كتب علي الشرقاوي:
هناك من الشعراء من يترك بصمة واضحة على كل مكان يدخل وكل شخص يتعامل معه وكل وقت يكون معه، فهو لا يعبر عن شاعر واحد فقط، بقدر ما يعبر عن جيل كامل، جيل يحمل عذاباته وطموحاته وأحلامه ومعاناته، والشاعر عبدالرحمن الأبنودي واحد من الشعراء الكبار في هذا الجيل، تعلمنا على يديه معنى أن تكون الكلمة متميزة مختلفة عن غيرها من السابقين أو اللاحقين، فالشاعر المقتدر هو من يكون قادراً على الفعل، يترك بصمته الواضحة ويمشي، دون أن يلتفت للوراء، وقادراً على الاعتذار كما فعل الأبنودي في قصيدته عن عبدالناصر بعد 42 سنة من وفاة هذا الزعيم العظيم.
تجربة مفتوحة الأبعاد
منذ أن تواصلت مع الكلمة الغنائية التي يكتب وأنا منبهر من إمكاناته الشعرية الهائلة التي تدخل القلب ولا تغادره، وقفت مندهشاً ومبهوراً من كلمات أغنيته عدوية التي لحنها بليغ حمدي وغناها محمد رشدي تقول الكلمات:
صياد ورحت اصطاد صادوني
يا عدوية..
طرحوا شباكهم برمش العين.. صابوني
يا عدوية..
آه يا ليل يا قمر والمنجه طابت ع الشجر..
اسقيني يا شابه.. وناوليني حبة ميه..
اسم النبي حارسك.. اسمك ايه ردي عليه..
عدوية..
آه يا عدوية..
اوعوا تحلوا المراكب.. والله يا ناس ما راكب..
ولا حاطط رجلي في الميه.. إلا ومعايا عدوية..
عدوية..
اسمك عدوية يا صبية.. ورموشك شط..
وأنا طول عمري غريب في الميه.. بتشال واتحط..
يا ام الخدود العنابي.. يا أم العيون السنجابي
يا مركبي وبحرك داري.. يا حجاب حشيلوا في غيابي..
مدي إيديك خديني.. خديني..
ولفلفيني السنين.. خديني..
والله صورتك بتنفع تزين الجرانين..
اوعوا تحلوا المراكب.. والله يا ناس ما راكب..
ولا حاطط رجلي في الميه.. إلا ومعايا عدوية..
عدوية..
في ايديا المزامير.. وف قلبي المسامير..
الدنيا غربتني.. ونا الشاب الأمير..
رمشك خطفني من أصحابي.. وأنا واد صياد..
لفيت بلاد وبلاد.. وبلاد
اتاريكي ساكنه الناحية دي.. يا سلام يا ولاد..
مين كان يقول البصه دي تصطاد صياد..
اوعوا تحلوا المراكب.. والله يا ناس ما راكب..
ولا حاطط رجلي في الميه.. إلا ومعايا عدوية..
عدوية..
دوار.. يا ناسيني الشوق دوار..
يا ممشيني كذا مشوار..
في الموج نحتار.. ليل ويا نهار..
عدويه.. اهي.. ضحكتها نهار..
عدويه اهي.. شمس وأسرار..
اوعوا تحلوا المراكب.. والله يا ناس ما راكب..
ولا حاطط رجلي في الميه.. إلا ومعايا عدوية..
عدوية»...
القرية التي رفعها أحد أبنائها
قدر بعض القرى أن تكون مجهولة إلى أن يأتي أحد أبنائها ويرفعها من الطين العالق بأقدامها والغبار الذي يحاصر جسدها وعبدالرحمن الأبنودي هو أحد أبناء قرية أبنود. لقد ولد العام 1939 في هذه القرية التي تتبع محافظة قنا في صعيد مصر، لأب كان يعمل مأذوناً شرعياً وهو الشيخ محمود الأبنودي، وانتقل إلى مدينة قنا وتحديداً في شارع بني على حيث استمع إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها.
الشاعر عبدالرحمن الأبنودي متزوج من المذيعة المصرية نهال كمال وله منها ابنتان آية ونور. وقد صدر مؤخراً عن دار «المصري» للنشر والتوزيع، كتاب «الخال» للكاتب الصحافي محمد توفيق، يتناول فيه سيرة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي الذاتية. ويرصد الكتاب قصص الأبنودي الآسرة، وتجاربه المليئة بالمفارقات والعداءات والنجاحات والمواقف.
وفي مقدمة كتابه، يقول توفيق: «هذا هو الخال كما عرفته.. مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.. هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض - وبعض الظن إثم - أن تقليده سهل وتكراره ممكن».
«عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب حسن عطية حسن أحمد عبدالفتاح عمران»، الذي صار فيما بعد الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، نسبةً إلى قريته أبنود التي نشأ بها، وعاش فيها طفولته، وعمل بها راعياً للغنم. ومهنة الرعاة هي مهنة الأنبياء -مثلما يصفها الخال- «يا تطلع منها نبي يا تطلع شاعر» لكثرة ما فيها من تأمل للطبيعة والناس.
كان «عبدالرحمن» يستيقظ كل صباح ينتظر غنمه التي يرعاها أمام باب البيت. في كل صباح تجد كل أبواب البيوت وقد فُتحت وقفز منها الماعز والخرفان وتنخرط جميعاً في طابور وتملأ الدنيا غباراً، والأطفال وراءها يستعدون للرعي وهم حفاة، فلم يكن أحد وقتها يملك حذاءً حتى من كان يملك حذاء من الكبار لم يكن يستعمله في أغلب الأحيان. فكانت «ست أبوها» جدة عبدالرحمن تسير في عز القيالة إلى مشاوير العزاء الطويلة ملتفة ببُردتها، تلقف من الحر وتوحد وتستشهد خوفاً من أن تموت، تزيح الباب ذا الضلفة الواحدة كأنها قادمة من السعير وتجلس على أول شيء مرتفع، تفرد في الأرض «المبخوخة» قدميها المتورمتين الحافيتين، وقد نسيت حذاءها المعقود فوق رأسها، كأنها فقط كانت تقول للآخرين إنها تملك «مداساً»! كان الرجال يفعلون ذلك حتى في الملابس! وأحياناً إذا ما ورمت القيالة القدمين المنتفختين، كانت «ست أبوها» تدق عدة «بصلات» عليها ملح تلطخ به رجليها حتى الساقين لـ«يفش» الورم وتعود الساقان إلى طبيعتهما القديمة.
تعرف أن كل هذا سيحدث لها، ومع ذلك تنسى حذاءها المعقود فوق رأسها وتخوض حافية في «لهاليب» جهنم. لكنها لم تكن وحدها التي تفعل ذلك، وكأن الحذاء حرام أو عيب «يقولوا عليا لابسة جزمة؟! ليه رايحة أتجوز ولا رايحة عُرس؟ دي جنازة يا ولدي. ده واجب».
في هذا الزمن لم تكن فكرة الحذاء مطروحة أصلاً، الشيخ! ويقوم مساعداه الشيخان «همام» و«رمضان» بوضع كمية لا بأس بها من صبغة اليود في حفرة الرأس، وبعض لوزات قطن ببذرها، وكان يوم الخميس أيضاً هو الذي ندفع فيه «الخميس» للشيخ ثمناً للعلم الذي نتلقاه، و«الخميس» هو عشرة مليمات إذا لم ندفعها كان عقابنا منه أشد من عقابنا عن عدم الحفظ ساعة التسميع.
صوت الأمة
يقول الكاتب إبراهيم خليل إبراهيم: يعد الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي من أشهر شعراء الشعر العامي في مصر والعالم العربي، وعلى يديه شهدت القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها، وعاش كفاح أمته وواكبت أشعاره الأحداث التاريخية التي مرت بها مصر والأمة العربية لشحذ الهمم فبعد نكسة الخامس من يونيو العام 1967 مباشرة وبرغم صدمة العندليب عبد الحليم حافظ والشعب المصري بسبب تلك النكسة والبيانات الرسمية التي بالغت في نقل الوقائع غير الحقيقية للمعارك.
طلب عبد الحليم حافظ من الشاعر عبدالرحمن الأبنودي كتابة أغنية تسهم في بث الأمل من جديد، وبالفعل بدأ الأبنودي في كتابة عدى النهار أو موال النهار، وعند قيام الموسيقار بليغ حمدي بالتلحين طلب عبد الحليم من الأبنودي شطرة بعد «أبو النجوم الدابلنين» وأثناء المناقشات قال عبد الحليم «أبو الغناوي المجروحين»، وغنى عبد الحليم حافظ الأغنية في الاستوديو كما غناها في قاعة ألبرت هول في لندن وتقول كلمات الأغنية:
عدى النهار والمغربية جاية
تتخفى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكة
شالت من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
كما كتب الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي «ابنك يقولك يابطل»، ولحنها الموسيقار كمال الطويل وغناها عبد الحليم حافظ وتقول كلمات الأغنية:
ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار
ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار
ابنك يقول إنا حواليا الميت مليون العربية
ولا في مكان للأمريكان بين الديار
ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار
ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار
ابنك يقولك ثورتك عارفة الطريق
وعارفة مين يابا العدو ومين الصديق
ثابته كما الجبل للعدو حالفة عالانتصار
ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار
ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار
كما كتب الشاعر القدير عبدالرحمن الأبنودي «أحلف بسماها وبترابها «ولحنها الموسيقار كمال الطويل وقدمها عبد الخليم حافظ ليؤكد أن الشمس لن تغيب عن مصر والأمة العربية فبرغم نكسة العام 1967 فالنصر قادم وتقول كلمات الأغنية:
أحلف بسمــاها وبترابها
أحـلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع
أحلف بالمدنة وبالمــدفع
باولادي بأيــامي الجاية
ما تغيب الشمس العربية
طـول ما انا عايش فوق الدنيا.
في تلك الفترة حرص العندليب عبد الحليم حافظ على بداية حفلاته بهذه الأغنية، أيضاً من الأغنيات الوطنية التي كتبها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي ولحنها الموسيقار بليغ حمدي ووزع موسيقاها علي إسماعيل وقدمتها حنجرة العندليب عبد الحليم حافظ للمستمعين أغنية المسيح، وقبيل قيام العندليب عبد الحليم حافظ بتقديمها للجمهور في قاعة ألبرت هول في مدينة لندن، وصلته تهديدات ولكنه لم يهتم وقدمها أمام أكثر من 8 آلاف متفرج وتبرع بأجره لصالح المجهود الحربي وتقول كلمات الأغنية:
ياكلمتي لفي ولفي الدنيا
طولها وعرضها
وفتحي عيون البشر
للي حصل علي أرضها
على أرضها طبع المسيح قدمه
على أرضها نزف المسيح ألمه
في القدس في طريق الآلام
وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس
في الخلا صبح الوجود إنجيل
بعد نصر أكتوبر 1973 قام الفنان عبد الحليم حافظ بالاتصال بصديقه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وطلب منه أغنية عن النصر العظيم فكتب الأبنودي (صباح الخير يا سينا) ولحنها الموسيقار كمال الطويل وسجلها عبد الحليم حافظ برغم مرضه الشديد وبعد التسجيل قال للأبنودي: أعذرني ياعبدالرحمن فقد غنيتها بدون إعادة لأني متعب جداً.. فقال الأبنودي: ياعبد الحليم أنت قدمتها في غاية الجمال وتقول كلمات الأغنية:
في الأوله....
قلنا جينلك وجينالك
ولا تهنا ولا نسينا
والتانية...
قلنا ولا رملاية في رمالك
عن القول والله ما سهينا
والتالته...
إنتي حملي وأنا حمالك
صباح الخير يا سينا
وصباح الخير يا سينا
رسيتي في مراسينا
تعالي في حضننا الدافي
ضمينا وبوسينا يا سينا
أعمال الأبنودي الشعرية
1. الأرض والعيال (1964 - 1975 - 1985).
2. الزحمة (1967 - 1976 - 1985).
3. عماليات (1968).
4. جوابات حراجى القط (1969 - 1977 - 1985).
5. الفصول (1970 - 1985).
6. أحمد سماعين (1972 - 1985).
7. أنا والناس (1973).
8. بعد التحية والسلام (1975).
9. وجوه على الشط (1975 - 1978) قصيدة طويلة.
10. صمت الجرس (1975 - 1985).
11. المشروع والممنوع (1979 - 1985).
12. المد والجزر (1981) قصيدة طويلة.
13. الأحزان العادية (1981) ديوان مكتوب دراسة (محمد القدوسي).
14. السيرة الهلالية (1978) دراسة مترجمة.
15. الموت على الإسفلت (1988 - 1995) قصيدة طويلة.
16. سيرة بني هلال الجزء الأول (1988).
17. سيرة بني هلال الجزء الثاني (1988).
18. سيرة بني هلال الجزء الثالث (1988).
19. سيرة بني هلال الجزء الرابع (1991).
20. سيرة بني هلال الجزء الخامس (1991).
21. الاستعمار العربي (1991 - 1992) قصيدة طويلة.
22. المختارات الجزء الأول (1994 - 1995).
أعماله المغناة وكتاباته للسينما
كتب الأبنودي العديد من الأغاني من أشهرها:
* عبد الحليم حافظ: عدى النهار، أحلف بسماها وبترابها، ابنك يقول لك يا بطل، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب، وغيرها
* محمد رشدي: تحت الشجر يا وهيبة، عدوية، وسع للنور، عرباوي
* فايزة أحمد: يما يا هوايا يما و مال علي مال
* نجاة الصغيرة: عيون القلب، قصص الحب الجميلة
* شادية: آه يا اسمراني اللون، قالي الوداع، أغاني فيلم شيء من الخوف
* صباح: ساعات ساعات
* وردة الجزائرية: طبعاً أحباب، قبل النهاردة
* محمد قنديل: شباكين على النيل عنيكي
* ماجدة الرومي: جايي من بيروت، بهواكي يا مصر
* محمد منير: شوكولاتة، كل الحاجات بتفكرني، من حبك مش بريء، برة الشبابيك، الليلة ديا، يونس، عزيزة، قلبي مايشبهنيش، يا حمام، يا رمان
كما كتب أغاني العديد من المسلسلات مثل «النديم»، و«ذئاب الجبل» وغيرها، وكتب حوار وأغاني فيلم شيء من الخوف، وحوار فيلم الطوق والإسورة وكتب أغاني فيلم البريء وقد قام بدوره في مسلسل العندليب حكاية شعب الفنان محمود البزاوي. شارك د.يحيى عزمي في كتابة السيناريو والحوار لفيلم الطوق والإسورة عن قصة قصيرة للكاتب يحيى الطاهر عبد الله.
جوائز عبدالرحمن الأبنودي
حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية العام 2001، ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية.
فوز الأبنودي بجائزة محمود درويش للإبداع العربي للعام 2014.