إعداد: الدكتور خالد محمد الرويحي
مع التقدم المعرفي الكبير الذي صاحب انتشار ثورة المعلومات منذ نهاية عقد التسعينات من القرن العشرين، برزت على العالم أبعاد جديدة، مختلفة كلياً عمّا ورثه الإنسان وتعارفت عليه المجتمعات عبر التاريخ الطويل للبشرية الذي يمتد، حسب علماء الأنثروبولوجيا إلى حوالي 170 ألف سنة. لقد انتقل العالم التقليدي بأبعاده الثلاثة المعروفة من خلال ثورة المعلومات إلى عالم آخر بأبعاد أخرى، يتداخل فيه الواقع المعاش مع فضاء غير ملموس ظاهرياً هو العالم الرقمي. وهذا الفضاء الجديد أعاد تقديم الحياة اليومية لشتى شعوب العالم بواجهات رقمية أصبح بالإمكان من خلالها تجاوز الحواجز والقوانين التقليدية، بل والتأثير عليها من خلال هذا الواقع الافتراضي.
ومن المفارقات العلمية غير التقليدية في الفضاء الرقمي نجد أن المجتمعات المتقدمة تتساوى مع المجتمعات النامية من حيث مدخلات وأسلوب التعامل الرقمي والمخرجات. والسبب الأساسي في ذلك يعود إلى وجود نفس الأدوات والوسائل الرقمية في مختلف المجتمعات، بسبب الثورة المعلوماتية وما قدمته للعالم من طفرة تقنية متقدمة.
وبعد نضوج المجتمعات الرقمية وانتشار مساحاتها الافتراضية، بدأت تتشكل الظواهر السلبية التي عادة ما تصاحب الثورات العلمية مع تعاظم نسبة نفاذها في الحياة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تعتبر الحرب العالمية الأولى أولى النتائج المجتمعية السلبية التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى. أما الحرب العالمية الثانية فكانت بسبب ما أنتجته الثورة الصناعية الثانية في مجال الإلكترونيات والاتصالات.
ولعل من أبرز الظواهر السلبية للعالم الرقمي التي برزت خلال السنوات القليلة الماضية هو سوء استخدام التقنيات والأدوات المتقدمة من قبل الأفراد والجماعات، خصوصاً المتطرفة منها. ومع تساوي وجود المجتمعات في العالم الرقمي، إلاّ أن النتائج السلبية المترتبة على الاستخدام السيئ لأدوات هذا العالم تتفاوت بشكل كبير بين المجتمعات المتقدمة والنامية. فالمجتمعات المتقدمة استطاعت خلال العقدين الماضيين من إعادة تشكيل بُناها الأساسية واحتواء العالم الرقمي ضمن نظامها الاجتماعي، مما انعكس على الجوانب المكملة للحياة اليومية سواء السياسية منها أو الأمنية أو الاقتصادية، وغيرها. ومن دلائل ذلك نجاح المجتمعات المتقدمة من الاستثمار في العالم الرقمي والاستفادة مما يقدمه من أدوات ووسائل لخدمة مشاريع التنمية والتطوير. وليس أدل على ذلك من حجم المنتجات الرقمية والأجهزة ذات التقنيات المتقدمة التي يتم تقديمها للأفراد والمجتمعات بما فيها من قطاعات صناعية واقتصادية، تدر على الدول المتقدمة المليارات من الدولارات سنوياً. ويكفي العلم بأن عدد الأدوات والأجهزة والمعدات القابلة للتواصل الرقمي، سواء من خلال شبكات الإنترنت أو الشبكات اللاسلكية المحلية وغيرها من وسائل التشبيك الرقمية، قد بلغ في العام 2013م ما مجموعه 187 مليار أداة، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد ليبلغ ما مجموعه 212 مليار أداة مع حلول العام 2020م.
وعلى الجانب الآخر، نرى كيف استطاعت الجماعات المتطرفة، خصوصاً في الدول النامية، من استغلال تقنيات الفضاء الرقمي لتدمير المجتمعات وقتل الأفراد وارتكاب المجازر، دون وجود قدرات مناسبة لردعها. فقد ساهمت الأدوات الرقمية الحديثة في ظهور جماعات ما دون الدول تتبنى الأيدولوجيات المتطرفة، وتعتمد على الأدوات الرقمية (خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي) لبث أفكارها ونشر أنشطتها باستخدام تقنيات متقدمة للوسائط المتعددة. ومن الملاحظ أن الجامعات المتطرفة تستهدف فئة الشباب حصرياً لنشر مبادئها وأفكارها، بسبب اعتماد هذه الفئة العمرية على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أساسي لبناء فكرها وثقافتها ومعارفها. وفي ظل غياب البدائل المعتدلة، والأفكار النيّرة التي تواكب التقدم الحضاري، نجحت مثل هذه الجماعات في نشر بعض من أفكارها ومعتقداتها بين الشباب الملتزم بدينه ظنًا منهم بأن طريق هذه الجماعات يقود إلى الجنة، فتم تشويه بعض المفاهيم الدينية الشرعية مثل الجهاد والولاء والتكفير. أيضاً نجحت هذه الجماعات في تجنيد أعداد متزايدة من الشباب بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، سواء كانوا في الدول العربية أو الدول المتقدمة، وذلك عن طريق الأدوات والوسائل الرقمية الحديثة.
وهذا الأمر يحتاج تسخير الباحثين والمثقفين، خصوصاً في المجتمعات العربية، لدراسة هذا الموضوع من جميع جوانبه سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الدينية، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار التغير الكبير الذي طرأ على الحياة الاجتماعية النمطية مع تداخل العالم الرقمي في واقعنا المعاش. كما يجب على الحكومات في هذه المجتمعات البحث عن الوسائل المناسبة للتحول من الأسلوب التقليدي في التعامل مع الأخطار والمهددات المحلية والخارجية، وتبني كل ما من شأنه المساعدة في ضمان تحقيق التنمية المستدامة لمجتمعاتها في المستقبل، دون التقليل من حجم الأخطار التي يخفيها العالم الرقمي للعالم النامي.
المدير التنفيذي لمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة