من بين ظلمات ثلاث، ظلمة أكبر كائن بحري، وظلمة البحر اللجي الهائج، وظلمة السماء الملبدة بالغيوم السود، ومع الرياح العاصفة التي أهاجت الموج فجعلته كأمثال الجبال، ولعبت بالسفن التي تحاول عبثاً أن تحافظ على استقرارها، من بين ذلك كله، انطلقت دعواتٌ خالصةٌ تشق الركام الظلامي إلى السماء مسرعةً، فتفتحت لها أبوابها، ولأجلها جاء الجواب الإلهي سريعاً ومنقذاً من هذه المهالك، وتحقق الفرج لصاحبها. «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، كلماتٌ ثلاث اختصرت الكثير من معاناة نبي من الأنبياء، أراد الله أن يكون ابتلاؤه في السجن، ولكن أي سجن ذلك الذي احتواه؟ ليس لذلك السجن بابٌ يوصد ولا قفلٌ يفتح، بل ليس فيه حراسٌ يؤمرون فيأتمرون، ويطلب منهم فكاك من حبس عندهم فيطلقوا سراحه، لأن السجن والسجان هنا هو مخلوقٌ واحدٌ، لا يفهم خطاب البشر، وهو الحوت الذي احتوى سيدنا يونس عليه السلام، والشهير باسمه الآخر، ذي «النون»، والذي جاء من قصته مع الحوت.
وفي هذا الصدد، يقول العلماء إن دعاء سيدنا يونس عليه السلام، اشتمل على 3 محاور، الأول، «لا إله إلا أنت»، فكلمة التوحيد شاملةٌ للنفي والإثبات، فهي كمثل قول الله تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين»، وفي الدعاء بقوله: «لا إله إلا أنت»، معنىً عميق قل من ينتبه إليه، وهو أن التقديم والاستفتاح في الدعاء بذكر شهادة التوحيد القصد منه الإقرار والعهد على البقاء والتفيؤ في ظلال العبودية مهما اشتدت المحن وتوالت الابتلاءات. أما المحور الثاني فتمثل في كلمة «سبحانك»، والتسبيح هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وما لا يليق بعظمته وكماله. والنفي هنا عن النقائص ليس نفياً مجرداً عن السوء، أو كما يقول علماء المعتقد: ليس نفياً محضاً، ولكنه نفيٌ يقصد به إثبات المحاسن والكمال لله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « فالنفي لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن ثبوتاً، وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه، يستلزم إثبات محاسنه وكماله». وفي هذا الصدد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الله تعالى «سبحانك»، تبرئته جل شأنه من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم، فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة»، وكان هذا التنزيه المتتالي لله تعالى عن النقائص والعظائم سبباً في تعجيل الفرج وانتهاء المحنة.
أما المحور الثالث فكان في قوله تعالى «إني كنت من الظالمين»، بعد أن نفى يونس عليه السلام الظلم عن الله تبارك وتعالى، كان الاعتراف بالذنب والتقصير، ولا شك أنه هو السبب الحقيقي لنزول البلاء، وفي إثبات ظلم العباد لأنفسهم وردت الكثير من الآيات، التي تثبت ذلك. وهذه ثنائيةٌ رائعةٌ نستقيها من مشكاة النبوة، أن يجمع العبد بين حالين عظيمين من حالات التوسل: التوسل بالعمل الصالح، وبضعف حال السائل، فكان جديراً بالإجابة.
وهذا الاعتراف والإقرار ووصف النفس بدخولها في جملة الظالمين - والظلم وصفٌ لازمٌ للإنسان إما لنفسه وإما لغيره - كان ذلك الإخبار سبباً للنجاة، كما قال الحسن البصري رحمه الله «ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم».