رغب الله العباد في التماس محبته إياهم. أرشدنا إلى أسبابٍ كثيرةٍ تحصل بها تلك المحبة التي تربح الإنسان معية الله وهدايته بأن يكون الرب سبحانه سمع محبوبه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به بإخبار رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم. والمتمعن في كلام الله يستنبط صفاتٍ عديدة معينةٍ ينال بها البشر هذه المحبة كالإحسان والتوكل، وذلك في الآيتين: {إن الله يحب المحسنين} و{إن الله يحب المتوكلين}. وعلى نقيض هذه الصفات الحميدة، هناك صفات وأفعال ذميمة حذّر الله من إتيانها كيلا تدفع هذه المحبة عنهم. ولهذا كره المؤمنون الاختيال والتكبر والخيانة وكفران النعمة والإسراف. أخبر الله عن نفسه: {إنه لا يحب المسرفين}.
صور الإسراف في حياتنا عديدةٌ، منها فتح حنفية الماء كاملةً أثناء الوضوء وغيره في الوقت الذي يكفينا فيه كمٌ قليلٌ من الماء لإتمام المهمة -كما كانت طريقة خير الخلق عليه الصلاة والسلام-، ومنها أيضاً العادة السيئة من وضع ضعف كمية الطعام الكافية في الصحاف والصحون، التي تؤدي إلى فضل كمياتٍ ترمى فيما بعد في حاويات المهملات، غافلين عمن تقرقر بطونهم من الجوع وتشقق عروقهم من العطش. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به}. وصفنا الله سبحانه وتعالى بخير الأمم المخرجة للناس، كل الناس، بأمرنا بالمعروف من إغاثةٍ للملهوفين وإطعامٍ للطعام، وبنهينا عن المنكر كالإسراف والتبذير. فكيف ومنا من لا يتحرج أن يرمي فضلة طعامه في القمامة وأناسٌ كثر على هذه الأرض يموتون جوعاً وظمأ؟! فلنحاسب أنفسنا أولاً قبل محاسبة الآخرين على رفع الدعم عن اللحوم، فلعل الله يريد أن يشعرنا بعظم النعمة التي لم نؤد حقها عندما ملأنا الصحون بأكثر من حاجتنا، فأكلنا ما أتخمنا وصيرنا الباقي منه إلى حاويات القمامة. يقول الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ}، والحمد لله على عفوه عن الكثير.
ومن الأمثلة الأخرى على الإسراف، إبقاء الأجهزة الكهربائية مشغلةً في الأوقات التي لا يستفيد منها أحد، كأن يخرج المرء من غرفته أو مكتبه لمدة دقيقةٍ تاركاً المصابيح مضاءةً، مستعظماً أن يطفئها لأجل ذلك الوقت القصير. ومثالٌ آخر، استخدام وجهٍ واحدٍ من الورقة البيضاء ذات الوجهين النظيفين للكتابة أو الطباعة عليه بدلاً من استخدام كلا الوجهين، ما يعني استخدام ورقتين بدلاً عن ورقةٍ واحدةٍ، وألف ورقةٍ بدلاً عن خمسمائة ورقةٍ كفيلةٍ بإتمام المهمة. وبهذا القياس، كمياتٌ كبيرةٌ من الأوراق والأموال تهدر بسبب هذا الفعل فقط. وغير هذه عادات أخرى عديدةٌ نفعلها قد لا يبدو أثرها السيئ في النطاق الفردي الضيق على المدى القصير، ولكنه ظاهرٌ جلي في النطاق الجماعي الواسع على المدى البعيد. ولهذا، فكل أعمالنا مسجلةٌ، صغيرها وكبيرها، بنص الكتاب: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}. قال خير المعلمين عليه الصلاة والسلام: {لا تحقرن من المعروف شيئاً}. فديننا يعلمنا ألا نحقر أي شيء، خيراً كان أم شراً. وكفى مثلاً وعبرةً بالمرأة الناسكة التي عذبها الله بسبب هرةٍ ظلمتها فلم تغن عنها صلاتها ولا صيامها شيئاً، نسأل الله العافية، وبالبغي التي جزاها الله سلعته الغالية بكلبٍ سقته له تعالى.

أسامة محمد الرميض