بقلم - د.خالد الرويحي*:
لعل البعض منا لازال يعتقد -إلى الآن- بأن حروب الفضاء الرقمي هي ضرب من الخيال العلمي، كما هو مشاهد في أفلام هوليوود (Science Fiction). وقد رأيت هذه القناعات لدى العديد من المشاركين في المؤتمرات الإقليمية التي عقدت مؤخراً. والواقع المعاش يثبت أن هذه الحروب قد بدأت بالفعل، وهناك عالم غير مرئي تحدث فيه صدامات ومعارك بشكل يومي، ربما لا يعلم بها الكثير في مجتمعاتنا التقليدية.
ولابد لنا أن نعي حقيقة أننا نعيش في عالم مختلف اليوم عما كان عليه في السابق. فهناك استثمارات تقدر بالمليارات في الفضاء الرقمي، وهي كلها استثمارات، ربما تكون غير ملموسة فيزيائياً، ولكنها منتجات حقيقية لشركات عالمية وزبائنها من جميع أنحاء العالم.
وليس الهدف هنا شرح ماهية الحروب الرقمية أو أدواتها، ولكن الحدث الأبرز الذي أعلنت عنه روسيا في الأسبوع الماضي -وهو نجاحها في تصميم جيل جديد من الصواريخ الدفاعية القادرة على شل حركة الأسلحة الهجومية المستخدمة في حروب الفضاء الرقمي- له العديد من الدلالات المهمة، والتي سوف يبدأ معها عصر جديد لسباق التسلح بين الدول العظمى، وتصبح فيه الدول النامية -خصوصاً دول الشرق الأوسط- ساحة مناسبة؛ لتجربة هذه الأسلحة الهجومية من جهة، والدفاعية من جهة أخرى.
الأنظمة الرقمية الهجومية
لقد جاء الإنجاز الروسي بمثابة رد دفاعي حاسم على السلاح الهجومي الذي نجحت في تطويره مختبرات أبحاث القوات الجوية الأمريكية (AFRL)، بالتعاون مع شركة بوينغ المتخصصة في صناعة الطائرات، من خلال مشروع بحثي بدأ في عام 2012، وتم الانتهاء منه في مايو 2015. والصاروخ الأمريكي المطور يحتوي على نظام رقمي متقدم جداً، يقوم في لحظة انفجاره بإرسال موجات كهرومغناطيسية ذات طاقة عالية جداً مضادة للأجهزة والأدوات الإلكترونية التقليدية والرقمية المتقدمة، وأطلق عليه اختصاراً اسم «تشامب» (Champ). وعلى الرغم من أن هذا الصاروخ غير فتاك بالمفهوم التقليدي، أي أنه لا يتسبب في تدمير الأفراد أو المنشآت، إلا أنه قادر على شل حركة الأماكن المستهدفة تماماً عن طريق إيقاف عمل أجهزة الرادار وأنظمة الحاسوب، وتدمير قواعد البيانات التي تغذي أنظمة التحكم، وتعطيل انتقال المعلومات بين الأجهزة. ويمكن برمجة منظومة الصواريخ «تشامب» لاختيار أهدافها عبر تضمين الترددات الكهرومغناطيسية للأجهزة والمعدات المستهدفة، وبالتالي ضمان اختيار الأهداف بدقة متناهية.
روسيا تنتج أول سلاح دفاعي لحروب الفضاء الرقمي
بعد سلسلة من المحاولات المتواصلة، بدأت منذ العام 2007 -حينما تم مهاجمة البنية الأساسية للحكومة الإستونية بسيل من البيانات الرقمية العشوائية- إلى أن تم تعطيل قواعد بياناتها الرسمية، حفلت ساحات الفضاء الرقمي بالعديد من الأسلحة الهجومية، تتباين في تعقيدها وبالتالي قوة تأثيرها، على حسب الجهة المنتجة لها. ولكن من الناحية الدفاعية، فإن السلاح الروسي -الذي تم الإعلان عنه بصورة مفاجئة بالنسبة للخبراء والمهتمين بأسلحة الفضاء الرقمي- هو ما يبين حجم السرية التي يتم بها تغليف الأبحاث والمشاريع المتعلقة بتطوير أسلحة الفضاء الرقمي. وهي مخاوف في محلها؛ بسبب القرصنة الرقمية وأعمال التجسس الصناعي، بالإضافة إلى احتمالية الولوج لأنظمة العدو، طبقاً للأدوات والبرمجيات التي يتم تطويرها بشكل مستمر من قبل مراكز الأبحاث في مختلف دول العالم، والحصول على تفاصيل المنتجات حتى قبل الانتهاء من تصميمها النهائي.
والصاروخ الروسي الجديد الحامل للرأس الرقمي -إذا صح التعبير- هو صاروخ أرض - جو، لكنه لا يهدف لإسقاط الطائرات كما هو متعارف عليه في الحروب التقليدية، فهو يحمل جهازاً رقمياً يحتوي على منظومة إلكترونية متقدمة قادرة على إيقاف نظام التشغيل في الطائرات بدون طيار «درونز» (Drones) قبل وصولها لأهدافها بمسافة تقدر بحوالي 10 كيلومترات، في محيط دائري اتساعه يمتد إلى 360 درجة.
بمعنى آخر؛ فإنه يمكن القول بأن الحكومة الروسية نجحت في إنتاج سلاح سيجعل من أنظمة «درونز» لا قيمة لها في الوقت الحالي على الأقل، إلى أن يتم تطوير سلاح آخر مضاد لهذا الصاروخ أو تغيير منظومة عمل «درونز» كلياً. ويبقى الفيصل في هذا الأمر هو السعر المتوقع لبيع الصاروخ، مقارنة بأسعار الأنواع المتقدمة من أنظمة «درونز»، وهو ما يمكن مقارنته نظرياً بصواريخ «سكود» و«الباتريوت» اللذين اشتهرا في حرب تحرير دولة الكويت في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
حروب الفضاء الرقمي.. أين موقعنا؟
نستطيع القول الآن بأن حروب الفضاء الرقمي قد انتقلت من مرحلة العشوائية، وهي المرحلة التي كان يتم فيها الهجوم على أهداف محددة بواسطة برمجيات خبيثة يتم تطويرها لتدمير هدف معين، مثل الدودة الرقميّة التي أطلق عليها اسم «ستاكسنيت» (Stuxnet)، والتي تم تطويرها في مشروع مشترك بين خبراء أمريكيين وإسرائيليين؛ لتدمير أنظمة التحكم في أجهزة الطرد المركزية للمفاعلات النووية الإيرانية عام 2010. وعلى الرغم من نجاح هذا الهجوم في ذلك الوقت، إلا أنه يظل بدائياً في حروب الفضاء الرقمي، إذا ما تمت مقارنته بما تم تطويره من أسلحة تدميرية خلال السنوات القليلة الماضية، حتى وصلنا لمرحلة الأسلحة الهجومية والدفاعية.
لذلك فإن الواقع الذي نعيشه حالياً، وسرعة وتيرة تطور الأحداث فيه، يتطلبان من كافة مؤسسات المجتمع في دولنا، وخاصة دول الخليج العربية، مواجهة هذه الأحداث والتطورات بما يتناسب مع عصر المعرفة، الذي باتت التقنيات العالية هي العامل المؤثر الأكبر فيه. ويجب علينا الاستفادة من المشاريع التي تبنتها الدول المتقدمة لتطوير مجتمعاتها، وخصوصاً التجربة الروسية في عصر الرئيس بوتين، الذي نجح في تقوية دولته وأرجعها إلى دائرة المنافسة العالمية في أقل من عقد من الزمان. إن مجتمعاتنا بحاجة لمشاريع نوعية قادرة على توجيه الشباب، لخلق جيل جديد يستطيع إدارة المستقبل، ضمن التطورات المشاهدة والتوقعات التي قاربت على الحدوث. وإنني على يقين بأن دولنا قادرة على خوض هذا المضمار لوجود الكفاءات الخليجية المخلصة من جهة، ولرغبة الحكومات في التنمية والتطوير من جهة أخرى.
* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»