انهيار الاتحاد السوفيتي..
في ذروة قوته العسكرية
في منتصف السبعينات من القرن الماضي، تمكن الاتحاد السوفيتي، الذي كان يعتبر أحد قطبي العالم آنذاك، من بسط هيمنته على الساحة الدولية بالقوة العسكرية التي كان يمتلكها، وحقق التوازن العسكري الذي كان هو المحرك الوحيد وراء الحرب الباردة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومع هذه الهيمنة العسكرية، بدأ الاتحاد السوفيتي بدعم العديد من حركات الشيوعية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، في مختلف بقاع العالم، من أمريكا اللاتينية مروراً بوسط وشمال أفريقيا وانتهاءً بجنوب القارة الآسيوية؛ حيث قدم المال والسلاح لكل هذه الحركات، ليس حباً فيها ولكن نكاية بعدوها اللدود، أمريكا.
وبسبب هذه القوة الشيوعية المدمرة، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتصعيد غير مسبوق للحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي؛ مما أجبر الطرفين على الدخول في سباق جديد للتسلح، يتمحور حول امتلاك أسلحة الدمار الشامل بشتى صوره ومستوياته.
وبسبب التكاليف المترتبة على مواكبة سباق التسلح وغزو أفغانستان من جهة، وسيطرة التشدد الأيديولوجي على السياسة الخارجية من جهة أخرى؛ بدأ الاقتصاد السوفيتي في التدهور شيئاً فشيئاً، ووصل إلى مرحلة الانهيار مع نهاية الثمانينات؛ وذلك بسبب عدم قدرة الدولة على تنفيذ مشاريع التنمية ودعم الإنتاجية. وما لبث أن تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر من العام 1991، بعد فشل محاولة الانقلاب ضد ميخائيل جورباتشوف. ويرى المحللون أن فشل هذا الانقلاب كان الشرارة التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي؛ بسبب فقدان الشعب الروسي الإيمان بالدولة وانهيار اقتصادها، ووصول مستوى المعيشة فيها إلى أدنى مستوياته.
القوة الناعمة.. الهيمنة
من خلال الحضارة الجاذبة
ومع التطور الحضاري وثورة المعلومات، منذ نهاية الحرب الباردة، تطورت السياسات الدولية وأسلوب إدارة المجتمعات وتحقيق أمنها، من خلال نظريات متعددة أبرزها ما طوره المفكر الأمريكي المعاصر «جوزيف ناي» في كتابه الشهير «القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية»؛ حيث قدم ناي فكراً غير مسبوق لتيار الليبرالية الجديدة مبنياً على تحقيق الأمن القومي للدول، من خلال تطبيق نظرية «الاستقرار بالهيمنة» (Hegemonic Stability)، وهي نظرية أساسها اقتصادي، ولكن طورها البروفيسور «روبرت غيلبين» (Robert Gilpin) ليتم تطبيقها في العلاقات الدولية.
فتحقيق الأمن القومي من خلال «الاستقرار بالهيمنة» يتطلب امتلاك ما يعرفه جوزيف ناي «بالقوة الناعمة» (Soft Power). وامتلاك أي دولة للقوة الناعمة يعني أن لديها قوة ثقافية وحضارية جاذبة، تضيف بعداً ثقافياً وحضارياً لمفهوم الأمن. وهي بالطبع القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر، واستخدمتها في مشروعها المعروف بـ»الفوضى الخلاقة» ضد دول الشرق الأوسط، دون تدخل عسكري مباشر منها. وكانت النتيجة انهيار العديد من الأنظمة الحاكمة في الدول العربية؛ لهشاشة أمنها القومي وعدم استقرارها.
وهذا بالضبط ما حدث للاتحاد السوفيتي عندما نجح في فرض الاستقرار الداخلي عن طريق الهيمنة العسكرية، ولكن نظام الدولة السياسي انتهى؛ بسبب عدم وجود قوة جاذبة ثقافياً ولا حضارياً، كما تتطلبه نظرية الاستقرار بالهيمنة.
الاتفاق النووي الإيراني..
قوة عسكرية مقابل ماذا؟
في خضم الأحداث المتسارعة بعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة دول (5+1)، لابد من ملاحظة البيئة العامة المحيطة بالمجتمع الإيراني من الداخل، وانعكاسات هذه البيئة على مستقبل إيران، وهي في طور تحقيق حلمها القديم المتجدد؛ لتكون القوة المهيمنة في منطقة الخليج العربي أولاً، ومن ثم في إقليم الشرق الأوسط كله.
ويأتي هذا الاتفاق وما سيصاحبه من زيادة في حجم الإنفاق العسكري، في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع الإيراني من سوء أوضاعه وظروفه الاقتصادية التي وصلت لأدنى مستوياتها؛ بسبب تسخير كافة مقدرات الدولة لبناء القوة العسكرية، على حساب المعيشة الكريمة للمواطن الإيراني.
وبحسب التقارير الرسمية الصادرة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإن معدل نسبة البطالة في إيران خلال الفترة من 2001 إلى يوليو 2015 بلغت 11.7%، أما نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2014م فقد بلغت 1.5%، ومعدل حصة الفرد في إيران من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من 2010 إلى 2014 قد بلغت حوالي 5 آلاف دولار، وهي أقل من جميع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالإضافة إلى العراق على الرغم من معاناة هذا البلد العربي من التدخل العسكري الإيراني فيها. أما نسبة التضخم في الاقتصاد الإيراني في عام 2014 فقد بلغت 17%، وهذه النسبة أعلى من نسب معظم الدول الأفريقية!!
تطابقية «كولموغوروف» استراتيجياً.. إيران نحو الانهيار
بعد تحليل البيئة العامة لإيران، وحالة الأوضاع الداخلية للمجتمع ومكوناته، يمكننا الآن تطبيق نظرية «التطابقية» (Superposition) التي طورها عالم الرياضيات الروسي «أندري كولموغوروف» (Andrey Kolmogorov)، عن طريق جمع محصلة المقارنة بين أوضاع الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره، وبين الأوضاع الداخلية في إيران. ومن خلال هذه النظرية يمكن التنبؤ علمياً بمستقبل إيران، إذا لم تبدأ هذه الدولة في التخلص من عقدها التوسعية ومشاريعها الطائفية؛ لتصدير ثورتها حول العالم، كما كان يفعل الاتحاد السوفيتي مع الحركات الشيوعية.
ومن خلال المقارنة العملية، نجد أن التماثل بين الاتحاد السوفيتي والحالة الإيرانية الحالية يتطابق لدرجة كبيرة جداً؛ مما يعطي أول المؤشرات العلمية الرصينة حول قرب نهاية هذا النظام القائم على الإرهاب والتطرف.
ولعل مما يجدر ذكره في هذه الدراسة التحليلية الدالة على قرب نهاية النظام الإيراني هو أن في العام 1991 -وهو العام الذي تفكك فيه الاتحاد السوفيتي كدولة- كان النظام الشيوعي السياسي يمتلك ما مجموعه 45 ألف رأس نووي، حسب إحصاءات الوكالة الدولية للطاقة الذرية!!
ولعل من المفيد في هذا المقام الرجوع إلى ما قاله وزير الدفاع الأمريكي إبان الحرب على فيتنام، والرئيس السابق للبنك الدولي «روبرت ماكنمارا» (Robert McNamara) في كتابه الشهير «جوهر الأمن» (The Essence of Security)، الذي صدر في عام 1968، «الأمن عبارة عن التنمية، ومن دون التنمية لا يمكن أن يوجد أمن»، ويضيف بأن الأمن القومي للدول لا يكمن فقط في القوة العسكرية، بل في تنمية بيئة مستقرة سياسياً واقتصادياً داخل الدولة. وتأتي أهمية هذا الكلام كونه جاء من قائد عسكري، وليس من أكاديمي مرفه، وأشرف على واحدة من أسوأ الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
- المدير التنفيذي لمركز (دراسات)