بعد الهزيمة التي مني بها حزب العمال البريطاني في الانتخابات الأخيرة، والتي تعد الأسوأ على الإطلاق منذ عقود، يسعى زعماء كبار في الحزب إلى ربطه أكثر بتيار الوسط لاستعادة تأييد قطاع من الناخبين، لكن ناشطي الحزب يحتشدون وراء يساري عتيد يرى أن الوقت حان لأن يتخذ الحزب خطاً راديكالياً.
يشهد حزب العمال انقساماً حاداً حول انتخاب زعيم جديد خلفاً لإد ميليباند الذي فشل في مسعاه كمرشح لرئاسة الوزراء لدرجة أن البعض يشك في أن الحزب الذي أنشأ الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية فيب ريطانيا قادر على ان يبقى متماسكاً.
ووجه أعضاء في الحزب من الوزن الثقيل خدموا كوزراء في حكومة توني بلير وجوردون براون في الفترة من 1997 الى 2010 تحذيرات تصل إلى حد الذعر من أن الانحراف إلى اليسار يعني إدخال حزب العمال إلى مرحلة النسيان في الانتخابات القادمة.
لكن مجموعة صاعدة من النشطاء وزعماء النقابات العمالية تقول إن زعماء الوسط الذين قادوا حزب العمال طوال عشرين عاماً خانوا جذوره الأصلية في الانتخابات الأخيرة، وجعلوه يفقد بوصلته بتبنيهم سياسات منافسيهم في حزب المحافظين الحاكم.
ووجدت هذه المجموعة ضالتها في جيريمي كوربين وهو عضو اشتراكي مخضرم في مجلس العموم من دعاة السلام، وليس له أي خبرة في المناصب الوزارية، وليس له نصيب وافر من الحظ كمرشح لزعامة الحزب ورئاسة الوزراء.
تمكن كوربين (66 عاماً) بالكاد أن يجد لنفسه مكاناً في القائمة التي ستطرح للاقتراع لانتخاب زعيم جديد للحزب، لكنه أصبح الآن مفضلاً لدى خبراء استطلاعات الرأي والمراهنين ليهزم وزيرين سابقين في السباق على منصب زعامة حزب العمال حين تعلن نتائج الانتخابات الداخلية في 12 سبتمبر.
ويعكس صعوده نجاح يساريين راديكاليين في دول تمتد من اليونان وحتى إسبانيا استفادوا من غضب الناخبين من تبني أحزاب وسط اليسار الأوروبية لسياسات التقشف منذ الأزمة المالية عام 2008.
أصاب هذا رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي ينتمي إلى حزب المحافظين الحاكم بسعادة غامرة، بل أن صحيفة ديلي تلجراف اليمينية حثت قراءها المحافظين على أن يتحولوا لتأييد حزب العمال ويعطوا أصواتهم لكوربين حتى «يقضوا على الحزب بلا رجعة» بربطه «باشتراكي ملتحٍ ينفر الناخبين» كزعيم جديد للحزب.
جاءت أشد التحذيرات بشكل مباشر من بلير الذي كان رئيس الوزراء العمالي الذي بقي على رأس الحكومة لأطول وقت وأعاد الحزب إلى الحكم بعد 18 عاماً قضاها في المعارضة وفاز في ثلاثة انتخابات متتالية. وتدخل بلير في السباق على الزعامة الشهر الماضي بخطاب دافع فيه عما تركه من إرث وسطي.
لكن استطلاعات الرأي تظهر أن مزيداً من الناشطين العماليين يتفقون مع كوربين الذي قال إن الحزب نفر الناخبين في انتخابات مايو ببرنامج «تقشف خفيف» لا يمثل بديلاً حقيقياً عن سياسات الخفض التي يفضلها كاميرون.
ورغم أن بلير وحلفاءه يقولون إن الفوز في الانتخابات يحدث من الوسط، يرى اليساريون أن المأثورات القديمة لم تعد تفيد. ويشيرون إلى الهزيمة النكراء التي لحقت بحزب العمال في اسكتلندا على يد قوميين صاعدين مناهضين للتقشف فازوا بما وصل إلى 56 مقعداً من بين 59 مقعداً في اسكتلندا بعد أن سيطروا على معاقل يسارية تقليدية لحزب العمال.
معركة الدفاع عن روح الحزب
صعد نجم كوربين في استطلاعات الرأي لأنصار حزب العمال منذ الشهر الماضي حين كان المرشح الوحيد لزعامة الحزب الذي صوت في البرلمان ضد مشروع قانون للرعاية الاجتماعية مقدم من حكومة المحافظين. وقال كوربين إن وظيفة المعارضة هي التصدي للقوانين التي ستزيد الفقر في البلاد.
وترجع معركة الدفاع عن روح الحزب إلى ثمانينات القرن الماضي حين خسر الجناح اليساري في حزب العمال في معركة لصالح المعتدلين بعد هزيمة انتخابية ساحقة عام 1983 على يد بطلة حزب المحافظين مارجريت ثاتشر. ووقتها وصف البرنامج الحزبي اليساري لزعيم حزب العمال مايكلفوت بأنه «أطول مذكرة انتحار في التاريخ». وحين تولى بلير الزعامة بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات دفع الحزب إلى الوسط وتخلى عن فقرة في ميثاق الحزب تدعو إلى «الملكية العامة لوسائل الإنتاج».
ترياق
ورغم نجاحات بلير الانتخابية إلا أن سنوات حكمه خلقت توافقاً غير مريح بينه وبين التيار الرئيسي في حزبه، خاصة بعد قراره غزو العراق عام 2003. والآن أصبح بلير شخصية كريهة بالنسبة لكثيرين من الجناح اليساري للحزب، يسخرون من السلك المهني الذي اتخذه بعد تركه رئاسة الوزراء وتحوله إلى متحدث يلقي الخطب في المآدب ومستشار لحكام مستبدين في الخارج. وقد لا يكون هناك نقيض لبلير أقوى من كوربين النباتي الذي يرتدي سترة غير مهندمة ويستقل حافلة في آخر الليل تقله من مقر عمله في البرلمان إلى بيته. ويقول ديف وورد رئيس نقابة العاملين في قطاع الاتصالات وهو من بين الزعماء النقابيين المؤيدين لكوربين؛ إن حزب العمال أصيب «بفيروس» وكوربين هو الترياق.

(رويترز)