كتب - جعفر الديري:
الحياة حكايات متعددة، لا يحدها مكان ولا زمان. حتى الأطفال لهم حكاياتهم، فكيف لو كان المتحدث كبار السن من شيوخ وعجائز؟!، هؤلاء الذين خبروا من الحياة الكثير، وسمعوا من الطرائف والنوادر ما يغطي على خبرة جيل من شباب اليوم.
شغلتني تلك الأفكار وأنا في طريقي لبيت الحاج سلمان بن علي، هذا البحار الذي سلخ قرابة السبعين عاماً في البحر، وعمل «سيباً» وغواصاً، وحفظ طرق البحر ومساربه، حتى عرفه كما يعرف راحة يده!.
الحاج سلمان، رجل ربعة، يميل إلى السمنة، قوي الجسم، التجاعيد تملأ وجهه، وتلمح في يده آثاراً من جراح عديدة، إلا أنه طيب القلب، إلى درجة تثير الدهشة، وخلوق إلى درجة نكران الذات.
استقبلني الحاج سلمان كمن يستقبل أحداً من أبنائه، وسرد لي جانباً من طفولته وصباه، وما يتذكر من حياة البحارة في عرض البحر.
يقول الحاج سلمان: الحقيقة أني لم أشهد أيام الغوص إلا في طفولتي وصدر من صباي. مع ذلك، زاولت كل أعمال البحارة، وتعرضت لكثير من المواقف الصعبة، عدا عن أمور كثيرة سمعتها من أبي رحمه الله، لقد كان بحاراً كبيراً، وغيصاً فطناً عارفاً بأماكن اللؤلؤ.
ويتابع الحاج سلمان: إن الذكريات كثيرة، إلا أنني أتذكر على وجه الخصوص، تلك الليالي الجميلة، على ظهر السفينة وهي تشق عباب البحر. كنت أجلس دائماً قرب خالي رحمه الله. كان يتمدد على أرض السفينة، يتسامر والبحارة. كان يضحك كثيراً، وكان صاحب نكتة يطرب لها الجميع. وكنت أشاهد آخرين في السفينة، يتسامرون، أما ربان السفينة فكان للأسف، يبتعد عن البحارة، لأنهم دون مستواه مادياً، وإن كانوا في الواقع أرفع إنسانية منه. أما طباخ السفينة أتذكر أنه كان رجلاً شهماً يحبه الجميع، وكان يزاول الطبابة ما وسعته الحيلة.
ويشرد الحاج سلمان، ثم يواصل حديثه الشيق: أتذكر أمراً حدث ونحن على سطح السفينة، أثار اهتمامي في ذلك الوقت، إلا أنني اعتدته مع مرور الوقت. وذلك أن أحد البحارة اشتكى من أسنانه، وكان يئن أنيناً شديداً، نظير الألم الذي لا يطاق. ورغم إلحاحه على الربان في العودة إلى «الديرة»، لم يعبأ النوخذة به، ولا بالتماسات البحارة الذين كانوا يجدون في ذلك فرصة للالتقاء بزوجاتهم وأبنائهم. وعندها لم يجد المسكين بداً من قلع سنه!. فإن وجعاً فظيعاً في ساعة خير ألف مرة من وجع يتكرر كل ثانية.
عند ذلك، شاهدت الرجل المريض، وقت ألقى بجسمه على الأرض، واستسلم لأكف البحارة، الذين أمسكوا بيديه وقدميه بشدة، ليقبل الطباخ «الطبيب»، ممسكاً في يده بكة «مقلاع»، وبحركة سريعة وضع قدمه وركزها بشدة على وجه المريض، ثم أدخل «البكة» في فم الرجل، وراح يعالج سنه بشدة، والرجل يئن ويصرخ من الألم، حتى إذا قلع الضرس، ترك أشبه بالميت، مطروحاً على الأرض، يخور في دمه.