السعي نحو التميز صنعة العظماء ودأب العقلاء، وهي ليست عن المثابر والمجد ببعيد، فكم من مغمورٍ بات مشهوراً، وكم من رائعين اليوم كانوا تحت أنقاض الفشل والخوف من المجهول، وفي سباق العطاء والرقي من تقدم لسان حاله يكون لمن تخلف عنه:
أبيت سهران الدجى وتبيته ** نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي (الشافعي)
معظم البشر يؤثر الراحة على الجهد والمشقة، ويقدم الهناء والرغد على العمل والإنتاج، ويسره أن يعيش ويموت هو هو، بلا أثر له يذكر أو سمعةٍ بها يجهر، فأولئك في خريطة الحياة هم الأصفار على الشمال، والقليل من ينشد التغيير والتطوير، ويتجرد من عباءة (عادي) أو (النسخ المكررة) ليكون شيئاً في الحياة.. ليكون غير عادي!
اثنتان أحسب أني لم أعرف أو أقرأ عن أحد يمتلكهما إلا كان مميزاً عن غيره:
أولًا: المعرفة والفكر، فمن تسلح بالمعرفة ثبت دليله، ومن تجرع الفكر قويت حجته، وبهما يعيش المرء عمراً غير عمره، ويقول كلاماً يفوق به عقول أقرانه، فلا يحفظ (قال فلان) عمياناً، بل يمحص ذلك القول فكرياً ويتعرف على الآراء ووجهات النظر، وثم ينطلق برأيه المبني على الدليل والحجة، فتراه إذا تكلم أسمع وإذا غرد الكل (رتوت)! وفي ابن عباس وابن عمر لنا خير مثال وقدوة.
ثانياً: المهارات والقدرات، فمن امتلك المهارة وأحسن توظيفها كانت فرصته للتأثير أكبر، فقد كان يقود جيوش المسلمين رجل القيادة خالد بن الوليد، والخطيب المفوه هو الذي على المنبر، والكاتب الفذ هو صاحب العمود الساخن، والمصمم والمخرج البارع هو الذي يتهافت على إنتاجه الجمهور، وهلم جراً، فالمهارات والقدرات عالم واسع، وحتى لا تحتقر نفسك، فبعضها يوهب وأغلبها يتعلم!
وما إن تجتمع الاثنتان في إنسان حتى يكون شخصاً غير عادي، مؤثراً ومنتجاً، عالماً وعاملاً، واضعاً قول الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- نصب عينيه: «العلم بلا عمل جنون.. والعمل بلا علم لا يكون»، فهنيئاً لنا بكم، وسلاماً لكم يا من تقودون البشرية.. فكم نحتاج لأمثالكم!
نوح الجيدة