د . جاسم المناعي*
إن تجربة اليونان في وصول الحزب الحاكم إلى السلطة من خلال استنفار جموع الشعب عن طريق الشعارات الرنانة ودقدقة مشاعر الناخبين عن طريق الوعود البراقة والتعهدات التي يصعب مقاومتها أو حتى رفضها، إلا أن مثل هذه التجربة هي ليست الأولى ولا أعتقد بأنها ستكون الأخيرة.
وكما هو معروف في مثل هذه التجارب، فإنها لا تلبث وأن تصطدم بواقعية الأمور التي هي في الغالب بعيدة كل البعد عن طبيعة الوعود التي أعطيت للناخبين إن لم تكن مناقضة لها تماماً. وكما نتذكر فإن الحزب اليساري اليوناني«سيريزا» الذي كسب شعبية كبيرة من خلال ما قطعه على نفسه من تعهدات تكاد لا تصدق وفقاً للظروف الاقتصادية التي تعيشها اليونان، فقد قدم وعود طموحة جداً بدءاً من التخلص من برنامج التقشف الذي فرض على اليونان من قبل المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي مقابل قروض بمليارات الدولارات لإنقاذ وضع اليونان إلى التعهد بوقف برنامج الخصخصة ورفع الأجور وإعادة توظيف أكثر من عشرة آلاف شخص تم الاستغناء عنهم وفقاً لسياسة التقشف المتفق عليها.
هذا وقد ذهب الحزب الحاكم في وعوده إلى أبعد من ذلك حيث أعطى الانطباع بأن اليونان ينبغي أن يتم إعفاؤها من بعض من ديونها وتيسير إعادة هيكلة المتبقي منها. طبعاً المتتبع لمجرى المفاوضات بين اليونان والمجموعة الأوروبية يكتشف أن اليونان حتى الآن لم تستطع أن تحقق أياً من هذه الوعود حيث من ناحية اضطرت إلى طلب تمديد برنامج التقشف الذي وعدت بأنه لن يستمر، كذلك فقد اضطرت إلى التراجع عن عزمها إيقاف برنامج الخصخصة ورفع الرواتب والأجور وإعادة توظيف من تم الاستغناء عنهم.
ومع ذلك وحتى الآن، فإن المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي غير راضين عما قدمته اليونان من تنازلات، ولذلك أعطيت اليونان مهلة أربعة أشهر حتى تتقدم ببرنامج أكثر وضوحاً وأكثر تأكيداً لمدى التزامها بسياسة التقشف وسياسة الإصلاح وذلك كشرط لاستمرار المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي في توفير التمويل المطلوب.
ومن جانبه فقد أوضح صندوق النقد الدولي بأن التوضيحات التي تقدم بها اليونان حتى الآن غير كافية وأنه خلال الأشهر الأربعة القادمة ينبغي على اليونان أن تؤكد على التزامها الواضح وبشكل محدد على إصلاح نظام الضرائب ونظام التقاعد وسوق العمل والخصخصة.
إضافة إلى كل ذلك فإن اليونان مطالبة أيضاً بتأكيد مصداقية الإجراءات المتخذة والمتفق عليها ضمن برنامج التقشف والإصلاح الاقتصادي. إن التشكيك في مصداقية الإجراءات المتبعة ليس بالجديد، حيث سبق وأن أثيرت عدة تساؤلات حول إحصاءات الناتج القومى المستخدمة في قياس المعايير الاقتصادية المطلوبة من جميع الأعضاء المنتسبين للمجموعة الأوروبية. في الواقع إن مثل هذه الإشكالية المتعلقة بالمصداقية تثير مسائل كبيرة هي حسبما يبدو أكبر من موضوع عجز الموازنة أو مستوى المديونية أو معدلات النمو أو غيرها من المؤشرات الاقتصادية. المسألة تتعلق أكثر باختلاف الثقافات التي تنعكس في سلوكيات العمل والانضباط والمصداقية.
ولذلك فإن استمرار هذه الدول ذات الثقافات المتباينة إن لم نقل المتضاربة في مجموعة واحدة يفترض أن تكون منسجمة هو أمر دائماً ما يثير الإشكال حول كيفية إخضاع هذه الدول ذات الثقافات المختلفة إلى معايير وسلوكيات موحدة لم تحظ حتى الآن حسبما يبدو بالنجاح المنشود.
وهذا التباين في الالتزام بمعايير المجموعة الأوروبية لا يقتصر فقط على حالة اليونان، حيث ينطبق الأمر أيضاً على دول أخرى في المجموعة مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال التي تمثل ثقافات ليست متطابقة تماماً مع ثقافات الدول الأوروبية الأخرى مثل ألمانيا أو الدول الاسكندنافية.
ما يهم الآن بشأن اليونان وبعد تراجع الحزب الحاكم عن وعوده الانتخابية والقبول بشروط المجموعة الأوروبية هو كيف سيكون موقف الناخبين من هذا الحزب وهل سيظل على إثر ذلك محتفظاً بنفس الشعبية التي أوصلته إلى سدة الحكم أم أننا سنشهد أوضاعاً سياسية متوترة تعود باليونان إلى نقطة الصفر في موقفها تجاه المجموعة الأوروبية وربما تعجل في مواجهة الواقع المر المتمثل في عدم توفر الانسجام، الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى احتمالية خروج اليونان من منطقة اليورو كحل أخير لا مفر منه.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي