مرت سبعٌ وستون سنةً، وكيانٌ غاصبٌ يسمى «دولة إسرائيل» يحتل أرضاً عربيةً ظلماً وعدواناً. كان قيام هذا الكيان عام 1948، باعتراف وإقرار أقطاب الاستبداد آنذاك، وأبرزهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. سبق ذلك القيام مراحل كثيرةٌ من التدبير والمكيدة، بداية ما ظهر منها للعوام من الناس كان مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897 الذي صرح فيه أئمة الكفر من الصهاينة عن مخططهم لجمع اليهود في أرضٍ واحدةٍ، إذ كانوا آنذاك متفرقين في بلاد الأرض المتباعدة، مروراً بوعد المشؤوم بلفور عام 1917 الذي رأى بسفاهته وتدخله الوقح أن تكون تلك الأرض -مجمع اليهود- هي أرض فلسطين، فبذلك أعطى الضوء الأخضر لليهود لاستيطان أرض فلسطين رسمياً، التي ليس له ولا لدولته ولا لليهود أنفسهم أي حق فيها. فعل ذلك بحكم قوة مملكته بريطانيا السياسية والعسكرية التي فاقت قوة العرب والمسلمين آنذاك. ومنذ ذلك الحين، تقوت الأمة المستضعفة -اليهودية- بالدول الكبرى فتكثفت هجرات اليهود من مختلف أصقاع الأرض إلى فلسطين، وقد كانت هذه الهجرات على شكل موجاتٍ تركزت في فتراتٍ زمنيةٍ.
كان أول تلك الهجرات هجرة (آلية الأولى) -كما يسميها الصهاينة- في الفترة ما بين 1882 حتى 1903، عقبتها هجرات (آلية) عديدة استغرقت كل واحدةٍ منها حقبةً معينةً من الزمن. وكلمة (آلية) كلمةٌ عبريةٌ تعني عند الصهاينة: عودة المنفيين إلى وطنهم الأصلي المسمى «إسرائيل» بزعمهم. مع العلم أن يهوداً كثيرين كانوا يعيشون في فلسطين جيراناً للعرب مسلمين ونصارى، آمنين مطمئنين قبل إقامة الكيان هذا.
كان هؤلاء المهاجرون اليهود الذين لم يكونوا يعرفون سوى بلدانهم التي هاجروا منها في أوروبا وأمريكا وغيرهما هم مادة العناصر البشرية والعسكرية اللازمة لإقامة دولتهم المخطط لها. صار الدخلاء الجدد يقيمون مستعمراتهم على أراضي الفلسطينين بحماية البريطانيين وعصابات الصهاينة المفسدة في الأرض، التي دأبت على إرعاب الآمنين من الفلسطينيين ونهب أموالهم. وأشهر تلك العصابات كانت الهاجانا والإرغون اللتين سبقتهما عصاباتٌ وتنظيمات أخرى كـ(بار جيورا) و(هاشومير).
تصدى الفلسطينيون وإلى جانبهم شرفاءٌ عربٌ لجنود الطاغوت أولئك، شهر منهم الفلسطينيان مفتي القدس أمين الحسيني والقائد عبدالقادر الحسيني، والشيخ السوري عزالدين القسام. وكان معهم آخرون لا نعلمهم ولم نسمع بهم، الله وحده يعلمهم، نسأل الله أن يتغمدهم جميعاً بواسع رحمته.
ارتكبت هذه العصابات بحق الفلسطينيين مجازر داميةً من أشهرها مجزرة دير ياسين، وكانت جيوشٌ عربيةٌ قد حملت على عاتقها رد عدوان هؤلاء، فأمرت أهالي القرى والمدن بإخلائها من النساء والأطفال والشيوخ إلى بلدانٍ وبلداتٍ مجاورةٍ بدعوى تقليل الأضرار البشرية الناتجة من المعارك الجارية لمدةٍ قدرت بأسبوعين إلى شهرٍ، ريثما يتحقق نصر العرب وتنتهي المعارك الضارية . إلا أن الأسبوعين تجاوزا إلى ما فوق الثلاثة آلاف أسبوعٍ (67 سنة)، ومازال العد جارياً.
كانت فلسطين قبل النكبة وطناً غالياً للكثيرين لم يعرفوا سواه، ومحطةً لمختلف الصناعات المربحة، ومقصداً للسياحة النظيفة الممتعة. كان من أهلها من أغناه الله بالمال الكثير والنعم السمينة والحقول الوفيرة والدور الفخمة وغيرها من الأملاك ما يأنف العربي أن يسومه بالذهب والألماس. وشاء الله أن يبتلي الناس، فلم يسلموا من التهجير من الديار، وذاقوا مرارة الشتات والتفرق واللجوء في الغربة بعد اللم والتجمع والقرار مع الأحبة. ولا اعتراض على قضاء الله.
فلسطين بأسرها جنةٌ من جنان الله البديع بمرتفعاتها الشماء وسهولها الخضراء ومياهها الرقراقة، فيها مسرى خاتم النبيين ومعراجه إلى سدرة المنتهى المبارك ما حولهما، حيث اصطف خيرة خلق الله من الأنبياء خلف الإمام الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الموقف التاريخي قائمين يصلون.
امتازت فلسطين عن غيرها من البلدان بفضائل كثيرة، وفي كلٍ خيرٌ. وذلك من فضل ربي وحده. فغدا أهل فلسطين مستهدفين من قبل المخذولين من البشر، فكذبوا عليهم بالزور الآنف ذكره -المحرم الآثم فاعله- ليبرؤوا أنفسهم من تهمة خذلان القضية كلما عوتبوا على ذلك، وحري بهم أن يسألوا أنفسهم إن كانت لهم بينة وبرهان على مزاعمهم أم أنهم يقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم؟؟ وحري بالعقلاء منا إن نحن أردنا إنجاز شيءٍ مما بحت الحناجر في الصياح به من تحرير للأراضي العربية المحتلة وتقرير حق العودة للاجئين وإلى آخرها من الأمور أن نتوب إلى الله من قول ما لا نفعل، فإنه يتوب على من تاب. ونحمد الله أن جعل في الأمة أيادي خفية تعمل نصرة للمظلومين، وإن ظهر لنا خلاف ذلك. وعلينا بعد التوبة أن ندع خلافاتنا فنحقق معنى الأخوة التي أتمها خير البشر صلى الله عليه وسلم ومثلها بأجمل الصور عند مؤاخاة المهاجرين والأنصار وإصلاح ذات بين أبناء العمومة، الأوس والخزرج، الذين تركوا خلافاتهم مركزين على غاية واحدة -إقامة الإسلام ونشره في العالم-، حتى أظهرهم الله على سائر العرب وقد كانوا قبل ذلك قلة مستضعفين. ليس من سبيل إلى النصر والتحرير إلا الأخذ بأسبابهما التي علمناها ربنا، وهي كثيرة. أرشدنا ربنا سبحانه وتعالى إلى ما تعز به حياة البشر وتطيب. أمرنا بسلامة القلوب من أمراضها لتحصل الأخوة فنعد القوة الضرورية امتثالاً لأمر ربنا، من قوة علمية واقتصادية وإعلامية وغيرها. أمرنا بالصدع بالحق ورد الأكاذيب. أمرنا بالعمل الدؤوب معرضين عن الجاهلين كما كان دأب رسول الله نوحٍ عليه السلام عند بنائه السفينة في وسط اليابسة وأعداؤه يسخرون منه، أمرنا برد الأمور والفاقات إليه والتوكل عليه. فنحن علينا الأخذ بالأسباب، وعلى الله إحداث النتائج. وبمثل ذلك، تسار مسيرة التحرير. وما ذلك على الله بعزيز.
نعم قد مرت سبعةٌ وستون عاماً مرارة الحنظل، خفف من مرارتها احتساب الأجر العظيم عند العلي الرحيم. لن ننساك يا فلسطين ما حيينا، فأنت آسرة الفؤاد.
أسامة الرميض