كتب - أحمد الجناحي:
قال مواطنون إن لمة «البيت العود» في شهر رمضان عادة أصيلة تكسر حواجز الانشغال الكثيرة خلال العام وتصفي النفوس، معتبرين أنها فرصة سانحة للعائلة، لتكون جلسة تربوية؛ إذ أن الظروف الحياتية تعيق تجمع العائلات في كثير من الأوقات.
وبيت الجد أو العائلة الذي يطلق عليه محلياً «البيت العود» نسبة إلى اجتماع العائلة في بيت واحد وتحت سقف واحد بوجود عميد العائلة الأكبر سناً، حيث تتقارب فيه القلوب وتتصافى فيه النفوس وتقوى فيه الصلة بين الأرحام، ويعد البيت العود حضانة للصغير، ومدرسة للكبير، يتلقون فيها أصول علم المجتمع ومن دون أن يشعروا بذلك، محطة رائدة لتأصيل القيم في المجتمع، والتغلب على إفرازات المدنية، ورغم أن الانعزالية اخترقت بعض تلك البيوت بسبب عوامل التقدم والتطور، إلا أن الشهر الفضيل «رمضان» جاء ليقوي تلك الحضانة والمدرسة ويعزز التقارب المجتمعي بيت الأسر لما فيه من عادات أصيلة مرتبطة بالدين الإسلامي كصلة الرحم وبر الوالدين بالتواصل الحي والمباشر، وإن كان التطور قد خلق فرصاً للتواصل أكثر سهولة.
البيت العود في رمضان لا يقتصر على جمع أفراد الأسرة فقط على مائدة والإفطار وبعدها يفر كل منهم إلى حياتة الشخصية، على العكس تماماً، فالبيت العود خلق برنامجاً يومياً متكاملاً لمرتاديه بكل عفوية بناءً على التأصيل الإجتماعي القديم الذي وجد منذ مئات السنين وبقي خالداً ليومنا هذا.
لمة «البيت العود»
يقول الجد عبدالله الدوسري «لمة أفراد الأسرة في رمضان الذين يعيشون بمناطق مختلفة في بيتي تشعرني بسعادة غامرة، خصوصاً وأن لتلك اللمة ذكريات قديمة تعود لفترة من الزمن كانوا معظمهم أطفالاً، ورغم متطلبات الحياة الكثيرة ومشاغلها التي تصعب على الأسرة أن تلتم في الأيام العادية، يأتي رمضان ومن خلال البيت العود ليجمع شمل الأسرة بل كل العائلة لما في هذا الشهر من بركة وفضل».
تقول الزوجة «الجدة أم أحمد» «أجمل ما يميز لمة رمضان هو وجود أحفادي الصغار بقربي، الأمر الذي يضيف إلى بريق رمضان بريقاً آخر مختلفاً، لذا أحرص دائماً على أن أشاركهم عند تحضير المائدة كتأصيل لمبدأ المشاركة بطريقة غير مباشرة في لمة «البيت العود».
وتضيف «منذ العصر حيث يجتمع الجميع وإلى السحور يكون البيت عامراً بالحياة والحركة والبرامج المختلفة غير المعدة سلفاً، بل تأتي بعفوية خالصة، كل حسب عمره وميوله، فمن الأطفال من يلهون معاً في حوش البيت وصرخاتهم البريئة تملأ جنبات الدار، وفيهم من يتسمر أمام برامج الأطفال بالتلفاز، أما اليافعين من الذكور فلهم حديثهم الخاص والذي لا يخلوا من آخر التقليعات التي وصلت إليها أجهزة التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، وتكثر التعليقات والمناقشات العقيمة في معظمها حول ما هو الأفضل مما تجود به أسواق الاتصالات في عصر التكنولوجيا وهكذا دواليك، حتى يعودوا إلى المربع الأول ونقطة الصفر ولكنها على أية حال لا تخرج كثيراً عن سياق اهتمامات الشباب».
وتشير إلى أن هناك أيضاً بالمقابل جمع لا يستهان به من نفس الجيل يتركز محور حديثهم واهتمامهم في قضايا السياسة وما آلت إليه أحوال الدول العربية من تغيرات يراها بعضهم إيجابية، والآخرون يقارعونهم الرأي لأنها في تصورهم ضعف وشقاق ونتائجها بالتالي سلبية، ليس هذا فحسب بل من حسنات البيت العود أنها فرصة نادرة وربما ذهبية لاقتناص الحكم والعبر من أحاديث كبار السن لما يتمتع به ذاك الجيل الذي عاصر النكبات والمحن وعاش ردحاً من الزمن بين تجاذبات الإرث الأصيل والعولمة الحديثة، لا شك أن مثل هذه الجلسات وبحضور تلك النخب التي تنم عن أصالة أهل البحرين وتاريخهم العريق لم تكن لتبرز للعيان أمام الجيل الناشئ إلا من خلال هذه التجمعات في بيوت العائلة «البيت العود»، والتي لرمضان نصيب الأسد في ذلك، بشكل عام الأحاديث الجانبية وتجاذب أطراف الحديث مع الشرائح المختلفة ثقافة ورؤية، وكذلك متابعة البرامج التلفزيونية الهادفة لا شك أنها تغذي العقول قبل البطون، وتنشئ الأجيال الواعدة.
كسر الحواجز وتصفية النفوس
وأكد بسام السادة فرضية كسر الحواجز وتصفية النفوس من خلال البيوت العامرة باللقاءات شبه اليومية بين أفراد الأسرة، التي بدورها تبرز شكلاً من أشكال الترابط الاجتماعي الأسري، وتضع اللبنة الأولى والأساسية لتواصل الأجيال المختلفة في الأسرة الواحدة، حيث يكون هناك دوماً البيت العود أو البيت الكبير، الذي يبقى مفتوحاً للأبناء، فيجتمع الجميع خلف سور واحد وتحت ظل وارف مليئ بمشاعر الحب والإخاء.
ويضيف بسام (التوقيت الرمضاني الموحد لجميع الموظفين يمكنهم من العودة إلى المنزل ومجالسة أسرهم وغرس مبادئ التواصل والتعاون بين الأطفال). وتؤكد مريم الابنة الكبرى لبسام أن حرص الأسرة جميعها على تحضير مائدة الإفطار وحتى السحور وتوزيع الأدوار على أخواتها بين من يقوم بتجهيز السفرة ومن يهتم بأمور «الشربت» ومساعدة الوالدة، أمور مفرحة ولا تجدها إلا برمضان «المساعدة والعمل الجماعي في رمضان يسعدني كثيراً، ومايسعدني أكثر لمة البيت العود في أيام متفرقة من الأسبوع عندما يكون الجميع موجوداً في بيت الجدة ونتشارك جميعاً التحضير»، وتكمل مريم وعلامات السعادة مرسومة على وجهها «والأجمل الأجمل عندما نجتمع على «القدوع» بعد الفطور أمام شاشة التلفاز ونضحك جميعاً على المواقف المضحكة التي تعرض، ونحزن على المواقف الحزينة الأخرى، ولا ينتهي اليوم إلا وأشعر بأنني قطعت أميالاً طويلة في التقرب إلى قلوب عائلتي)).
ومن جانبها قالت الجدة أم محمد «كبر الأبناء، منهم من بقي معي ومنهم من استقل بحياته، وفي رمضان نعمل على زيادة كمية الطعام التي تعد، لأننا نتوقع أن يكون الأبناء وأسرهم جميعهم موجودين، ومن لم يحضر على الإفطار نتوقع أن يكون بعد التراويح متواجداً، لأن الهدف صلة الرحم واجتماع الأسرة)، وتذكر الجدة حديث النبي صلى عليه وسلم قبل أن يبح صوتها «ذكر الصحابي أنس ابن مالك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل صلة الأرحام، فقال صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه»» ولم تكاد أم محمد أن تكمل حتى تغيرتw نبرة صوتها مسترسلة «لا أذكر أن يوماً قد مر علي دون أن أنتظر أبنائي، وربما ألوم بعضهم إذا تأخر علي، ويشتكي البعض من زحمة الحياة والمشاغل وأحياناً لا أجد أحداً منهم، فالكل أصبح مشغول هذه الأيام، ونادراً ما يجتمعون، فمرة تلمهم أسر زوجاتهم ومرة أصدقائهم، ولكن قلب الأم الحنون دائماً ما يلتمس العذر لهم وفي النهاية يكون الطعام من نصيب الجيران».
رمضان فرصة
لا تتكرر
ورغم حالة الاستنفار في بيت المحميد مع قدوم رمضان، إلا أنهم يعتبرونها فرصة لا تكرر مرتين في السنة!، يقول عميد العائلة «إن أجمل الموائد التي تجتمع فيها العائلة هي موائد رمضان، وخصوصاً التي تكون فيها صلة الأرحام، فإن كان موعد الوصول قبل الغروب، فإن الزوجات يجتمعن مع بعضهن، سواء بناتي أو زوجات أبنائي، وهذا التجمع ربما يكون مدرسة للجميع، حيث إن النفسيات لا تكون متشابهة، ولذلك فإن التي تشعر براحة نفسية، والتي لا تكون مشحونة، لأنها عودت نفسها على العطاء، ربما تؤثر بشكل إيجابي من خلال تصرفاتها على بعض الزوجات أو الفتيات، خاصة من ليست لديهم الإمكانات للعطاء، ولا فهم لمعنى التواصل مع الآخرين، فبعد كل لقاء رمضاني نجد أن هناك اختلافاً للأفضل قد حدث لبعض افراد العائلة».
مريم الحسيني أشارت إلى أنها خصصت أوقاتاً للأقارب والجيران، على أن لا يكون الوقت طويلاً، حتى تستطيع أن تجدد العهد بالتلاقي والتزاور، على الأقل في ثلاثة بيوت في يوم واحد، ويكون بقية وقتها لأسرتها الصغيرة، لتوفي حقها في الزيارة وقضاء بعض الوقت معاً، كما أنها تترك باقي أيام شهر رمضان للتلاوة والصلاة تعويضاً عن تقصيرها في الأيام الأخرى. ويشاطرها الرأي موسى محمد ويقول «لدي من أعمال تجارية تعتمد عليها حياتي، لكن بمرور الوقت تعلمت خلال شهر رمضان، أن ما كنت أستطيع القيام به من زيارات للأهل خلال الشهر أستطيع الاستمرار عليها طوال أشهر السنة فقط بوضع جدول زمني مناسب وزيارات قصيرة مبكرة».
ليالي رمضان منحت الفرصة للجميع بترتيب الجزء الخاص بالراحة النفسية، حيث يذكر البعض أنهم لم يكونوا على دراية أن هناك أمراً جميلاً يمكن أن يكتسبوه، وهو التزاور، فلا شيء أعظم من التلاقي مع الأسرة في البيت العود، وانتظار بقية أفراد الأسرة، حيث يمد الجميع كفوفهم إلى طبق واحد وهم يتسامرون، ويتذكرون ماذا فعل كل منهم من خير كي يشجع الآخر، ويتفقون على زيارة منزل أحد الحضور، أو زيارة قريب لم يروه منذ مدة، وقد تأكد ألا شيء يضاهي الاستماع الى أفراد الأسرة، وتعلم معنى الترابط والمحبة، وقيمة الأسرة والجار. يقول صالح العلي «عندما كنت منشغلاً بالعمل، لم أكن أتذكر أن أقول لأبنائي أن عليهم زيارة أرحامهم، حتى كبروا وتزوجوا، وهم لا يعيرون للجار أو زيارة الأهل أهمية، فكانت حياتهم عبارة عن نوم ودراسة أو الوظيفة والخروج مع أصدقاء، وربما كانوا أصدقاء في تقصير مع أهلهم، لكن بعد التلاقي مع الأهل في شهر رمضان، لاحظت الاختلاف وشعرت بالمودة والألفة التي بين بقية إخوتي وبينهم، وبين والدي، والجو الدافئ المرح الذي بين الجميع، وقد تساءلت لماذا نحن في أسرتي مختلفون؟، وهكذا قررت أن أندمج معهم واليوم لا يمر يومان في رمضان، إلا وأنا وسط أهلي، ويأتي أبنائي للمشاركة كي يتعلموا كيف يكون التواصل، حيث إن رمضان يعتبر مفتاحاً لعلاقات جميلة تتجدد بين الأهل والجيران».
وحول الجلسات العائلية على الموائد في رمضان، يرى بونبيل أنها فرصة سانحة للعائلة، لتكون جلسة تربوية؛ إذ إن الظروف الحياتية تعيق تجمع العائلات في كثير من الأوقات، بينما يعد رمضان من الأوقات التي يجلس فيها الأب والأم مع أبنائهما، فيكونان قدوة لهم في إظهار محاسن الشهر الفضيل وأخلاقياته.
وأضاف بونبيل «التشاور أمر ضروري لا بد منه في كل الأسر، ولعل لمة الأهل في البيت الكبير تفتح الفرصة للخوض بالمشورة، فما خاب من استخار وما ندم من استشار»، وعن القيم التربوية والأسرية التي تتجلى في موائد رمضان العائلية، يبين بونبيل «أن قيم الرحمة والتوادد، وصلة الأرحام، يمكن غرسها في نفوس الكبار والصغار على حد سواء»، ومن الممكن للعائلات أن تضع لنفسها خطة مستقبلية كأن تدعو أبناءها للصيام في أحد أيام الأسبوع، والتجمع في وجبة الإفطار، من أجل المحافظة على تماسك العائلة والحفاظ على الشعائر النبيلة، والاجتماعية التي تتجلى في رمضان.
وشدد بونبيل على أن من الأمور التي يجب أن يتنبه لها المجتمعون في موائد رمضان العائلية أن يربطوا بين الطاعة والسعادة التي يشعرون بها ساعة الإفطار، وتوضح «السعادة تعبير عن فرحة اللقاء الذي عادةً ما يكون قليلاً في باقي الأيام، بالإضافة إلى السعادة بطاعة الله في الوقت ذاته».
إضاءة
قال أحد الاستشاريين الأسريين أنه من خلال الزيارات الرمضانية يتعلم الفرد في المجتمع كيفية صنع الراحة النفسية لذاته، وكيفية التخطيط في كل عام قبل رمضان، من تجهيزات كل متطلبات رمضان والعيد قبل فترة طويلة، لقضاء ليالي رمضان في أمسيات جميلة تجدد المحبة، بل ربما اللمة في البيت العود تولد محبة لشخص لم يكن الفرد قد تقرب منه، ولذلك لم يكن يعرف قيمته، لكن من خلال ليالي رمضان والتلاقي في البيت العود، أو في منزل الجد الكبير، أو في منزله يستمع لإنسان، ويتعلم منه ويقوم بالأعمال ذاتها التي جعلت منه شخصاً عظيماً.