمير سلطان الحضاري عام 1425هـ، وكانت الأمسية النسائية الأولى على مستوى المنطقة وأيضاً المركز، وفي مهرجان الطائف السياحي تحت رعاية إمارة الطائف عام 1426 هـ، ومهرجان الجنادرية لعام 1431هـ، ومهرجان الجنادرية لعام 1432هـ، وفي العديد من الأمسيات الشعرية في مختلف مناطق المملكة، والعديد من اللقاءات الإذاعية والصحفية والملتقيات الثقافية والفكرية.
إصداراتها
- إصدار تعليمي بعنوان «حقل التنوير» يتناول مسيرة تعليم البنات بمحافظة حقل منذ البدايات، وهو الإصدار الأول بهذا الشأن على مستوى المحافظة.
- ديوان شعر عامي بعنوان «ساقية عطر».
- مذكرات اجتماعية فلسفية بعنوان «القرية التي هي حاضنة البحر».
- رواية بعنوان «أقدام بلا طريق».
- تحرير العديد من الزوايا والأعمدة الصحافية في العديد من المطبوعات الورقية والإلكترونية منها «أربع ورقات حب» في جريدة البلاد، و«صمت في ثرثرة» في جريدة عكاظ، و«بكل الحب» في مجلة مشاعر، و«ساقية عطر» في مجلة اليمامة وبعض الصحف الإلكترونية وغيرها.
- المشاركة بكتابة النشيد الترحيبي بمناسبة زيارة خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الأولى لمنطقة تبوك بعنوان «صباح الشوق ياوطني» باللغة العربية الفصحى ضمن مشاركة إدارة التربية والتعليم في احتفالات الزيارة.
- إذا غادرتك القوافل المارة ولم تجد لك مكاناً بها، فأصنع لنفسك قافلة مقيمة يقف العابرون بها.
- عندما تضعك الأقدار في خانة الحزن اجعل أوجاعك على يسارك كي لا تشكل رقماً كبيراً في رصيدك.
- منذ لثغة القلب الأولى وأنا أرتل نبضي شعراً في معابد العشق.
- كل الأشياء التي عبرتني وأنا لا أعلم أحاول عبورها وأنا أعلم.
- أقداح المساء لا تمنح نشوتها لمن تنتظرهم طوابير الصباح.
- الصمت لثام يواري سوءة الكلام فلا تميطونه عن ألسنتكم.
- وحدي في ممرات الذاكرة جميعهم في ممرات القلب.
- مفاتيح الحاجة قادرة على فتح الأبواب المؤصدة.
- يوماً ما سأغادر منصة الحياة دون رجعة.
- مازالت أمنياتي مسرجة على طهور الأمل.
- امتهنت الصمت فعشقت التأمل.
- أسرجت الوقت ومضيت.
- على غصن انتظار.