غادر وهو ينثر أسئلته الصعبة المحيرة، بعد أن وضع الفصل الأخير في «سوالف دنيا»، رحل وهو يطوف بتاريخ الأدب العربي شرقاً وغرباً، ويختار من المفردات ما يلامس شغاف القلوب ويأسر الألباب، يرفض أن تقيد كلماته وتحبس، بل اختار لها فضاء مفتوحاً مشرعاً حد النجوم.
رحل صاحب «أغاني البحار الأربعة» أمس، وهو يحمل على كاهله 77 من السنين و44 عاماً من الشعر، ففي فريج الفاضل سنة 1938 أطلق صرخته الأولى، نشأ هناك وترعرع، اختلط بالناس وأحبهم، ومن شفاههم التقط مفرداته البسيطة، وصاغها شعراً ونثراً تغنت به البحرين ردحاً من الزمان.
جاء الشاعر الكبير عبدالرحمن رفيع ليكون صوتاً مغايراً مختلفاً، جاء لينسج من تلاوين الشعر ضحكات الورود، ليقول قصائد تلامست وجدان الناس وأحاسيسهم المرهفة الشفيفة، ليجعل من مفردته سراً معلقاً على الدوام، لذلك كان رحيله فاجعاً مؤلماً، وبحجم هذا الألم اتسع حزن البحرين، ليلف البلاد في يوم حزين لا ينسى.
ومثلما برع رفيع في شعر العامية، كتب القصائد الغنائية وبدع فيها، ويقول في قصيدة غناها ولحنها الفنان أحمد الجميري «خضر نشلج على عودج تزينينه ولا يزينج/ وأحب هالورد الدايم ربيع أحمر على خدودج/ وأحب السحر الفتان ينبع نور من عيونج/ وأحب الحنة لين ينبان ويبرق فوق ظفر ريلج/ وتقولين يا بعد جبدي وأقول لج يا نظر عيني/ أعرفج زين أعرفج/ من المحرق وصيف العين بحريني».
ومن قصيدة «البنات» ننهل من نبع الراحل الكبير شغفه بالنساء نصف المجتمع الكبير «من سحرهم تنسحر دنيا بكبرها/ هم الساس وتاج الراس وكل الناس/ وهم جنة الماضي والحاضر واللي آت/ وش كثر ثم إش كثر كانت لولا البنات/ كانت كريهة هالحياة».
ومن «الدوران حول البعيد» نرتحل مع رفيع في عوالم لم نكتشفها يوماً، ولم نعتقد بوجودها، لنقتطف «في آخر الليل البهيم/ إذا أصاخ الساهرون/ سيل من الأطياف والأفكار ليس له مدى/ شيء بلا شيء يلوح وهمهمات كالصدى/ ووراء أعماقي هنالك حيث تشتعل البروق/ تتفجر النبضات نبضاً بعد نبضٍ/ في العروق/ وأظل مشدوهاً/ إلهي كل هذا في دمي/ يا ليتني ويموت في فمي الكلام/ هذي الأعاصير الكظيمة كيف يعروها الفتور؟!».
خرج رفيع ليقول كلاماً غير الكلام المتداول المألوف، ويطرح أسئلة محرجة على العالم المحيط، نهل زاده الشعري من كتاب الأغاني والعقد الفريد والبيان والتبيين والمثل السائر والبخلاء وغيرها الكثير من المصادر وأمهات الكتب، وظل يكتب شعراً ومسرحيات وأغاني رغم أن «العرب ما خلو شي»!
يقول في إحدى حواراته إنه فوضوي بالفطرة، لا يكمل عملاً بدأه، إخواني في ريعان الشباب إبان دراسته الحقوق بالقاهرة، ثم بعثياً، قبل أن يكون مستقلاً، وهنا بدأ يكتب القصيدة بمعناها الحقيقي، مستفيداً من ليسانس الحياة، أما الليسانس الجامعي فلم يحصله أبداً.
وكعادة المبدعين والفنانين ظل رفيع فوضوياً، وتنقل من عمل لآخر، وهزته كغيره نكسة يونيو 1967، وهنا نلتقي وجهاً لوجه مع تجربة رفيع المغايرة.
ونعرفه شاعراً يدخل في الأحداث بصورة غير مسبوقة، وهو الشاعر البحريني الوحيد الذي احتفى بتجربة ثورة الطلبة شعراً، وبدورها أعادت هذه الثورة صياغة العالم، واستطاعت أن تخلق مفكريها الجدد، أو كما يسمون نقاد ما بعد الحداثة.
برع شاعرنا بالشعر الشعبي لأنه يخاطب جميع الفئات ويشبهه بـ«الخبز الساخن»، ويقول في لقاء صحافي «إذا كان هناك شاعر عامي فهناك عشرات الشعراء الفصيحين، الشعر العامي تتغير مفرداته أكثر من الفصيح لأنها عرضة للتجارب اليومية، في الفصحى نوع من الثبات، والشعر العامي يمتاز بالتقوقع والإقليمية».
لكن كيف تسللت الفكاهة إلى شعر عبدالرحمن رفيع؟ وهو يجيب في إحدى حواراته «هذا سؤال نقدي، ولست مخولاً بالإجابة.
هذا شيء يأتي عفو الخاطر، وعندما ماتت والدتي صدمت، وقلت لا تستحق الحياة كل هذا الجد، وصبغت أشعاري بصبغة الكوميديا السوداء، أو ما أطلق عليه الضحك الباكي».
سر الكلمة في شعر عبدالرحمن رفيع تقع في موضع بين العقل والوعي واللاوعي، بين الشمس المشرقة والعتمة المغرقة، الكلمة هي سر لم يكتشف حتى الآن، وهي تصلح لكل زمان ومكان.
رفيع كان موجوداً ضمن شخوص رواية «شقة الحرية» لغازي القصيبي، رفيق الدرب وأنيس الوحدة، وهو كتب مسرحية «زمان البطيخ»، وأغاني مسرحية «عامر والقرد»، ومقدمة مسلسل «عجايب الزمان».
وصدرت للشاعر باللغة العربية الفصيحة دواوين «أغاني البحار الأربعة»، و«الدوران حول البعيد»، و«يسألني»، و«ولها ضحك الورد»، وفي العامية «قصائد شعبية»، و«سوالف دنيا»، و«ديوان الشعر الشعبي»، و«العرب ما خلو شي».
ويبقى عبدالرحمن رفيع نسيجاً وحده، خلق عالمه الخاص وتجربته المميزة، ويبقى شاعراً أثر في عدة أجيال وعلى جميع المستويات الفنية والثقافية، رحل تاركاً فارغاً في دنيا الشعر و«السوالف»، ومازالت كلماته ترن في آذاننا، وتطرح السؤال تلو السؤال دون أن تجد إجابة من أحد!