كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
المطر هو شكل من أشكال قطرات الماء المتساقطة من السحاب في السماء. وأنواع الأمطار ثلاثة، أمطار تصاعدية وهي التي تحدث بسبب تمدد الهواء الرطب القريب من سطح الأرض، والأمطار التضاريسية وتحدث بسبب التقاء الرياح الرطبة القادمة من البحر بمناطق مرتفعة، والأمطار الإعصارية وتكون بسبب التقاء رياح مختلفة في درجة حرارتها ورطوبتها. والمطر ضروري للحياة، لأنه يمد الإنسان والحيوان والنبات بالماء، ويلاحظ أن مظاهر الحياة تكاد تنعدم في المناطق التي تعاني قلة الماء، أو قلة سقوط الأمطار عليها. وتساعد الأمطار على منع فقدان التربة السطحية القيمة بإيقاف العواصف الرملية. كما إن الأمطار تنظف الهواء من الغبار والملوثات الكيميائية. ويمكن أن تكون الأمطار ضارة أيضاً مثل ظاهرة المطر الحمضي التي تتشكل عندما تتفاعل الرطوبة مع أكاسيد النيتروجينوثاني أكسيد الكبريت. وتنبعث هذه المواد الكيميائية من المركبات والمصانع ومحطات توليد الطاقة. وتعمل هذه الأمطار على تلويث مياه البحيرات والجداول، مشكلة بذلك خطورة على الحياة المائية، كما تلوث الأمطار الحقول مسببة تلفاً للمحاصيل، والأشجار والتربة. فكثرة الأمطار قد تخلق اضطراباً في الاتصالات وتسبب الفيضانات وتدمر الممتلكات وتسرع فقدان التربة السطحية.
يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب:
«عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ،
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهرْ
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما، النجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر!
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر...
مطر...
مطر...
مطر...
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ.
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:
بأن أمه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ..»
لابدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.
مطر..
مطر..
أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع،
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – هو المطر!
أين هو زمن المطر؟
استفزتني هذه الكلمات للكتابة عن زمن المطر في دفتر أيامنا الجميلة والخوض في النقع والسباق من أجل البحث عن حبات الثلج الجميلة «البردي» التي كنا نفرح بجمعها في حضن أثوابنا الصغيرة على أمل إيصالها إلى البيت لكنها تذوب وتنتحر قبل أن نصل بها إلى حوش البيت. نتحسر ونبكي ونحاول العودة من جديد للبحث عن مجموعة جديدة لكنها كغيمة الصيف كانت قد رحلت بعد أن أشرقت الشمس وتبددت الغيوم ولم يتبق من ذكراها إلا القليل من البرك الصغيرة «النقعة» التي نحولها إلى ملعب مائي للكرة والسباحة معاً.
ورغم أن أنشودة المطر بعيدة عن أحلامنا الصغيرة بل هي أكبر بكثير من تلك الأحلام إلا أنها تطوف على جروحنا بأنشودة تنبش كل الجراح العربية وتمتزج الفرحة بالدمعة في كلمات جميلة لشاعر كبير.
للمطر مكانة خاصة في مجتمعاتنا العربية، قديماً وحديثاً، فطالما مثل مصدراً للإلهام لدى بعض الشعراء والكتاب. وبطبيعة الحال، لم تتأطر حكايات التعبير عن الابتهاج به لتنحصر في نمط مكرور وباهت، بل توالدت وتعددت لتصوغ روحية أهازيج وأغانٍ شعبية رقيقة وشيقة تعكس الفرح بقدومه فتصف بهاءه وجماله. وقد غدا المطر مع هذا، عنواناً نادراً لفرحة الكبار والصغار معاً، وشعاراً لدلالات المحبة والوئام في المفهوم والعرف الاجتماعي، ليترسخ كمناسبة مهمة لجلو الحزن والكآبة من قلوب البشر، بموازاة غسله وإروائه الشجر والحجر.
لقد أفرد التراث العربي مساحة مهمة لأهازيج المطر، والتي دأب الأطفال والنساء وحتى كبار السن، على التغني بها، خصوصاً عند انحباس المطر وتأخره، لتبدو هذه حالة فريدة من نوعها في التراث العربي، رغم اختلاف مسمياتها في مختلف الأقطار العربية، لتسمى في قطر: «طق طق». وفي فلسطين: «الشوربانة».
فيروز كانت حاضرة في المطر
من المقالات الجميلة التي كتبت تستذكر المطر ليس في منطقة محددة من بيتنا العربي لكنها جالت في العديد من مناطق، مقال جميل كتبه غسان خروب عن دار الإعلام العربية
«شتي يا دنيي .. تيزيد موسمنا ويحلا». هذا مقطع من أغنية طالما رددناها جميعاً من بعد السيدة فيروز، وهي من أشهر الأغنيات الحديثة التي تتلاءم في إيقاعاتها مع موسم الأمطار. وهي ليست الأغنية الوحيدة في العالم العربي، وإنما تعد جزءاً بسيطاً من مضمون التراث العربي في هذا الشأن، والذي أوجد مكانة مهمة لكلمة المطر في أبيات الشعر والأهازيج الشعبية، وكذلك الذاكرة الشعبية العربية، حيث قيل في كلمة المطر، الكثير من الأبيات الشعرية، وتحوّلت من مجرد وصف لقطرات المياه المتساقطة من السماء، إلى تصوير وتجسيد لحالات الحب والاغتراب.
أطفال الإمارات والمطر
في التراث الإماراتي، دأب الأطفال قديماً على ترديد مجموعة من الأهازيج، فرحاً بالمطر وطلباً له، كذلك العزلة في بعض الأحيان. يجد المطلع أو الباحث في التراث العربي، ورغم اختلاف الأقطار العربية، العديد من الأهازيج الخاصة بالمطر، والتي تردد كلمات عذبة في مزيج لحن شجي يتكامل في إطار وقالب الطقوس المخصصة لعادة أو عرف مجتمعي يقص حكايات اللهفة والشوق والانتظار والحاجة إلى قدوم المطر، وذلك طبعاً في حالة تأخره واحتباسه، في المقابل في التراث العربي هناك عدة أهازيج تقال فرحاً بنزول المطر:
«طاحت عليه نفه .. قوموا اشترولي دفه
طاح المطر برعوده .. كسرحوي سعوده
طاح المطر بيد الله .. كسرحوي عبدالله
طاح المطر من فوق .. كسرحوي بن طوق».
ولقيت هذه الأهزوجة، وتحديداً في الإمارات، شهرة واسعة، لدرجة أن المخرج أحمد المنصوري، مدير قناة سما دبي، حولها، العام 2010، إلى أوبريت غنائي جميل، عنوانه :»طاح المطر». وهو مستوحى من بيئة الإمارات وتراثها، ويتناول موضوع «المطر» الذي يشكل في نزوله، حالة فرح دائمة لدى الناس في المجتمع، إذ اعتمد المنصوري على ثيمة تراثية قديمة كان الأهالي يتغنون بها عند نزول المطر وهي:
«طاح المطر برعوده/ كسر حوي سعوّده» وذلك طبعاً، مع بعض التحوير فمن خلال هذه الجملة أسس بنيان الأوبريت الجديد، والذي يتكون من أربع لوحات،
كما تصور أهزوجة إماراتيه أخرى، أشكال التغني والفرح بالمطر:
«طاح المطر بيد الله
الله ايخلي عبد الله
عبد الله ربه الله
طاح المطر بيد الله
كسر حوْي عبد الله
طاح المطر بغيومه
كسر حوْي مريومه».
أما عند مشاهدة الغيم في السماء صيفاً، فكانت تهزج النساء الإماراتيات:
«غيم إلا دمامة .. والمطر وقته فات.. طوق وحط عمامة.. واصبر على الخلات انهى.. والشهامة أبو لولها الضيجات...».
في البحرين يعشقون المطر كما أهل الخليج
يجد من يدقق في مضمون التراث الخليجي، أن هناك كثيراً من الأشياء التي يتشارك فيها أهالي الخليج، والتي تعد من أبرزها أهازيج المطر وطرق استقباله وعملية الاستسقاء في حالة تأخره، وهي من الأمور البارزة التي يتشارك فيها أهل البحرين مع بقية أهالي دول الخليج، فالناس في قطر والكويت والسعودية لا يختلفون في طرق استقبالهم لهذا الضيف الجميل عموماً، يكادوا يتشاركون في الأغنية ذاتها، مع بعض الاختلافات، بين بلدانهم وإن كان للهجة التي يتغنون بها الدور البارز ففي البحرين تجد الأطفال مرحبين بالمطر مرددين:
«طق يا مطر طق..
بيتنا جديد.. مرزامنا حديد».
وأيضاً، ورد في التراث حكاية شيقة عن أن الأطفال في البحرين كانوا قديماً، وعند نزول المطر، يخرجون إلى الشوارع للاستمتاع به، وكانوا يصنعون قوارب صغيرة لتبحر في السيول «النقع» التي تخلفها الأمطار، ومن الكلمات الموروثة للتعبير عن سقوط الأمطار، وهي رمز للخير، ومن أشهر أهازيج البحرين في هذا الخصوص:
«طك يا مطر طك ... طك يا مطر طك..
يا الله تزيده يا الله تزيده... وترحم عبيده
طق يامطر طق بيتنا جديد ومرزامنا جديد...طك يا مطر طك».
وفي الكويت، كان الصغار يرددون أهزوجة أخرى، عند هطول المطر، فيقولون:
«يا أم الغيث غيثينا
خلي المطر إيينا
بلي إثويب راعينا».
ولكنها أيضاً لم تكن ببعيدة عن أغاني المطر في البحرين وبقية الدول الخليجية، حيث إنهم يجتمعون على أغنية طق يامطر طق بيتنا يديد مرزامنا حديد، وقد استخدمت في العديد من اللوحات الغنائية والأوبريتات الغنائية في كل دول الخليج العربي ما يبعث على أن هذه الدول تلتقي في العديد من ذاكرتها وتاريخها وحتى حاضرها الذي تعيشه اليوم.
أهازيج المطر عند أطفال العراق
في المقابل ستجد أن هذه الأهازيج ليست بالبعيدة عن أهازيج المطر في مدن العراق، فقد تشابهت هي الأخرى، في بعض كلماتها، وذلك رغم وجود بعض التحوير في كلماتها، من منطقة إلى أخرى، ومن أبرز ما كان يردده أطفال العراق قديماً، في ذلك الخصوص:
«مطر.. مطر عاصي
بلل شعر راسي
راسي بالمدينة
ياكل حبة وتينه».
في بيوت الوطن الكبير
لم تكن أهازيج المطر فقط في التراث الخليجي، وإنما انتشرت في المنطقة العربية، ولكن مع اختلافات واضحة بين الدول في طريقة تناول هذه الأنشودة، وأيضاً في أسلوب تلحينها وطقوسها، ففي مصر درج الأطفال، كلما رؤوا نزول المطر، على ترديد أنشودة طويلة يقول مطلعها:
«يا مطرة رخي رخي
على قرعة بنت أختي
بنت أختي عاوزة تفرح
والفرحة ف أرض بعيدة
ريح الحزن فيها شديدة
وفقلبها دايما تجرح
يا مطرة رخي رخي
علي زرعة عم حسين
عم حسين عاوز ياكل
نام على خشبه المتاكل
كان نفسه يصلب طوله
وحبل حنينه المترخي...».
ويحفل التراث المصري بأنشودة أخرى، ربطها البعض مع موسم الأمطار، في حين أنه هناك من كان يرددها مع الأصدقاء في حلقة للعب، وتقول كلماتها:
«العنكبوت النونو
طلع فوق السطح
نزلت المطرة
نزلته تحت
طلعت الشمس
نشفت المطرة
والعنكبوت النونو
طلع تاني فوق».
أطفال الشام.. أهازيجهم غنية
تراث منطقة بلاد الشام في ما يخص موسم الأمطار يعتبر موسمه غنياً جداً بأهازيج المطر، ولعل أكثرها تلك التي جدت في التراث الفلسطيني، إذ كان لكل أنشودة مناسباتها، فهناك ما كان يقال طلباً لنزول المطر، وهي التي أطلق عليها تسمية «شوربنه»، وهناك الأهازيج التي كانت تردد فرحاً بنزول المطر، وقد ورد في التراث الفلسطيني، أنه في حالة تأخر نزول المطر، كان الأطفال يجتمعون في الأزقة ويرددون:
«يا ربنا يا ربنا واحنا الزغار ويش ذنبنا
طلبنا الخبز من إمنا ضربتنا على تمـنا
يا ربنا ما هو بطر تعجل علينا بالمطر
يا ربي بل الشرموح
واحنا تحتك وين نروح».
وفي بعض القرى الفلسطينية، كان الرجال، إذا انحبس المطر وتأخر سقوطه، يذهبون إلى مقام أحد الأولياء ويقيمون فيه صلاة الاستسقاء. وأما النساء فكن يخرجن في المساء، ويلحق بهن الأطفال، فتحمل إحداهن طاحونة «الرحه» على رأسها، وهي تضع في يدها شيئاً من الفول اليابس، ومن ثم تقوم بطحنه أثناء سيرها، وهذا بينما تحمل امرأة أخرى، ديكاً وتقوم بضربه بين الحين والآخر فيصيح، وتردد النسوة أثناء ذلك:
«يا ديك يا بوق قنبره
عليش طلقت المره
يا ديك يابو عرف ازرق
يا ريتك في الميه تغرق
يا أم الغيث غيثينا بلي شيبة راعينا
راعينا حسن الأقرع لا بشبع ولا بقنع
راحت أم الغيث تجيب الرعود
ما أجت إلا الزرع طول البلاد
يا رب ما هو بطر بنطلب منك المطر
يا رب ما هو غيه بنطلب منك ميه
يا رب نقطه نقطه تنسقي حلق القطه
يا رب ليش هالطوله أكلنا طحينه الفوله
يا رب ليشه هالكنه أكلنا طحينة كرسنه».
هذه العادة قد تكون قريبة من إحدى العادات المنتشرة عندنا في البحرين منذ القدم عندما تأكل الحوتة القمر فيخرج الرجال والنساء حاملين الهاون ويدقون فيه إلى أن تنفرج الحوتة عن القمر ويعتقدون أنهم أخافوها.
وفي بعض القرى الأخرى، كان الأطفال يجتمعون في المساء في مشهد مقارب، ويحمل كل واحد منهم بيديه حجرين صغيرين ومن ثم يطوفون على بيوت القرية بيتاً بيتاً، ويضربون الحجارة بعضها ببعض، ويرددون أهازيج:
«يا ربي تسقينا الغيث.. يا ربي تسقينا الغيث».
فإذا وقفوا أمام أحد البيوت، يقولون:
«اسقونا يا دار الشيخ
اسقونا يا دار الشيخ
والميه عليكم زيــــخ
والميه عليكم زيـــخ»
وفي المقابل، تختلف هذه الأهازيج لدى الفلسطينيين إذا انهمر المطر بغزارة وروى الأرض، ففي هذه الحالة جرت العادة في الماضي، على أن يجتمع الأطفال في الساحات أو الشوارع الترابية، فيضعوا على رؤوسهم قطعاً من الحصر، أو ألواحاً من التنك، ومن ثم يأخذون بالدوران في الطرقات، وهم يرددون:
«شتي يا دنيا شتي على صلعة ستي
ستي جابت صبي سمته عبد النبي
حطته بالطنجرة طلع صحن مجدره
حطته بالبير طلع راسه كبير».
وحتى إن هذه الأنواع من الأهازيج موجودة في الأمثال الفلسطينية بشكل كثير، مثل: «ألقت الثريا ع الثرى»، «ألقحت الأرض»، «الثرى وصل الصينيه». وكان يتم تداول هذه الأمثال كثيراً، في شهري ديسمبر ويناير، اللذين يكثر فيهما المطر. كنا نتغنى صغاراً عندما تبدو بوادر قدومه ولاشك بأنها تبدأ مع تجمع السحب السوداء في السماء لتنبئ عن قدوم ذلك الجميل المطر.
وتبقى في ذاكرتنا حبات المطر و»البردي» ما يلطف دائماً حرارة الجو طوال العام ونبقى نترقب حضوره ونزفه عريساً إلى بيت محبوبته عله يخفف عنا الكثير من «لواهيب» الصيف الحار والرطوبة التي تعصف بحالنا. والمطر الذي كنا نستذكره ضيفاً نعشق قدومه ونحن صغار.