كتب ـ علي الشرقاوي:
ظل الشاعر العراقي الكبير عبدالوهاب البياتي في بحث محموم عن مدينة الحرية المفقودة، آمن أن هناك فضاء واسعاً بين المدينة الفضلى والواقع، هو دوماً اعتاد أن يسميها «مدن الضرورة»، حيث اللصوص وقطاع الطرق والسجون والطواغيت، ويقول «وجدت المدينة أشبه بشحاذ يلبس رداء مكوناً من خرق متعددة ومختلفة الألوان».
في حوار متخيل يروي البياتي تجربته مع المنفى، يحكي كيف تأصلت مفردة الغربة والتشرد في دواوينه وأشعاره،رغم أن يؤمن بمقولة «المنفى قد يكون مادة للشعر لكنه لا يصنع شاعراً».
البياتي يرى أن المرأة في القصيدة غيرها في الواقع، لأن جوهر الحب هو الأصل، والمرأة مظهر من مظاهر هذا الجوهر، ويقول «الحب يبدأ من امرأة واحدة ربما ظهرت واختفت قبل خمسين سنة».
* عبدالوهاب البياتي أحد الشعراء التراجيديين في هذا العصر.
لست وحدي في ذلك، فالشعراء من حولنا يعانون مما عانيت من نفي وغربة وألم.
* هل تقصد الشاعر بدر شاكر السياب؟
وغير بدر شاكر السياب، أغلب الشعراء العرب الراحلين ومن هم على وشك الرحيل، يعانون نفس المعاناة.
* كأن التاريخ لا يتغير.
التاريخ يتغير، لكن هناك مجموعة من العقليات أسميها «العقليات المتحجرة»، لا تقبل التغيير، وترى أنهم رغم التطورات الكبيرة والمهمة على كوكب الأرض، إلا أن روح الأنظمة العربية بقيت كما هي إن لم تزدد سوءاً.
* هل يعني هذا أنك لم تعد تؤمن بثورة ناديت بها في معظم أعمالك الشعرية؟
القضية يا بني ليست في الثورة على ما لا يتماشى وحركة التاريخ، القضية في أن من يقودون هذه الثورات عادة ما يقفون ضد ما نادوا به، فهم مباشرة بعد أن يستلموا زمام الأمور يقصون من ساهموا معهم في البناء، وقراءة واحدة تكفي لمعرفة هذا الأمر.
* ما رأيك أن نعود إلى الوراء.. أعني إلى طفولتك وبداياتك في الكتابة والحلم بمجتمع تحترم فيه إنسانية الإنسان؟
كما تريد يا بني.
* المعروف أنك ولدت في محلة الشيخ بالعاصمة العراقية بغداد عام 1926.
وتخرجت من قسم اللغة العربية بدار المعلمين فيها عام 1950، ثم عملت في التدريس بالعراق مابين عامي 1950 - 1953، ومارست الصحافة
1954 مع مجلة «الثقافة الجديدة» لكنها أغلقت.
* عرفت أنك فصلت عن وظيفتك في التدريس ما السبب؟
بسبب مواقف وطنية أدت لاعتقالي وطردي من وظيفتي.
* عام 1954 نفيت من العراق.
عشت في دمشق، وساهمت هناك بالعمل مع التجمعات الأدبية، وبعدها ذهبت إلى بيروت وعملت مدرساً في إحدى المدارس الثانوية، ولم تدم إقامتي طويلاً في بيروت لأعود ثانية إلى دمشق عام 1958.
* اشتغلت أستاذاً في جامعة موسكو من عام 1959 - 1964، ثم باحثاً علمياً في معهد شعوب آسيا، وزرت معظم أقطار أوروبا الشرقية والغربية كمشارك في فعاليات ثقافية وشعرية.
عملت أيضاً في فترة لاحقة من حياتي في السلك الدبلوماسي، كان آخرها عملي كملحق ثقافي في السفارة العراقية بإسبانيا.
* حدثنا عن قراءاتك الأولى.
نهلت الشعر في شبابي المبكر من السيرة الشعبية وكتب التاريخ.
* هل لنا أن نعرف شيئاً عن شخصيات أثرت في تجربة الشاعرعبدالوهاب البياتي؟
تأثرت بالشيخ محي الدين ابن عربي تأثراً بالغاً، وكذلك بمقدمة ابن خلدون، إضافة إلى الفلسفة الإسلامية.
* ماذا عن إقامتك في روسيا؟
الإقامة في روسيا أتاحت لي التعرف على الأدب الروسي الكلاسيكي وعلى الأدباء الروس الكبار، أمثال تولستوي وتشيخوف وديستوفسكي، كما قرأت لغيرهم من الأدباء الأوروبيين، هذا فضلاً عن قراءتي الشعر الجاهلي والعباسي، ما شكل لدي أساساً ثقافياً متيناً.
* المعروف أنك كنت شاعراً غزير الإنتاج.
صدر لي عدد كبير من الدواوين الشعرية وكتابات في مجال المسرح والسياسة والنقد الأدبي.
* أذكر منها ديوان «ملائكة وشياطين» 1950، «أباريق مهشمة» 1955، «المجد للأطفال والزيتون» 1956، «رسالة إلى ناظم حكمت» 1956، «أشعار في المنفى» 1957، «عشرون قصيدة من برلين» 1959، «كلمات لا تموت» 1960، «طريق الحرية» بالروسية 1962.
و«سفر الفقر والثورة» و«النار والكلمات» 1964»، «الذي يأتي ولا يأتي» 1966، «الموت في الحياة» 1968، «تجربتي الشعرية» 1968، «عيون الكلاب الميتة» 1969، «بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة» 1969، «الكتابة على الطين» 1970، «يوميات سياسي محترف» 1970.
* عن دار العودة ببيروت صدر لك ديوان «عبد الوهاب البياتي»، وضم دواوينك المذكورة في 3 أجزاء 1972.
ثم صدر لي بعد ذلك «قصائد حب على بوابات العالم السبع» 1971، «سيرة ذاتية لسارق النار» 1974، «كتاب البحر» 1975، «قمر شيراز» 1975، «صوت السنوات الضوئية» 1979، «بستان عائشة» 1989.
* ماذا عن أعمالك الإبداعية الأخرى؟
صدرت لي مسرحية «محاكمة في نيسابور» 1973، و«بول إليوار» و«أراجون»، و«تجربتي الشعرية».
* سنة 1963 أسقطت عنك الجنسية العراقية.. أين ذهبت وكيف تعاملت مع الأمر؟
رجعت إلى القاهرة 1964 وأقمت فيها إلى عام 1970، أما كيف تعاملت مع هذا الأمر فهو في تصوري من أسوأ ما يمكن أن يمر به الإنسان على هذه الأرض، تصور نفسك بلا هوية، بلا جواز سفر بلا مكان، لذلك ترى أن قصائدي مزحومة بمفردات الغربة والنفي والتشرد في أروقة العالم.
* الهذا أطلق عليك النقاد العرب والأجانب لقب شاعر الحنين والمنفى؟
أتصور أنهم وفقوا في هذا اللقب.
* الأدب العراقي والشعر خاصة، توزع على ضفتين داخل وخارج، سلطة وآخر، وطن ومنفى.. بوصفك مطلاً على المشهد بضفتيه، ألا ترى أن المنفى أصبح إيديولوجيا تبرر نماذج لا تمثل حقيقة المشهد، مثلما بررت السلطة نماذج مماثلة؟
قد يصح هذا الكلام على نماذج محددة، لكن الإبداع الحقيقي يتجاوز حدود المنفى/ الوطن، قد يكون المنفى مادة للشعر لكنه لا يصنع شاعراً، فالشاعر عندما يتكون يحمل منفاه معه دوماً سواء في المنفى أو الوطن.
* حدثنا عن علاقة الشاعر بالمنفى.
أنا شخصياً أميل إلى أن الوطن أو القضية الإنسانية بشكل عام إذا كانت غائبة عن الشعر فإنه يتحول إلى ثرثرة، طبعاً هذا لا يعني أني أدعو إلى شعر المناسبات الذي أرفضه، أو إلى الشعر السياسي المباشر، لكن يجب أن تكون هناك قضية، ليست بالضرورة سياسية، لابد أن يؤمن الشعر بشيء، وليكن الحجر أو المطر، هذا أهم من التقسيمات، الشاعر الحقيقي لا يمكن أن تحده سلطة.
* ماذا عمن يستسلمون لشروط غيرهم؟
هؤلاء ضعفاء لا شعراء وسيتوقف إبداعهم عاجلاً أم آجلاً، الشاعر الحقيقي عندما يولد يتمرد منذ القصيدة الأولى، على كل شيء حتى وإن أبدى الخضوع، أحياناً وأنت في السجن، لكنك حر في أعماقك، فلا ترضخ لشروط لا إنسانية يحاولون فرضها.
* تقول دائماً إن حرية الإبداع لا تعطى.
ولا تأتي من الخارج، بل تنبع من داخل الشاعر، وينبغي على الشاعر أن يحافظ على إبداعه من الخطر.
* تعني أن هناك قوى شريرة.
لا ندري من أين، وليس مصدرها السلطة وحدها، هناك قوى شريرة من وسائل إعلام وبعض الجرائد، الشارع، الشجرة، الشمس، الذباب، كلها قد تتحول ـ في لحظة ما ـ إلى قوى شريرة.
* هل تخاف من هذه القوى الشريرة الموجودة مثل البكتريا في الهواء والماء وفي كل شيء؟
أنا أخاف منها ولا أفصح عنها.
* المرأة، المدينة، القصيدة، مثلث التأنيث الذي يسافر فيه شعر البياتي، أين وصلت بعد نصف قرن من السفر؟ كيف تكونت المرأة في شعرك؟
المرأة في القصيدة غير المرأة في الواقع، فجوهر الحب هو الأصل، والمرأة مظهر من مظاهر هذا الجوهر، لهذا فالحب في شعري لا يعني امرأة بالذات.
* البرجوازيون الصغار يتغنون بالمرأة صدقاً أو كذباً، يؤلفون ما يسمى بالقصائد الغرامية، ماذا عن شعرك؟
شعري لا ينتمي إلى هذا النوع، فالحب عندي يبدأ من امرأة واحدة، ربما ظهرت واختفت ذات يوم قبل خمسين سنة أو أكثر، لكن حبها ظل يحضر في صور شعرية، مثلما تظهر الآلهة في معتقدات الشعوب القديمة، في مظاهر الطبيعة بأشكال مختلفة.
* لكن القصيدة لا تعكس هذا التمظهر ـ إن صح القول ـ إنما تعكس جوهر الحب نفسه، بوصف الحب تجربة أو مغامرة عميقة تضع الإنسان على حافة الخطر، أو تجعله يشعر دائماً، أنه على حافة الخطر.
في بداياتي لم تظهر المرأة بشكلها المحدد الواضح، كما في «ملائكة وشياطين».
* المرأة في هذا الديوان أقرب إلى النموذج الرومانسي في الشعر العربي.
لكنه ليس النموذج الرومانسي لدى علي محمود طه أو السياب، بل هي امرأة لكنها لم تولد، تريد أن تولد لكنها تظل في حالة المجاز أو حالة المطر أو الما بين، بعد ذلك، تحاول المرأة أن تتعين في أباريق مهشمة.
* لكن ولادتها لم تتم تماماً في هذا الديوان.
ربما ظهرت المرأة جوهر الحب وشكله الحقيقي ابتداء من نتاجاتي منذ منتصف السبعينات، والتعبير عن الزمني والأبدي لهذه المرأة الأبدية، هو المرأة الأولى التي تمثل جوهر الحب، أما الزمني فهو التجلي للمرأة الأخرى وهي في حالة تحول.
* ألم تشع في ظلال هذه المرأة، مدينة ما؟.
هناك إشكالية في موضوع المدينة، فالمدينة ليست التي ولدت فيها، فالولادة لهذه المدينة كانت قد تمت، أو أنها لم تتم بعد.
* كيف تنظر إلى بغداد وأنت بعيد عنها؟
عندما أنظر إلى بغداد التي ولدت فيها لا أحس أنها بغداد القديمة، أو بغداد التي كان ينبغي أن تولد، إذ دخلت عوامل مختلفة شوهتها، وكلما قارب النضوج الاجتماعي والثقافي والفكري والحضاري على الاكتمال.
* دخلت عوامل على المدينة لتمزق نسيجها الحي، مثل الغزو الأجنبي، أو الداخلي، أو بالهجرة من الأرياف إليها أليس كذلك؟
نعم، ومثل هذه العوامل جعلت المدينة أشبه بثوب من الحرير أو النسيج، كلما أوشك على الاكتمال حلت خيوطه، ويبدأ من جديد، أحياناً بشكل فج وعشوائي لا بشكل أصيل.
* المدينة كما تعرف تحتاج إلى النضوج، والنضوج الحضاري لا يتم إلا بمزيد من المدارس والمتعلمين والمثقفين الهامشيين.
المدينة بوتقة للاختمار الروحي، وما لم يكتمل هذا الاختمار فلن تكون مدينة، بل مجرد فندق كبير ومجمعات سكنية.. بغداد الطفولة كانت بالنسبة إلي هي المدينة المثلى، إذ إنني كنت ألهو فيها أو أتجول في طرقاتها، وأتأمل فضاءاتها قبل انبثاق الوعي لدي، غير أني بدأت أعي بؤس المدينة والفقراء الذين يعيشون فيها، وبدأت الحقائق تتكشف لي.
* أخبرنا عن تلك الحقائق المتكشفة لك؟ كيف هي المدينة بعد مرحلة وعيك؟
وجدت أن هذه المدينة أشبه بمدينة مزيفة أو شحاذ يلبس رداء مكوناً من خرق متعددة ومختلفة الألوان، لهذا لم يكن البحث عن النموذج هيناً، كان أشبه ببحث المتصوف عن الله.
* مدن الضرورة ـ لكن هل وصلت إلى تخوم مدينتك المفقودة؟
حاولت في قصائدي أن أصنع نموذجاً للمدينة المثلى، لكن يبقى هناك فضاء بين المدينة الفضلى والواقع، معظم المدن في العالم مازالت مدن الضرورة لا مدن الحرية، مدن فيها بنوك، وسجون، ومدارس، وحدائق، وشوارع متربة، وذباب، ولصوص، وعيارون وشطار، يتجمع فيها الناس ويسرق بعضهم بعضاً بالقانون وغيره، وتهيمن عليها سلطة غاشمة.
* لكن هناك بقاع في العالم كادت تصبح مدن الحرية.
لكنها مازالت «مدن ضرورة»، الشروط الإنسانية فيها أهون، خصوصاً المدن الأوروبية، الإنسان الأوروبي حر.
* لكنه يخضع لساعات العمل واليقظة والذهاب إلى المصنع أو المؤسسة.
هنا أتذكر قصيدة لجاك بريفير يصف فيها عاملاً كان يذهب كل صباح إلى العمل، لكنه ذات صباح مشمس، قرر أن يهب هذا اليوم لنفسه لا لصاحب العمل، إنه تعبير عن هذه الظاهرة التي أشرت إليها، حاولت في شعري وصف نماذج من المدن.
تكملة الحوار بجزئه الثاني الأسبوع المقبل