كتب - جعفر الديري:
صدق الحكيم عندما قال (العلم في الصغر، كالنقش في الحجر). فان ما يهضمه قلب الحدث في طفولته، يظل يتفاعل طوال عمر الإنسان. أؤكد ذلك جازماً عندما أتذكر حصص الرسم في مدرسة الدير الابتدائية.
تعلق قلبي بالألوان والفرشاة، منذ الصف الأول ابتدائي. كان مدرس المادة أستاذ عبدالله فيما أذكر، يحوطنا بعنايته وكلماته المشجعة في مرسم المدرسة. هناك كنت تشاهد طاولة كبيرة اصطف حولها التلاميذ، أمامهم كراساتهم، وألوانها. كل يحاول أن يرسم ما يجول بخاطره. وفي الزاوية انتصبت لوحة جميلة خط عليها حديث نبوي شريف (إنما بعثت معلماً).
لم أكن موهوباً في الرسم، إلا أن شغفي بالرسم كان يدفع المدرس لتشجيعي. وأتذكر بهذا الخصوص أستاذ حلاوة، الفنان المصري، الذي عمل على تزيين المدرسة بلوحاته الجميلة، وكان يحرص على أن يشارك تلاميذه في مسابقات وزارة التربية والتعليم، وقد شارك باسمي في إحدى المسابقات لكن يبدو أن الحظ لم يحالفني.
أما التلميذ الذي كان باهراً رسمه في المدرسة، فكان سيد زهير سيد حسن. وهو مدرس اليوم وفنان معروف. كان سيد زهير موهوباً موهبة طبيعية، وكان يلفت اهتمام المدرسين، في جميع المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، حتى إنه احتكر لعدة سنوات جوائز الوزارة، وجرب رسم الكاريكاتير ونجح فيه. وقد استرعى اهتمام أستاذ حلاوة، الذي لم يكن فقط يشجع التلاميذ على الرسم، بل كان ينظم رحلات للتلاميذ، من أجل تنمية خيالهم، وهناك كان يصور الطلبة ويعرض صورهم للبيع عليهم.
أتذكر أنه أراني صورة لي وأنا بين التلاميذ في رحلة إلى مكان أثري في البحرين. هذه الرحلات شكلت زاداً ثرياً لنا في المرحلة الابتدائية. فكنا متى تواجدنا في الفصل الدراسي، عكفنا على الرسم بوحي مما شاهدته أعيننا. كانت رسومات التلاميذ، الجيد منها يعلق على الحائط قرب المكتبة. وكل من علقت له صورة هناك، شعر أنه متميز. وقد لمحت يوماً أحد التلاميذ وهو حزين!، لأنه اكتشف أن لوحته الجميلة المعلقة، أخلت مكانها لأخرى، ولم يعنِ المدرس حتى بإرجاعها إليه، لقد أخفاها وراء اللوحة الجديدة!.
في المرسم، عقدت بيننا صداقة والصلصال. هذا العجين المدهش، تعلقت به أصابعنا، وحتى اليوم مازلت أشعر بملمسه على أصابعي. أشكال غريبة كنا نعمل بهذا العجين، حيوانات وطيور، بيوت وكل ما كانت تعيه ذاكرتنا. كذلك كان الصمغ وألوان الشمع، متعة لا تقدر بثمن. ما أجمل أصابع الأطفال وهي تمسك بالمقص، عاكفة على تحويل ألوان الشمع إلى أشكال محددة.
أتذكر أن التلاميذ شكوا يوماً للأستاذ حلاوة، أنهم لا يجدون مقصاً، فتطلع إلينا لبرهة، حتى إذا تأكد أنه أثار اهتمامنا، سألنا: عندما تقصون الورق؛ من هو الذي يقص؟ أجبنا: المقص، قال: لا، إنها أصابعكم، لذا عليكم أن تقصوا دون مقص. وتعلمنا من يومها أن نقص دون مقص.