كتب - علي الشرقاوي:
تظهر نكهة «رمضان لول» لدى الأطفال بـ«سحور اليهالو» كأولى الخطوات للدخول إلى سحره، ويتحول الفريج إلى حركة دائبة، ما بين قوافل الأغنام نحو مقصب الحورة لتوفير اللحوم اللازمة للشهر الكريم، وتصفير القدور من أجل صناعة «الهريس».
ربما ينسى الواحد منا، وهو يركض كالمجنون خلف لقمة العيش، هذه اللقمة التي حولت ومازالت تحول الإنسان إلى عبد لها.
ربما.. ينسى الواحد منا، وهو يدور في خضم المشاغل التي لم تكن مبرمجة ضمن مشاريعه اليومية، فتقذفه خارج الوقت.
قد ينسى أشياء كثيرة.
ولكن دائماً هناك شيء خاص حميمي، أليف، لا يمكن أن يقف إلا خارج دائرة النسيان.
وهكذا كان رمضان بالنسبة لتجربتي الحياتية. حضور طاغ، مذاق خاص وطعم مختلف. وربما أقول، في هذه اللحظة الممتدة إلى جذور ذاك الزمن، إنه الشرنقة التي خرجت من خيوطها، لا كون صبياً يحمل طراوة الفرح في أعشاب الحزن.
وكما يدخل الطفل البحر. دخلت الدهشة، ربما لا تكون الأولى، ولكن حتماً هي الدهشة التي زرعت داخلي بأضواء مختلطة وقذفتني إلى داخلها. فارتجفت.
نعم ارتجفت كالقط. ارتجفت وأنا استبدل لأول مرة في حياتي كلمة بكلمة أخرى. لا تسألوني متى؟!
رمضان أو سحور اليهالو
قبل أكثر من ثلاثة أسابيع من رمضان، كنت في زيارة أختي، أم جمال في بيت ابنتها أم عبدالرحمن وزوجها طارق المران، وكان تدور في بالي، بعض روائح رمضان الذي عرفته قبل دخولي مرحلة الصيام، فقد كنا صغاراً، في مرحلتنا الطفولية المبكرة، قبل مرحلة القدرة على ممارسة الصيام، كباقي خلق الله، أذكر أن والدتي، الله يرحمها، كانت تصحينا، أختي وأنا، هي في الواقع ابنة خالي، وأختي من الرضاعة، فقد قامت والدتي برضاعتها معي بعد وفاة والداتها، ولذلك كنا قربين من بعض إلى درجة كبيرة. الله يرحمها هي الأخرى رحلت عن عالمنا بعد رحلة اليتم التي عاشتها في طفولتها والغربة في حياتها، غربة وطن وغربة أهل وغربة حياة.
المهم أنه في ليلة السابع والعشرين من رمضان، أيقظتنا والدتي لكي نتسحر مع الصائمين في البيت، وكان هذا هو السحور الأول، السحور الذي من خلاله بدأت رغبتنا في الحلم أن نكون صائمين في رمضان المقبل. لكي نتسحر ونأكل في وقت غير مألوف لنا.
وكنت قبل فترة أريد أن أكتب عن هذه اللحظة التاريخية التي عشتها وربما عاشها غيري، متردداً في طرح اسم اليوم، ولكن اسم الليلة غائباً عن ذاكرتي، فارتأيت أن أسأل أختي أم جمال عنه وقلت لها ذلك، فصححت لي معلوماتي، وقالت إنه يسمى (سحور اليهالو).
بعدها عرفت أن سحور اليهالو، هو نوع من أنواع التدريب على أن يصحو الطفل ليلاً، للسحور في رمضان، وعرفنا أيضاً أنه لا يجوز الصيام دون أن يتسحر الإنسان، وإلا كان صياماً ناقصاً.
الشارع قبل أيام من رمضان
نحن أطفال فريج الفاضل، في مساحة الطريق الواقع بين بيت يوسف فخري (المستأجر من بيت بوحيمد) وأمام بيت العجاجي الذي كان أكبر البيوت تقريباً على شارع أبو العلاء الحضرمي، كنا في كل عصر ننتظر قوافل الأغنام التي يقودها الرجال من عدة مناطق من فرجان المنامة إلى مقصب الحورة. كان المكان الذي نلعب فيه، ممراً يومياً لهذه القوافل التي تقاد إلى ذبحها، من أجل توفير اللحم اللازم لرمضان، خاصة وأنه في تلك الفترة لم نكن نرى الأغنام تسرح وتمرح في شوارع الفريج، ربما بسبب وجود قوانين بلدية تمنع إطلاق الأغنام في الطريق، كما يحدث في قرى ومدن أخرى كأم الحصم والبديع والرفاع. وغيرها من المناطق التي تتحرك فيها الأغنام دون أن يضايقها الناس.
الهريس
الهريس هو أحد الأكلات الشعبية التي لا يستغني عنها الإنسان البحريني في رمضان، لذلك يبدأ قبل رمضان بطحنه بالصورة التقليدية، وهو ما يسمى دق الحب، وتجهيزه قبل رمضان بعدة أسابيع.
دق الهريس: والهريس هو حبوب القمح المطحونة استعداداً لقدوم شهر رمضان. تقوم الأسر الكبيرة والغنية بشراء كميات كبيرة من الحبوب، ثم تدعو فريقاً من المتخصصات لطحن حبوب القمح وهن يؤدين حركات تعبيرية على أنغام أغنيات تؤديها إحدى الفرق النسائية. عن دق الحب نقرأ في العدد 21 من مجلة الثقافة الشعبية وفي باب (عادات وتقاليد) عن دقاقات الحب يقول الكاتب:
كان من المألوف في شهر شعبان، أن يرى الواحد منا خلال تطوافه في أزقة المنامة منظر دقاقات الحب وهن منهمكات في ضرب الحب بالمدق في مناحيز كبيرة من الخشب لإزالة القشرة عنه حتى يكون صالحاً لعمل أكلة الهريس الذي لا تخلو منه وجبة من وجبات شهر رمضان. وإن دق الحب مهمة كانت تستعد لها النساء مبكراً في البحرين لصنع الهريس. ويحدث أحياناً أن تقوم دقاقات الحب بترديد بعض الأغنيات ذات الإيقاع الأخاذ خلال ممارستهن عملهن، ومن هذه الأغاني الأغنية التالية:
أجمل صبري على دار الحبيب إبراك
ومن مدامع عيوني ترسن إبراك
يا ريشة العين عيني بلدجى تبراك
والله لا عصى جميع الناس وأطيعك
وأحارب الكون كوني من أصابيعك
والناس ما هي سوي وأنظر أصابيعك
وان ردتني في لك يا حلة الأبراك
سوق الصفافير
وهذا يقودنا إلى تذكر انتعاش مهنة الصفافير قبل رمضان، حيث يدور الصفافير في الفرجان ويقومون بتصفير قدور النحاس، أمام البيوت، ففي كل بيت هناك قدر أو أكثر يحتاج إلى التصفير ليكون جاهزاً لطبخ الهريس، وعادة ما يكون هناك أكثر من صفار، يطرق على البيوت ويسألهم إن كانوا يريدون تصفير قدورهم، ولذلك يجمعون القدور من البيوت، ويبدؤون بتصفيرها عن طريق وضع الرمل الساخن في القدور وتحريك سطح القدر من الداخل بأرجلهم، أما أطراف القدر، فتكون اليد المملوءة بالرمال الساخن، والقماش، أو قطعة الخيش، هي الطريقة الوحيدة لإعادة اللون الفضي إلى القدر. كان المردود قليلاً، ولكن لأن هناك الكثير من البيوت التي تطلب تصفير قدورها، لذلك كما قلت يعتبر انتعاشاً جيداً لهذه المهنة التي ترى في رمضان عيدها السنوي وقد كان للصفافير سوق قوي، استطاعوا من خلاله أن يقوموا بدورهم في إنعاش الاقتصاد البحريني في فترة الغوص، فهم من يقوم بصنع السريدان (وهو عبارة عن صفيحة كبيرة مغطاة من ثلاثة جوانب ومفتوحة من جانب للقيام من خلالها بوضع قدر الطبخ أو غوري الشاي، وتحضير الجمر للكدو (النارجيلة) وأيضاً للكي، إذا احتاج له أحد البحارة وهو في عرض البحر.