قدم ألوان الفنون الشعبية في فرنسا وألمانيا وجنيف وأستراليا
ولد بالمنامة في بيت العوجان وتعلم القرآن على يد خليل ملاهو
كان شغوفاً بالفرق الشعبية وبالحفلات العامة في الساحات والأعراس
أجر الفرقة لم يكن يتجاوز الـ 100 روبية منها 30 روبية للباص
دونها - يوسف محمد:
منذ فترة لم التق به ولكن كنت على اتصال مستمر معه في كل مناسبه، وكان آخر مرة التقيت به في مهرجان التراث الشعبي وبالتحديد في 28 أبريل 2015، وجدته «مقعد» على كرسي يستدير وجه نحو دوحة عراد بالقرب من قلعة عراد موقع إقامة المهرجان، توجهت إليه وسلمت وقبلت رأسه تقديراً واحتراماً لسنه، فالتفت إلي وكأني قطعت عليه حديثه مع البحر، وأول ما شاهدني لم يترك لي فرصة تكملة السلام والسؤال، فبدأ حديثه «ياولدييا يوسف حفظوا ما تبقى من فنون .. فكل شي راح واندثر»، «واللي راح ما يرجع وما بقى في العمر شيء» ولم أكن أدرك بأنها ستكون هذه آخر كلمة يوجهها لي وكأنها وصية وليست طلباً، ولم يمض شهر حتى وافته المنية ليترك حزناً وفراقاً كبيراً في نفوس أهله ومحبيه وكل من عرفه وتعامل معه، لينضم في ركب الفنانين الذين ترجلوا ورحل معهم إبداعهم وفنهم.
رحل عنا الفنان إراهيم المسعد رحمه الله .. هذا الفنان الشعبي الذي تولع بالفن منذ صغره حتى أصبح من أبرز الأسماء التي يشار إليها عند الحديث عن الفنون الشعبية في البحرين لما يحمله من خبرة ودراية واطلاع، هذا الفنان رضع الفن منذ نعومة أظافره حتى تمكن بداخله فضحى بالكثير من أجل الفن، وعانى من أجل أن يرضي هوى روحه.. فتعلم أصول الفن من منابعه وتربت آذانه وجوارحه على أصوات كبار الفنانين والفنانات الشعبيات، وتعلم منهم الصدق والأمانة والمحبة والأسلوب الراقي في التعامل، فهو من الفنانين المشهود لهم بطيبة القلب والسعي لمواصلة الآخرين ومد يد العون لكل من يرغب في تعلم الفن الشعبي وتوثيقه، فمسيرة إبراهيم المسعد في عالم الفن ليست سيرة تمر عليها بهدوء، بل هي سيرة تحكي قصة عاشق ومحب للفن أعطى الفن صحته وشبابه وحياته.. وفي هذه السطور أوثق سيرة فنان شعبي كلمسة وفاء لهذا الفنان رحمه الله الذي أعطى الفن الشعبي البحريني الكثير.
البداية
هو إبراهيم عبدالله إبراهيم المسعد من مواليد العام 1947م، ولد في المنامة في بيت العوجان، فوالدته من عائلة شويطر وكانت تسكن في المحرق ببيت العوجان مع بنات (أم منصور) وانتقلت للعيش في المنامة بعد زواج احدى بناتهم من (خالد العوجان) واستقروا لفترة من الزمن حتى انتقلوا مرة أخرى للمحرق وسكنوا في فريج بن هندي، تعلم مبادئ القرآن على يد المطوع (خليل ملاهو) في المنامة، بعدها انتقل إلى مدرسة الهداية الخليفية وخرج من مقاعد الدراسة في سن مبكرة ليعين أسرته خاصة بعد إصابة والده الذي كان يعمل في المالية عند السيد محمود، وعمل إبراهيم بدلاً من والده وواصل في عمله لدى السكرتارية وبعدها بديوان سمو رئيس الوزراء حتى خرج على التقاعد عام 2005م.
ولعه بالفن
منذ نعومة أظافره وهو متعلق بالفن الشعبي «وماخذه الطرب مثل مايقولون»، حيث كان يتابع بشغف الفرق الشعبية عند إحيائها الحفلات العامة في الساحات والأعراس، وبدأ يمارس الفنون الشعبية منذ أن كان في السابعة من عمره، حيث كان يشارك الفرق الشعبية ويقوم بدبغ وسلخ الجلود وشد الطبول وترقيم (الطار) والصقال ومساعدة الفرق الشعبية في التجهيزات، وكان يشعر بأن هذا الفن يتسلل إلى داخله بكل حب وولع في كل مرحلة من حياته، وكلما يكبر يكبر هذا الولع والفن معه، ولم يكن يهتم بشيء في صغره سوى الغناء ومشاركة الفرق الشعبية في كافة المناسبات، ولعل أول فرقة احتضنته وضمته معها كانت فرقة المرحوم الفنان الشعبي محمد بن حربان الذي وجد في إبراهيم الشاب المحب والمتحمس لهذا الفن، وتم ضمه إلى فرقته وهو في الخامسة عشرة من عمره، وواصل مع بن حربان يشاركهم الأعراس والمناسبات والعرضات، حتى قام بتأسيس فرقة خاصة به مع مجموعة من الأصدقاء وكان محل تجمعهم في (خان إبراهيم بوحجي) الواقع بالقرب من (دكان بديوي) بالمحرق وذلك في بداية الستينات.
وخلال هذه الفترة بدأت الدائرة تكبر وبدأت الطلبات تنهال على فرقة إبراهيم المسعد لإحياء مختلف المناسبات السعيدة كالزواج والختان والنذور، فانتقلوا من الخان إلى بيت في القسم الشمالي وسمي بدار إبراهيم المسعد، وفي هذه الدار لا يتوقف فيها الطرب فكلما تجمع مجموعة من الاصدقاء والمحبين كلما علت أصوات الطيران لتؤدي مختلف الفنون الشعبية في كافة الأوقات، كما كانوا يمارسون فنون الليوة والطنبورة، ويقول إبراهيم «كان الفن بالنسبة لنا هو الحياة ونجد في الغناء الراحة والفرح وكانت تجمعنا الأخوة والكلمة والحب المتبادل بيننا وكنا نشارك الدور والفرق الأخرى ونتعاون معهم، وكانت فرقتنا تؤدي جميع الفنون الشعبية». وإبراهيم رحمه الله من الفنانين الذين وهبهم الله ملكة الحفظ، فمن زود حبه للفن فكان يسمع الأغنية مرة وحدة ويحفظها على ظهر قلب، وكان متأثراً ومحباً لأسلوب الفنان الشعبي سعد بن سلطان ويقال من زود ما كان محباً له عندما يغني المسعد لا تفرق بين صوته وصوت سعد بن سلطان.
دار المسعد ومحمد سليمان
بدأ المكان يضيق عليهم فتم الانتقال إلى مبنى آخر، وفي هذه الفترة أصبحت علاقته بالفنان الشعبي محمد سليمان تتوثق بشكل أكبر حيث كان لمحمد سليمان فرقة شعبية في القضيبية واندمجوا ليؤسسوا دار إبراهيم المسعد ومحمد سليمان، وواصلت الفرقة إحياء الكثير من الحفلات المختلفة في البحرين وخارجها وكانت أغلب المناسبات تقام في براحة البيت أو فوق السطح، فيبدأ البرنامج بزفة المعرس وأداء الفنون مثل الخماري والعاشوري والسمرة والبستات، واذا كان البيت بعيداً عن سكنهم، فإنهم يقضون ليلتهم في بيت المعرس حتى الصباح وبعد الفطور تبدأ مراسم زفة الضحى وهم يؤدون مختلف الفنون حتى العصر ليرجعوا بعد ذلك إلى مكان تجمعهم بباص الحطب وهم فرحون بما قاموا بتأديته من فن ومشاركة لأفراح الآخرين، وكانت أجرة الفرقة في ذلك الوقت 100 روبية، يدفع منها 30 روبية للباص والشاي والباقي يتوزع على أعضاء الفرقة.
علاقته بالفرق الشعبية
خلال رحلته الفنية شارك رحمه الله المسعد مع أغلب الفرق الموجودة في البحرين، فقد كان يطلب لمشاركة (العديد) بالغناء أو العزف على الطار، فإلى جانب فرقته الخاصة فهو من الفنانين الذين رافقوا العديد من الفنانــات الشعبيات، وتعلم منهم الفن فقد لازم الفنانة (عيــدان السهالوة) الملقبة بالعبدة، كما شارك في فرقة أم دوخان وفاطمة الخضارية وخميسة بنت ريحان وأمنة السليم وسعيدة البديد وبنت مرزوق كما شارك مع فرقة الخبابيز لصاحبتها خميسة بنت إدريس، وشارك كذلك لفترة طويلة مع فرقة أم زايد وفرقة أم راشد وطيبة الفيروز، فقد تعلم منهم الفنون الشعبــية وحفظ منهم الكثير من النصوص الشعبية.
مشاركاته الفنية
مارس المرحوم إبراهيم المسعد أغلب الفنون الشعبية وفنون البحر والفجري، كما كانت له مشاركات بارزة في ممارسة فن الزار وبالذات الزار الحبشي، وقد شارك إبراهيم في هذه الحفلات من خلال مكيد (مريم العبدحمادة) و(خميسة بنت ريحان) و(عائشة بنت أم سعيدو) و(لطيفة السليم)، كما شارك مع كل من طيبة الفيروز وأم زايد وحمد بن منصور وهيا اليوسفية ومسباح وبوردو وعيسى الختال وعيسى بوليس وغيرهم، كما له العديد من التسجيلات والمقابلات التلفزيونية والإذاعية التي يتحدث فيها على الفنون الشعبية في البحرين، والعديد من الحفلات والمشاركات في دول الخليج العربي، إضافة إلى أنه قام بتمثيل البحرين في العديد من المحافل الفنية، وقدم فنوناً الشعبية في كل من فرنسا وألمانيا وجنيف وأستراليا، كما شاركت فرقته في العديد من الاحتفالات الشعبية التي كانت تقام في الساحات العامة والحدائق إضافة إلى مشاركاته في أغلب مهرجانات التراث التي كانت تقام في المتحف الوطني، وقد تم تكريمه في تاريخ 6 نوفمبر 2008م من وزارة الثقافة والإعلام في مهرجان البحرين الدولي للموسيقى 17 تقديراً لدوره في خدمة الفنون الشعبية في البحرين.
المسحر إبراهيم المسعد
في أواخر الستينات قام المرحوم إبراهيم المسعد بدور المسحر في المحرق يشاركه في ذلك الوقت عدد من المسحرين منهم راشد بن مطلق وبوغوة والمسحر مبارك والدالوب ومجلي، وقد انضم إبراهيم إليهم بعد انسحاب الدالوب حيث تم إحلال إبراهيم بدلاً عنه، وكان لكل مسحر طريق يسلكه لكي لايتعارض مع الآخر، وكان إبراهيم مسعد رحمه الله يخرج كل ليلة أثناء شهر رمضان المبارك من الساعة الثانية صباحاً حاملاً على كتفه الطبل وهو ينادي (سحور ياعباد الله) داعياً الناس للسحور، حيث تبدأ نقطة انطلاقته عند (بندكار) ثم يتجه شمالاً لبيت الزياينه والحادي مشرق على فريج القصابين ومأتم الكراشية، ليخرج على الشارع الرئيسي عند مستشفى الشيخ سلمان، ثم متخذاً شمالاً على (داعوس بن فلاح) حتى مدرسة خديجة الكبرى للبنات، ويمر على بيت بن مطر حتى يصل لبراحة من غتم، إضافة لتميزه وولعه بالفنون الشعبية، فقد عرف عن المرحوم إبراهيم المسعد بأنه صاحب ذوق وطباخ ماهر يجيد طبخ الكثير من الأكلات الشعبية البحرينية ويقصده الكثير من الناس الذين يجدون في طباخه اللذة والنكهة الطيبة حيث يصفه الكثيرون بأن «نفسه طيب في الطباخ».. والمسعد تعلم الطبخ من الفنان محمد سليمان، فقد كان له أسلوب مميز في الطباخ ومازال، حيث يقول إبراهيم «كنت أتابع محمد سليمان وأتعلم منه وبدأت أمارس الطباخ خاصة في الأعياد والمناسبات الكبيرة، وكان يعمل لدينا شخص هندي اسمه (اسحق) وكان له بعض المحاولات في الطباخ والذي تعلمه من والدتي رحمة الله عليهــا، فقمت بتدريبه وتعليمه الطباخ، أما الآن فدوري الإشراف المباشر على الطباخين وأكون في المطبخ أتابع سير العمل، ولم يعد لي القدرة على الطباخ مثل الأول»، إلا أن الكثير من العوائل البحرينية كانت تحرص على مشاركة إبراهيم المسعد رحمه الله أفراحها ومناسباتها من خلال الولائم المتميزة التي يعدها لهم.
شـجــون المـسـعــد
أكثر من 55 سنة قضاها المسعد من حياته في ممارسة أغلب أنواع الفنون الشعبية، إلا أنه في كل مرة التقي به أسمعه يشكي لي بنبرة المهموم والحزين المحب لتراث البلد وهو يقول «لقد اندثرت فنوننا ولم يتبق شيء.. لقد أخذ الله أمانته الكثير من الفنانين الذين يحملون هذا الفن دون أن توثق سيرهم ولا أعمالهم .. وبقي عدد قليل من الفنانين الذين لاحول لهم ولاقوة منهم من تخونه الذاكرة بسبب العمر ونسى ما يحفظه والآخر مقعد الفراش بسبب المرض والكبر»، وكان يوجه صرخة نداء لكل محب وغيور على هذه الأرض وتاريخها وفنونها، بأن يحفظوا ما تبقى وأن يلتفتوا إلى الفن لأنه عنوان الحضارة وشاهد على تراث هذا البلد، ولعل من المحزن حقاً عندما نعلم بأن في المحرق لم يتبق الآن إلا 4 دور فقط تمارس فيها الفنون الشعبية، وكل دار ترثى حال الدار الأخرى، فلا تتصور معي كيف هي حال دار إبراهيم المسعد رحمه الله الآن فهي تحتضر كما هي الدور الأخرى، وكم هو مؤسف بأن يكون هذا المكان الذي يجتمع فيه الفنانون الشعبيون وتضم جدرانه تاريخ وتراث هذا البلد بالحال الذي وصل إليه، حيث لم يتبق في هذه الدار إلى مجموعة صور للذكرى وكراسي فاضية يملؤها بعض الشياب الذين يجتمعون كل يوم جمعة من ليلة سبت يمارسون فن الفجري لعل مع آهات النهمة يفرجوا عن أنفسهم ويعبروا عن حالهم، حتى أصبحت في السنوات الدار خاوية لايتواجد فيها إلا المسعد وهو يتحسر على كل ركن فيها.
وفاته
في يوم الثلاثاء الموافق 25 مايو 2015م، تناقل خبر وفاة الفنان الشعبي إبراهيم مسعد عن عمر ناهز 68 عاماً وروى جثمانه الثرى بمقبرة المحرق لتتوسد معه للأبد ذاكرة شعبية فنية حملت فنونناً الشعبية وتاريخ الوطن الفني معه، تاركاً الحزن على كل من عرفه ولازمه وفراغاً فنياً كبيراً صعب أن يتعوض، فرحمة الله على الفنان إبراهيم مسعد الذي ستظل سيرته حاضرة بيننا.