كتب مصطفى قاعود:
يقول المثل الفلسطيني «فوق الموت عصة قبر»، وهو أوضح ما يمكن التعبير عنه حيال قرار الأمم المتحدة رفع مخيم اليرموك من قائمة الأماكن المحاصرة، بعد عجز المنظمة الدولية عن تنفيذ خطة الطوارئ التي أعلنت عنها في شهر أبريل 2015 لإنقاذ المخيم، بعد هجوم تنظيم «داعش»، وبدلاً من تكثيف المساعدات الإنسانية لليرموك توقفت المساعدات نهائياً، رغم التقارير التي أفادت بانسحاب «داعش» من المخيم إلى منطقة الحجر الأسود، فأصبح الناس هناك يتدبرون أمرهم عن طريق تهريب الأغذية من يلدا المجاورة للمخيم وبأسعار باهظة، ليترك المخيم تحت رحمة الحصار وتجار الحروب والأزمات.
شهد المخيم مؤخراً موجة اعتصامات حاشدة جلها من الأطفال والنساء احتجاجاً على توقف المساعدات، وعلى قرار الأمم المتحدة رفع المخيم من قائمة المناطق المحاصرة، حيث قالت شبكة الأنباء الإنسانية «إيرين» إن مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أعلن عن خفض عدد المدنيين المحاصرين في سوريا من «440» ألفاً إلى «422» ألفاً، ما يعني إزالة قرابة «18» ألفاً من القائمة، أي الفلسطينيين المتبقين في اليرموك، علماً أن هناك داخل المخيم من السوريين ثلاثة أضعاف هذا العدد لكنهم غير مستهدفين ببرنامج الإغاثة الدولي، وجاء هذا القرار بعد إخفاق المنظمة الدولية بإيصال أي نوع من المساعدات منذ ثلاثة أشهر، علماً أن المخيم محاصر منذ «760» يوماً، و»828» يوماً بلا كهرباء، و»320» يوماً بلا مياه صالحة للشرب، والمصدر الوحيد للمياه هو الآبار التي يتوقف استخراج الماء منها على توفر الوقود، فيما وثقت حتى الآن «177» ضحية بسبب الجوع، دون الحديث عن شهداء القنص والقصف والحرب بين القوى المتنازعة على السيطرة على المخيم من جهة وبين قوات النظام التي تحاصر المخيم من جهة أخرى.
في ديسمبر 2012 أقحم المخيم بالأزمة السورية، فغادره ما يقارب الـ 90% من سكانه المليون ونصف، وما يقارب 150 ألف من سكانه الفلسطينيين البالغ عددهم 250 ألف، وضعت على أثر ذلك الحواجز وبدأت معاناة الناس تكبر يوماً بعد يوم، من ثم بدأ الحصار الفعلي منتصف 2013، واستمرت معاناة أهالي المخيم حتى يومنا، منذ ذلك الحين دخل المخيم صراع الموت جوعاً بسبب نفاذ كل شيء يمكن أن يبقي الإنسان على قيد الحياة، ثم دخلت بعض المساعدات الشحيحة عن طريق ا?ونروا وبعض الهيئات الخيرية، لتتوقف مجدداً منذ نهاية 2014 وحتى مارس 2015، وفي بداية أبريل 2015 توقفت كلياً بعد الصراع بين أكناف بيت المقدس وتنظيم «داعش»، ومجددا نزحت العائلات من المخيم، وبعد انسحاب «داعش» عاد عدد من أهالي النازحين، ليصبح تعداد السكان في المخيم 3200 عائلة فلسطينية، أي حوالي 10000 آلاف شخص.
وتفيد التقارير الواردة من المخيم عن توقف الإمداد بمادة الخبز منذ نهاية شهر رمضان، وما يدخل للمخيم الآن يأتي عن طريق التهريب، وتباع مادة الطحين التي تدخل لمن يمتلك المال، وهم قلة، حيث نضب المال مع توقف الحياة والعمل، فيما تتفاقم أزمة المياه مع شح الوقود لاستخراج الماء من الآبار، ويتوقف دخول الوقود على الفتح والإغلاق لمعبر يلدا والذي يخضع لسيطرة بعض قوى المعارضة السورية، فيما تغلق قوات النظام المدخل الرئيس للمخيم منذ بداية الحصار، وتغلق «داعش» معبر الحجر الأسود كلياً.
شهد المخيم فترات انفراج جزئية في العام 2014 بعد سلسلة اتفاقات للتهدئة، كانت تنجح مرة وتفشل مرات، وبموجبها تمكنت الهيئة الوطنية الفلسطينية من تنفيذ برنامج السلال الغذائية بالتعاون مع الأونروا ومنظمة التحرير والحملة الأوروبية، حيث كان يعمل جزءاً من الهيئة خارج المخيم وجزءاً آخر داخل المخيم لتنظيم عملية التوزيع التي لم تكن تغطي الجميع، لذا اعتمد على تنظيم العملية من قبل الهيئة داخل المخيم، واستمرت هذه العملية ولو بوتيرة بطيئة لا تفي بالحاجة إلى حين هجوم تنظيم «داعش» على المخيم واشتباكه مع أكناف بيت المقدس في شهر أبريل 2015، وانتهت الأزمة بانسحاب «داعش» لمنطقة الحجر الأسود وتسليم مواقعها لجبهة النصرة، أدى لتوقف عمل الهيئة واقتصاره على توزيع السلال الغذائية لمن يتمكن من الوصول إلى منطقة يلدا، وعلى إثر ذلك أصدر مجلس الأمن قراراً يقضي بوضع خطة طوارئ لإنقاذ المخيم وتقديم مساعدات غذائية عاجلة إلا أن شيئاً لم ينفذ.
يعيش المخيم اليوم كارثة حقيقية على مستوى الخدمات الصحية، حيث تضرر بشكل كبير كل من مستشفى فلسطين والباسل اللذين يقدمان خدمات صحية، وبعد توقف عمل الهيئة الوطنية والهلال الأحمر الفلسطيني توقف إمدادهما بالأدوية والمعدات، حيث توفيت قبل أيام الطفلة فاطمة حسين بسبب نقص العناية الطبية والأدوية، وسجل قبلها العديد من الحالات، وبدأت تتفشى في المخيم العديد من الأمراض السارية والمعدية، مثل الحمى والتيفوئيد، والتهاب الكبد A بسبب المياه الملوثة والرعب الذي يصيب الأطفال جراء القصف والاشتباكات، حيث نشرت العديد من الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال مصابين بالمرض، ويزداد الأمر سوءاً مع استمرار عمليات اغتيال نشطاء العمل الإغاثي، حيث اغتيل مؤخراً الناشط الإغاثي المهندس إياد أيوب ومن قبله العشرات من نشطاء العمل الإغاثي.
تلقي أزمة مخيم اليرموك خاصة، ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا عموماً، بظلالها على مجمل الحالة الفلسطينية، وخصوصاً على فلسطيني سوريا الذين وصلوا إلى أوروبا، حيث يشعر هؤلاء بخيبة أمل كبيرة جراء عجز المؤسسة السياسية الفلسطينية المنقسمة على ذاتها في إيجاد حلول للمخيمات في سوريا، خاصة أن هذه المخيمات عموماً، كانت تشكل الرديف الكفاحي والجماهيري للعمل الوطني الفلسطيني في الشتات منذ نكبة عام 1948.
جدير بالذكر أن مخيم اليرموك المسمى كان بمثابة مدينة صغيرة جنوب العاصمة دمشق، وكان له الأثر الكبير في صناعة الرأي العام الفلسطيني في مجمل القضايا الوطنية، ويحوي نسبة كبيرة من المتعلمين والخريجين الجامعيين والأكاديميين، وكان يعج بالحياة ويردف الحياة الثقافية والاجتماعية والمهنية في دمشق وعموم سوريا، بل كان يمد العديد من الدول العربية بالكفاءات والخبرات المهنية من معلمين وأطباء ومهندسين وخبراء، حتى اللحظة لا يستطيع من عايش تجربة اليرموك أن يسلم بهذه النهاية المأساوية للمخيم، الذي سيترك تفكيكه أثراً كبيراً على القضية الفلسطينية، خاصة حق العودة.